هيثم حسين

يبني الإيرلندي جيمس جويس (1882 - 1941) روايته "الأموات" انطلاقاً من سيرته الذاتية، وعلاقته مع زوجته نورا، حيث يختار شخصية غابرييل كونروي وزوجته غريتا، وعودتهما في أمسية عيد الميلاد إلى بيت خالتي غابرييل اللتين تقيمان حفلاً سنوياً تجمعان فيه الأهل والأصدقاء والأقارب.

يصور جويس في روايته (منشورات مسكيلياني، ترجمة عبد المجيد مجذوب، تونس 2019) إعداد عشاء فاخر في منزل على جزيرة آشر الإيرلندية بعد فترة قصيرة من دخول القرن العشرين. الأختان المسنتان كيت وجوليا موركان صاحبتا الدعوة، ومعهما ماري جين ابنة أخيهما، وهناك جماعة من الأصدقاء والمقربين ضيوفهن في عيد الميلاد، حيث الثلج يتساقط في جميع أنحاء البلاد، يالموازاة مع شعور طاغٍ بحضور أشباح الراحلين والجائعين على طول إيرلندا وعرضها.

براءة طاغية:

يكون شبح الجوع العظيم الذي دمر الفقراء في إيرلندا بين عامي 1845 و1850 حاضراً بقوة لدى جويس، وراسماً لتفاصيل السهرة التي تمثل مختلف تناقضات المجتمع الرأسمالي الذي كان يتشكل بطريقة جارفة تحطم القواعد الكلاسيكية السابقة وتخلق أنماطاً اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة.

يحكي كيف أن لآنسة كيت والآنسة جوليا موركان، اللتين انتقلتا إلى الجزيرة قبل ثلاثين عاماً، عاشتا حياة بسيطة، وحرصتا على التنعم بالأكل الجيد وتوفير الأفضل من كل شيء، وكان ليلي ابنة القيم تضطبع بمهام الخادمة لهما، وتقوم باستقبال الضيوف وتلبية طلباتهم. ويشير إلى أنّ ماري جين كانت تتمتع بموهبة موسيقة خاصة، واعتادت خالتها كيت تسميتها العقل الخاص بعائلة موركان، وكثيراً ما أبدت الخالتان فخرهما بها وبجديتها ووقارها.

يصور صاحب "عوليس" عدة شخصيات، منها ما هو ذو نمط تقليدي، ومنها ما هو مختلف، ومن هذه الشخصيات غابرييل ابن أخ كيت وجوليا، وهنك السيد براون الذي يصف نفسه بأنه الفارس الراعي للسيدات، ويتباهى أن السر يكمن في غرامهن الشديد به، بسحب ما يخبر كيت وجوليا. وهناك فريدي مالينس الذي يكون برفقة غابرييل، وهو في العقد الرابع من عمره، ملامحه خشنة، وشعره خفيف أشعث، يقهقه بنبرة حادة تفاعلاً مع كل قصة يفرغ من روايتها لغابرييل، بالإضافة إلى كيلكلي وكاثلين كيرني والآنسة إيفورز، السيدة كونروي، الآنسة دالي..

يثير جويس السجال عن واقع رفض شريحة من الإيرلنديين للحكم الملكي البريطاني، وكيف أن المعارضة كانت تنتشر بين الإيرلنديين، من ذلك مثلاً المشهد الذي يتفاجأ فيه غابرييل حين تسأله الآنسة إيفورز عن "غ. ك" الذي يكتب مقالات لصحيفة ديلي إكسبريس، وتقول له متعجبة يا للبراءة الطاغية، وأنها اكتشفت بأنه يكتب للصحيفة المؤيدة لبريطانيا، وتسأله ألا يخجل من نفسه.

يصف كيف ظهرت حيرة على وجه غابرييل، وأنه كان يكتب عموداً أدبياً في الصحيفة ويتقاضى عليه مكافأة، وأن ذلك لا يجعل منه بريتونياً غربياً، وهو التعبير الذي كان يستعمله الوطنيون الإيرلنديون لازدراء الإيرلنديين الموالين لبريطانيا حين الحديث عنهم. ويعبر أنه كان يسعد بالكتب التي يتلقاها لكتابة عروض عنها أكثر من سعادته بالشيك الزهيد، وأنه أحب تحسس الأغلفة وتقليب صفحات الكتب المطبوعة حديثاً، ودأب في كل يوم تقريباً أن يسمح الأرصفة باتجاه بائعي الكتب المطبوعة حديثاً.

لم يدر غابرييل كيف يواجه اتهام الآنسة إيفورز، أراد أن يقول لها إن الأدب فوق السياسة، لكنهما كانا صديقين لسنوات وكانت حياتاهما المهنيتان تمضيان بالتوازي، في الجامعة وفي التدريس، ولم يستطع المخاطرة معها بعبارة مبالغ فيها، فاستمر يطرف عينيه محاولاً الابتسام ثم غمغم على نحو متقطع أنه لم ير شيئاً سياسياً في كتابة عروض عن الكتب.

ذكريات حية:

يحكي أن الآنسة إيفورز تتمادى في إحراج غابرييل، تبدو متحمسة للغاية، ولا تكترث لاختيار الوقت المناسب، ويجيبها بدوره بطريقته، وبانفعال، ويستدرك أنه ما كان عليه أن يجيبها بتلك الطريقة، وأن ذلك لا يمحنها الحق في وصفه بالبريتوني الغربي أمام الناس، حتى على سبيل المزاح، ويشعر بأنها حاولت أن تجعله يبدو سخيفاً أمام الآخرين، وهي تعتصره بأسئلتها محدقة فيه بعينيها الشبيهتين بعيني الأرنب.

يشيد جويس على لسان غابرييل بالجيل السابق، وملمحاً إلى الآنسة إيفورز التي أحرجته بطريقتها اللاذعة، يشبر إلى أنه ربما كان للجيل الذي بدأ في الأفول ما ارتكبه من أخطاء، لكنه يعتقد أن لديه خصالاً معينة تميزه، كالضيافة والحصافة والإنسانية، وهي خصال يفتقدها على ما يبدو الجيل الجديد، الجاد جداً، المثقف للغاية، ذلك الذي ينمو من حولهم.

كما يش بالعادات الإيرلندية بالضيافة، وأنه في كل عام جديد يتفاقم شعوره بأنه ليس لبده من عرف جدير بأن يكلله بالشرف مثل عرف حسن الضيافة، وهو ما يستدعي المحافظة عليه بحرص شديد، وإنه عرف خاص بهم دون سائر الأمم الحديثة على ما يبدو له من محصلة تجاربه، ويؤكد على أن عرف الضيافة الإيرلندية الذي ورثوه عن أجدادهم، ومن واجبهم أن يورثوه لأبنائهم، سيظل حياً بينهم.

بعد انتهاء الأمسية، وانتقال غابرييل إلى الفندق في اليوم التالي مع زوجته غريتا، شعر بالمهانة لفشل سخريته على أحدهم في الفندق، ولاستحضار ذكرى شخص من بين الأموات، ذكرى فتى كان يعمل في مصنع الغاز، وبينما استغرق في ذكريات حياتهما الحميمة، تلك الذكريات المفعمة بالرقة والفرح والرغبة، كانت غريتا تقارنه في ذهنها بشخص آخر أحبته اسمه مايكل فيوري تظن أنه مات من أجلها.

يسيطر رعب مبهم على غابرييل إثر إجابة غريتا، وكأنه لحظة أمل بالانتصار فام كائن ما غير مرئي وحقود بحشد قوى عالمه الغامض ضده، لكنه واجه ذلك بتحكيم العقل واستمر بالتربيت على يدها دون طرح أسئلة أخرى لشعوره بأنها سوف تتحدث من تلقاء نفسها.

تخبر غريتا زوجها أن الفتى الذي أحبها قضى من أجلها، وأنه حين سمع بأنها ستسافر إلى دبلن، قصد البيت الذي كانت تقيم فيه مع الراهبات، وظل واقفاً تحت المطر لساعات، وكان مريضاً، ورفض أن يبارح مكانه، وكان متعلقاً بها بشدة، وحين طلبت منه أن يغادر ويستريح، ظنت أنه سيكون بخير، لكنها سمعت بعد أسبوع أنه مات.

يظل شبح العاشق الميت حاضراً في العلاقة بين غابرييل وغريتا التي تجتاحها ذكريات حبه لها، وتفانيه من أجلها، وإصراره على رؤيتها والقرب منها، وإن كلفه ذلك حياته، كأن الأقدار كانت رسمت له درباً آخر حرمه منها، وأبقته حسرة في قلبها بعد سنوات من تلك الحادثة التي زلت مستعرة في وجدانها وقلبها.

يقول الناقد والمخرج السينمائي تشارلز موديدي عن الرواية إن الأموات هم أشباح البشر الذين ينامون في الشوارع، الأشباح الذين يُبعدون عن المدن الغنية إلى أمكنة أكثر فقراً، وهي الطريقة ذاتها التي تم بها فرض اليأس والجوع والتشرد على عصرنا الحالي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم