اعتدال عثمان

يوظف نبيل سليمان في روايته الأخيرة " تاريخ العيون المطفأة" (2019) خبراته الروائية المتراكمة، وثقافته الموسوعية فيقدم نصا مركبا، يرتكن إلى متخيل رحيب، مطلق السراح، بغير قيود أو حدود سوى ما ينتظم النص من خلاله في وحدة بنائية متشعبة، بينما يحيل إلى عالم مرجعي واقعي، هو الحاضر العربي بمآسيه الراهنة.

يتخذ المؤلف مجاز العمى كحيلة سردية حيث يتوالد هذا المجاز المرسل، غير المقيد بعلاقة واحدة يشير إليها اللفظ، فيصبح هنا مجازا مكتنزا بالدلالات والإيحاءات والمشتقات، ومنطلقا للعب خيالي، جاد ومهموم وساخر وحزين، كما يصبح هو القاسم المشترك الأكبر بين الشخوص الروائية الذين يتأرجحون بين المستويين الحقيقي والمجازي/ الرمزي لفقدان جزئي للبصر، والعماء التام للبصر والبصيرة معا.

يدور الحدث في ثلاث مدن متخيلة، تعكس أحوال كثير من المدن العربية، هي: "كمبا"، و"برشمس"، و"قمورين"، يهدد أهلها وباء العمى، فيعيشون واقعا مدمرا، على شفا الانهيار.

المفارقة هنا أن هذا الخراب الذي يحل بالمدن الثلاث " من صنع أيدي أهلها"، فقد " حباها الله من نعمه، وأنعمت عليها الطبيعة من آلائها"، لكنهم لم يحفظوا النعمة، فأصابتهم اللعنة، وأصبحت بلادا "انقلب فيها الأخ على أخيه، والابن على أبيه، والحفيد على جده."

ثمة أيضا نزوع سياسي واضح في الرواية، لا تخطئه عين القارئ، وإن كان مموها بالخيال والفانتازيا، لكنه يكشف تاريخا غادرته الرؤية بين تعسف السلطات الحاكمة، واستسلام الناس أو احتجاجهم المقموع، كما تتجلى في السرد أمثلة متعددة على تضارب المقولات الجامعة بين نقيضين، فمثلا حدث المظاهرات التي اجتاحت المدن الثلاث المتخيلة تُطلق عليه السلطات الحاكمة صفة "العصيان"، بينما تصفها إحدى وكالات الأنباء العالمية بأنها " معجزات العميان في مواجهة الطغيان".

هذا النزوع السياسي يشكل بؤرة مركزية في النص تجعل المواقف مع السلطة أو ضدها تمثل منظورا شاملا للواقع، وموحيا بالرؤية الكلية للنص، بما يذكر ببعض كتابات نجيب محفوظ مثل " اللص والكلاب" و "ثرثرة فوق النيل"، وغير ذلك في أعمال روائيين عرب مثل غسان كنفاني، وعبد الرحمن منيف، ولطيفة الزيات، ورضوى عاشور، وسلوى بكر، وجمال الغيطاني، ومحمود الورداني، وغيرهم.

ربما يحيل هذا المنظور أيضا إلى رواية جورج أوريل الشهيرة "1984" التي تستشرف "ديستوبيا" واقعية تحققت كثير من تنبؤاتها المستقبلية - وقت كتابتها - في عالمنا الراهن.  كذلك قد يتبين القارئ صلة ما بين" 1984 " في عنوان رواية أورويل و 1948 (تاريخ النكبة الفلسطينية مع استبدال أرقام السنة المعنية) خصوصا وأن فلسطين تمثل علامة نصية مهمة في رواية نبيل سليمان، يتكرر ذكرها في سياق السرد، كما أن الرواية تقع في ثمانية وأربعين فصلا، بينما الزمن الروائي يطوف بالماضي والحاضر معا.

لا بد أن يلاحظ القارئ أيضا أن المتواليات الحكائية تتصدرها في عناوين الفصول كلمة "عين" يليها الرقم المتسلسل الخاص بالفصل مثل "العين الأولى"، و "العين الثانية" ...إلخ، وذلك بالإضافة إلى عناوين فرعية، فنجد على سبيل المثال " العين الثلاثون – الخزي يعمي ويصم ويقطع اللسان" أو " العين الثامنة والأربعون – قلب الظلام" وهكذا. هذه العناوين تشكل علامات نصية تضيء الصفحات التي تتلوها، وتتناول حكايات ومصائر الشخوص المتعددة التي تشارك في بطولة روائية جماعية. وعلى الرغم من اختلاف مشاربهم، وتوجهاتهم السياسية، ومواقفهم الحياتية إلا أنهم جميعا مصابون بالعلة السائدة أو مهددون بها، بينما تحاصرهم الكوابيس، والمخاوف، وعيون السلطة الرقيبة، لذلك فإن علاقاتهم الإنسانية مبتورة ومشوهة ومجهضة، لا تكتمل مثل الرواية التي تكتبها "آسيا"، إحدى الشخصيات الروائية المتمسكة بحق الحرية والحياة ومناهضة وباء العمى والفساد، أيا كان مصدره.

أما علاقات الحب والصداقة والعلاقات الأسرية، فيحكمها أيضا الخوف والتوجس، بينما يدفع الاستسلام لأنواع الفساد، والانخراط فيه بالشخوص الروائية إلى متاهة العمى، خصوصا "مولود" الذي يلعب دورا أساسيا في البطولة الروائية الجماعية في النص، فقد أدى تشوشه، وافتقاد بوصلة الاتساق في عالمه الداخلي إلى خيانة الحبيبة الأولى والثانية، والخضوع للعمالة والتجسس على المعارضين من أصدقائه ومعارفه، فيقع أسيرا للنفس اللوامة، والتمزق بين ما يكنه الضمير الحي، وما يخضع له من وسوسات المنافع وطلب السلامة، وأيضا بسبب الإذلال، والضعف، والعماء المهدد من الجهات الأربع، والذي يودي به إلى نهاية مأساوية باغتياله.

وعلى حين يتسع الفضاء المكاني الذي تتحرك فيه الشخوص الروائية بين المدن الثلاث المتخيلة، وأثينا، وباريس، ومدينة سانتوريني اليونانية الساحلية الساحرة، فإن أماكن اللقاء الحميم بين الأحبة والأصدقاء، ولقاء رجال الأمن والمحققين تتسم بالانغلاق الذي يجثم مكانيا ونفسيا على الجميع، ويفضي إلى اختلال العلاقات الإنسانية في مناخ خانق، ومآل مرصود، سواء نتيجة العمى الفيزيقي أو العمى المعنوي أو كلاهما معا. وعلى الرغم من ذلك كله نجد الشخوص التي تمسكت بمواقفها المبدئية كالقابضين على الجمر حتى النهاية.

تتنوع في الرواية التقنيات السردية بين الوصف، والحوار، والرسائل، واليوميات، وما يشبه التقرير الصحفي، إضافة إلى استعادة الذكريات عبر مجرى الشعور، وبث تأملات فكرية وفلسفية حول الرؤية والرؤيا، والبصر والبصيرة، تأتي معظمها في سياقها السردي المناسب. كذلك تختلط الأحلام بالكوابيس في لعبة سردية تلجأ إلى الفانتازيا، وإلى أنسنة الموجودات، فالسنديانة العتيقة في بيت حميد ماء العينين، وأولاده الذين تفرقوا بين البلاد، تملك مشاعر إنسانية، والبحر يحس بالآلام البشرية، بل إن مجاز العمى - محور السرد في الرواية - ليس  "إلا مثالا على الفانتاستيكية" التي اجتاحت " بلدان العجائب والغرائب والخوارق" على نحو ما يرد في بداية الرواية.

كذلك تتنوع في السرد صيغ الحكي بين المتكلم، والمخاطب، والمروي عنه الغائب، ولعل أهم هذه الصيغ استعارة صوت الراوي الشعبي في مفتتح الرواية، وفي فصول تالية، لكن صيغة الحكي هنا تختلف عن المألوف، إذ يقول الراوي:

"كان لا ما كان، وغير الله ما كان.. كان في حاضر العصر والأوان"

تلفت هذه الصيغة المعدلة - المتكررة عبر النص - نظر القارئ إلى امتزاج الجانب التخييلي بالواقعي الذي يحكم البداية والنهاية والتفاصيل في عملية السرد كلها من ناحية، كما يؤكد من ناحية أخرى صلاحية الصيغة الحكائية القديمة للتعديل، وحق الراوي المعاصر في الإنشاء على منواله هو، ما دام يمتلك رؤية مغايرة، تدفعه إلى النظر إلى الماضي والحاضر - بحمولاتهما السياسية والثقافية والقيمية - من خلال منظور نقدي.

كذلك سينتبه القارئ إلى أنه وسط العيون المطفأة ثمة عين بصيرة، وطاقة إبداعية تقوم بهندسة البناء السردي وفق خطة مصممة بدقة الخبير، العارف، المشارك الذي هو الراوي - قناع المؤلف -  المهموم برصد الظاهر بصورة ساخرة من كل شيىء حتى من الراوي نفسه، إلى جانب تقصي الواقع بفواجعه المعيشية في السياق اليومي، وباضطراباته الزمانية والمكانية والاجتماعية والسياسية، بينما ينخرط هو نفسه فيه، ولا يتعالى عليه، لكنه يمتلك أيضا القدرة الإبداعية لأن يرصد الباطن بعين الخيال الحالم بمستقبل مرتجى، على أساس أن الإبداع لا بد أن يكون نصيرا للحياة ولحرية الإنسان وكرامته.

من بين الابتكارات اللافتة في هذا الجانب التخييلي نجد أن الكاتب يغير من طريقة صوغ العناوين المعتادة لمطلع الرواية ولمتنها ونهايتها، وذلك عن طريق استخدام أداة التشبيه على غير المألوف في مجمل الكتابة الأدبية، فنقرأ: "كالمقدمات"، وبعدها " كالمتون" . وعلى حين توحي هذه اللعبة السردية بأن المكتوب يشبه الواقع، لكنه أيضا ليس حقيقة نهائية، بل إنه مفتوح على احتمالات التفسير والتأويل التي تختلف من قارئ إلى آخر، على حين تأتي النهاية تحت عنوان " كالخواتيم " عبارة عن سطور منقطة دون حروف، بما يعني أنها متروكة لفطنة القارئ بحسب تلقيه للنص.

تقوم بنية الرواية على صور سردية متوالية، تتقصى مسارات الشخوص القصصية في ماضيها وحاضرها، كما ترتكز على التفاعل بين الكتابة الأدبية، والفنون البصرية والسمعية الأخرى، مثل الرسم والسينما والموسيقا والمسلسلات التليفزيونية التي قدمت حياة المكفوفين ببراعة تجسد شخصيات مؤثرة مثل طه حسين، إلى جانب تقمص دور الكفيف والكفيفة في أفلام ومسلسلات شهيرة.

وفي الجانب الأدبي لم يخل الأمر من ذكر أبو العلاء المعري، كما يتناص العمل مع مقتبسات من الشعر العامي، والأمثال، والحكايات الشعبية، ونصوص تراثية مختارة، تتناول بموسوعية مسألة العمى في مظانها المختلفة. ومن الطبيعي أن يتناص السرد أيضا من خلال الحوار مع روائع أدبية عالمية مثل رواية " العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو، وقصة " أرض العميان " للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز (H. G Wells) و المجموعة القصصية “صراع العميان" للتركي عزيز نيسين. ومن الغريب في هذا الصدد أن تفوت الكاتب الإشارة أو التناص أيضا مع كتابات الأرجنتيني خورخي بورخس، لكن بالطبع لا يجوز فرض تصور ما على الكاتب، وإن كان يبدو مبررا من داخل سياق النص.

في تراسل الكتابة الأدبية مع الفن التشكيلي تتداخل المروية الحكائية حول الرسام "لطيف" مع غيرها من المرويات المتوالية، بينما تبرز شخصية هذا الثوري الكفيف الذي يعرف كيف يرسم ألوان البحر بالشم، والذي ترفض لوحاته الاكتمال لأنها آثرت اختيار مبدعها أن تكون حرة في التجاوب مع أعمال رسامين عالميين، عشقوا الحرية وخلدوها في لوحاتهم. كذلك يتردد في تصوير هذا الفنان صدى عبارة الروائي البرتغالي أفونسو كروش التي تأتي في عتبات النص الأولى، وتشير أيضا إلى أن " القصص لا تعيش إلا سائبة في الهواء الطلق."

هكذا ينطلق الخيال الحر على الرغم من القيود، فيضئ العيون المطفأة بنور الفن، والإبداع المبصر البصير.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم