هيثم حسين

يظهر الروائي البوسني فاروق شهيتش في روايته "التدفق الهادئ لنهر أونا" وقائع ومفارقات توحي أن الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة قد يبرر كل أنواع الهجمات، ويتحدث عن انعدام الإنسانية في الحروب، ولا يكون هناك أي مجال لها بحسب ما يوقن ضحاياها.

يدون الروائي في عمله (الدار العربية للعلوم ناشرون، بترجمة ماجد حامد، بيروت، 2018) حياة أولئك الناس الذين عاشوا تلك أجواء الحرب والرعب الحزينة بمخاوفهم وآمالهم وتحررهم بقلم شاهد عيان من قدامى المحاربين في الحرب البوسنية.

يشدد شهيتش على دور الذاكرة في استعادة الذكريات الأليمة التي حفرت عميقاً في وجدان أصحابها، وكيف أن النسيان أحد أوجه الذاكرة، والهوة السرية، والوجه الآخر للعملة، بحسب تعبير بورخيس الذي يمهّد به لروايته، بالإضافة إلى تعبير جيفري هاردمان الذي يصدر به، ويقول: إن العقل ينسى، ولكن الآثار الجسدية تحتفظ بالنتيجة، فالجسد النازف متحف التاريخ.

ألوان وألواح:

يغوص شهيتش عبر اثنين وأربعين فصلاً في خبايا الحياة في بلاده التي شهدت حرباً مدمرة أفرزت آثاراً خطيرة على الضحايا الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة محنة الواقع والتاريخ، وحاولوا الاستبسال لمقاومة الوهن الذي يتخلل أرواحهم، ويبقيهم أسرى أوجاعهم المتجددة التي تتدفق بدورها ذكريات مؤسفة وأخرى باعثة على أمل مخبوء بين ثناياها.

يستهل بالحديث عن التنويم المغناطيسي الذي يكون وسيلة لتظهير اعترافات مصطفى هوسار وسوقها، وإن كانت توحد عدداً من الشخصيات في شخصية واحدة، شخصية المحارب الناجي من الحرب، المثقل بأعبائها وفجائعها، يواجه بوح بطله وإسراره أنه أحياناً لا يكون نفسه، بل يكون غارغانو، ذاك الآخر هو الأنا الحقيقي بالنسبة له، وليد الظل، وليد الماء، الأزرق الهش الذي ليست بيده حيلة، يخاطب القارئ المفترض أن يسأله عن أي شيء يريده، إلى عن هويته، لأن هذا السؤال يثير فيه الذعر. يقول إنه يستطيع إخباره عن ذاكرته، عن عالم المادة الصلبة الذي يتبخر تدريجياً لتصبح الذاكرة آخر مقومات شخصيته التي تبخرت كلياً.

يعترف أن ذكرياته قبيحة وتفوح منها رائحة نتنة، ويشعر بالقرف عندما يتعين عليه التحدث ووصف الوضع في يوغوسلافيا في بداية الحرب. وكيف كان هناك جو من القسوة يسود في مجمل تفاصيل الحياة، من المدرسة إلى البيت، وفي الشوارع التي تمتلئ برائحة العنف التي تفوح من كل الممارسات والتصرفات.  

يتحدث عن سيادة القسوة وتفشيها لدرجة أنها انتقلت من البشر إلى البناء بحد ذاته بما يشبه التماهي بين البشر والحجر، وكانت الأروقة المطلية باللون الرمادي أقرب إلى الزنازين منه للأروقة المدرسية، أما ألواح الكتابة السوداء المائلة إلى الرمادي بفعل بقايا الطبشور المزال بالماء والإسفنج، فقد أوحت لهم بعصور الظلمة لا بعصور العلم والنور.

يعترف بأسى أن الذكريات التي تجتاحه تكون قبيحة لدرجة أنها توقف نفسها بنفسها، كل شيء يتذكره يجعله غير راغب بمتابعة سرد القصة، يرى روث حصان يتبخر على طريق تيتو المعبد، يسمع وقع حوافر الحصان المتواتر الكئيب الذي يثير أعصابه، يرى كل شيء ملوناً بألوان زاهية لكنه يشعر بأنه حينها يخون أمنيته لأجل رؤية متصلبة عن الماضي.

يتذكر الجنازات اللامنتهية وأبواق وطبول الفرقة النحاسية تصب ألحان الحداد، والعرق يدغدغ ظهره من مشاهدة المسيرات، يرى تابوتاً فيه جثة معلمه، وآخر فيه جثة خالته الكبرى، ويبوح لنفسه أن القرف الذي يشعر به قد يأخذ شكلاً من أشكال الدين، لكنه لا يريد أن يسلم نفسه للكره، ويؤكد أن ذلك سيكون تصرفاً رخيصاً وبعيداً عن ذوقه.

يروي أن جدار برلين تحطم فوق رؤوسهم، فأصبح سفك الدماء في مكان ما أمراً لا فكاك منه، إلا أنه لم يكن مسنناً صغيراً يعمل وفق القوى الكونية، بل كان إنساناً حقيقياً بشخصية مكتملة، وكان لديه مهمة خاصة ووحيدة، وهي أن ينجو بجسده.. ويلفت إلى أن محللي النصوص يواجهون صعوبة في استيعاب مفهوم الصراع من أجل البقاء، لأنهم يحبون تبادل التعبيرات المجازية المبهمة بهدف شرح حالته في ظل أحداث عالمية ذات تأثير كبير، ويقر أن الأحداث اللاحقة التي يستحيل أن تفسر الطوفان، نهر الدماء ذاك واللامبالاة وصوت الدبابات المرعب.  

الذاكرة والظلام:

يتحدث هوسار عن سيرته الذاتية، وأنه قتل كثيراً من الرجال، يبرر ذلك أنه عندما تضغط على الزناد تزول كل مخاوفك، وأنه ليس من الضروري أن تسلك الطلقة مسارها المحدد، لكن بعضها يفعل ذلك بدقة، ويجد أنه عندما يطلق المرء النار يكون بخفة الريشة، ويمكن لمتعة ذلك أن تجعله يحلق في الهواء لبرهة، لكنه في الحقيقة يكون مستلقياً على بطنه يواجه التراب الرطب، والعشب الممسد وأوراق الأشجار المبتلة لأن هذا ما تأمره به غريزته.

يصف نفسه بأنه شاعر ومحارب، وسراً ناسك صوفي وشخص مقدس على حد قول بودلير، وأنه قتل على أرض المعركة الأشخاص ذوي الأسماء المنسية، وفي جميع المناخات، ويقر أن تأثير القتل يشبه تأثير مخدر يسقط المرء أرضاً، ثم يعود ليرفعه مجدداً بلمح البصر، وعندما يرتفع يشعر وكأنه فوق العالم أجمع، وأنه حول الأجسام الحية إلى أشباح مثل اليراعات في الظلام. ويصرح أنه لا يشعر بتأنيب الضمير أبداً لأنه يخيل إليه أن أولئك الرجال ليسوا سوى صور شخصية قصت رؤوسهم منها، وإنهم بعد فترة سيغادرون ذاكرته إلى الظلام.

يقول إنه قتل لأنه أراد النجاة من الفوضى، ولم يكن على علم بطريقة أخرى لفعل ذلك، ولم يسمح له كبرياؤه بأن يقضي الحرب في الصفوف لخلفية للجيش، وأن هناك مَن قام بطريقة مختلفة عنه، قاموا بالدعاء كي لا يصابوا لأنهم مفعمون بالحياة والقوة، وأرهقهم أنهم يمكن أن يقتلوا هناك، وينوه إلى أن الخوف من العيش مع كل تلك الطاقة الرهيبة فيهم وعدم معرفتهم كيفية التصرف بها جعلهم يتقدمون دون أن يهابوا وجهتهم وعيونهم مفتوحة وقلوبهم نقية، كان عليهم أن يتقدموا ويهاجموا لأن حياتهم كانت على هذا النحو؛ يصفها بأنها كانت حياة هائلة وأكبر من الموت، لكنه كان هادئاً وعلى دراية بما يفعل.

يعبر عن شعوره بالغربة وسط بلدته عندما أدرك أنهم ليسوا جميعاً إخوة وأخوات، ليس لأنه لم يرد أن يكونوا كذلك، بل لأنه لم يكن هناك وفاق بين الصرب والكروات، هذا دون أن يأتي على ذكر ما يصفها بالمواقف السخيفة التي حصلت أثناء خدمته الإلزامية العسكرية في الجيش اليوغوسلافي حين كان عليه أن يعرف عن أصوله، بما أنه انحدر من عائلة بوسنية الجنسية، حاول الصرب والكروات أن يقنعوه بأن يكتب بوسني مسلم، لأنه وكما قالوا، لا وجود للشعب اليوغوسلافي.

يحكي أن على المرء ألا يشعر بالدوران من مشاهدة نهر جار، وأنه إذا بدأ بالتكلم عن شيء ما فسرعان ما سيتفكك حبل الأفكار في رأسه لأن الماء سيستحوذ عليه، وستنسى الكلمات التي كان ينوي قولها، وستدور في رأسه أغنية توصي بالاستمتاع بالصمت لفرقة محلية. ويؤكد أنهم استمتعوا بمشاهدة سطح نهر أونا يجري تارة ببطء وتارة بسرعة باعثاً السلام في النفوس، وتجنبوا ذكريات سريتهم في الجيش لأنه لم يكن لديهم وقت للأمزجة المتعكرة التي تعود لحقبة النظام القديم، التي ستبقى معلقة فوقهم مثل الروح المعلقة.

يكون نهر أونا وضفافه ملجأ الراوي وحصنه النباتي المنيع، يختبئ هناك تحت أغصان الأشجار من الناس، وحيداً في الصمت تحيط به الطبيعة الخضراء، كل ما استطاع سماعه كان صوت ضربات قلبه وصوت أجنحة الذباب وصوت الماء عندما تركي سمكة ما بنفسها خارج الماء وتعود إليه. ويصرح كذلك أنه لا يكره الناس لكنه يشعر بحال أفضل بين النباتات والحيوانات البرية، وبأنه بعد أن يدخل إلى مخبئه النهري، لا يمكن لشيء سيئ أن يحدث.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم