أمين غانم

ربما ألفنا دأب كتاب عالميين وعرب على إعادة سرد الإرث على لسان رموزه، أشبه ببعث سلبي لجوهر حضارات ضاربة، وتفكيك قيمها مجدداً بلسان ابطال ذاويين، وباتت الكتابة الأيسر والأخصب والأوسع انتشاراً، لكن تمرد الفنان هو الفارق بين استدعاء واستدعاء.

عبر إيقاع سريع لسرد حكاية ليست  كتداعي التائبين ولاتشبه خيبة النابشين لخبايا معركة التهمت نيرانها رفاقاً لهم،  تأتي سرير الغجري، رواية لاتنطوي إلا بدفعنا للصمت والتلكؤ، سيرة التداعي لأكثر من معبد وأكثر من صفة ضاربة في الزمن، فليس للحب من عاطفة غير بؤس المجاهرة بميول غير مُثلى، وليس للجواري من مطامع غير تفسخ الرغبة كي يصلن إلى سدة الحكم في إمارة إشبيلية بإعلان الجارية إعتماد ملكة وخليلة للمعتمد بن عباد والذي انتهى حكمه باسره واعتقاله على يد المرابطين في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وباتت ملامح الجريرة كتباشير قادمة من معركة محتدمة..
رواية كتُبت لتدخلنا في تيه الخطيئة، تدفعنا للعبور سراً  لاقتفاء أثر أبطال موغلين فينا بخلود لم ندر به كالعادة، تحوّل جديد في سبر الأشياء وفق جرفها من الجذور ومعاينتها، أشبه برباطة جأش منوط بها شمّ جرح متقيّح تغدو بمرور الوقت لحالة من التماهي بعطن الجسد الآدمي.
هكذا تأتي الدهشة عبر تحلل الرؤية وتفتقها في آن واحد، ومن إنقلاب أبيات الشعر على الوزير والشاعر أبي بكر بن عمار حين تتحول لضرب من وبال فن ألفناه وبشكل مجرد.
تمضي نسرين بلوط في سرد حياة مثلييّ الجنس، تسعى في شق غبار كثيف لتصلنا بشخصياته، شعراء وملوك ووكلاء ملوك، فنانين ورسامين، تسوقنا لملامسة المسكوت عنه حين يجيء على شاكلة الحقائق الفظة، لتبق الدهشة حاضرة وسط كل مايصدمنا، دهشة اليقين بالحقيقة ولو جاء متأخراً يتجلّي الآن بجمالية الإيمان بالخطيئة كأساس وجودي صادم، وكمرجعية مثقوبة تختفي عندها الحاجة لاستلهامها مجدداً.
تلاشي بلاد الأندلس ألفناه بكاءً إسلامياً على حضارة تهتكت على يد أمير غر، لكننا الآن نتفحصها كعظام مسوسة بالشذوذ قبلاً، إمارة اكتضت برغبات متحوّرة ماتنفك تترسخ في الوجدان كتاريخ جُبلنا على إستيعابه برموز خالية من الشك والريبة.
كتابة لاتتكأ على مثلية لوركا والوزير بن عمار وشذوذ سيلفادور دالي والمعتمد بن عباد وغيرهم بل تنحو في بناء موازٍ للجذور السريّة للحضارة عبر الإيعاز بمعرفة جديدة، فإعطاب الوهم بمثابة خلق جديد للوعي بتفاصيل تدفعنا لملامسته بطريقة مختلفة، إحتضان الإرث كمكنونات إنسان غير سوي تظل الوسيلة الناجعة لقراءة الصعود الحضاري وانحداره، ربما لاتبدو ثيمة الرواية كرؤية للعالم من خلال المثلية الجنسية، فالشخصيات تتحرك في زمن لايسمح حتى للوشاية بذلك.

تُرى، ما جدوى سرد جاء على أنقاض تاريخ انقضى، حكاية تفند إرتقاء الحضارة الأوربية على خبايا تُعلن للتو، بيد أنها باتت كفلسفة معاصرة للمجتمع الليبرالي الغربي؟!
ليس ثمة من تردّ سوى تحول الفن وتبدله، فحينما تتجلُى تعاسة الإنسان ونكوصه في زمن من الأزمنة يتحتم على الفنان سبر عصب المحتمع وتركيبته، عبر رؤى متباينة، لكن الشيء الأنكى حين يجيء الإبداع كمفارقة مشينة بين شخص الفنان وريشتة، بين قصيدة الشاعر وسلوكه، مفارقة تعيدنا لفلسفة نيتشة المتمحورة حول معدن المبدع أو أيّ من رموز التغيير والإصلاح وأصولهما النقية في وسط مثخن بالفنون والبطولات بيد أنه يفتقر كثيراً للسلالة المنوط بها تغيير جذري للأمة والبشرية، رغم أن الفن ماينفك ينبت ويتفتق على تربة المفارقات، أشبه بغاية لسد نقص الفنان نفسه قبل ان يكن حاجة لملء المساحة الرخوة والمريبة لأي حضارة لاسيما غير المتزنة، هكذا تتجلى ثيمة الرواية الغير منظورة، كمحاولة لخلخلة التماسك الصوري لتلك التربة وتركها للعابر، إمّا أن يعيد مواراة الجذور السوداء او يواصل التمحيص والتدقيق عن المزيد من التفاصيل الباهتة في لوحة نفيسة مهترئة.

الكاتبة ربما سعت لاستقطاب تلصص القارئ عبر نكء ذاكرة مثقلة بالزلّات لكنها سارعت لمغادرة شرنقة مثلييّ الجنس بملامسة وجدان إنساني خالص عبر تغلغلها في لحظات لا تنشد سوى رتق هوان إنساني متأصل.

استعانت نسرين بلوط بشخصية لوركا شاعر أسبانيا في القرن العشرين ليكتب رواية وزير وشاعر ملك الطوائف المعتمد بن عباد، وكأن شخصية فرانكو جاءت لتختزل الزمن وتذيبه ضمن توظيف يرتأي تقريب زاوية الرؤية ودمجها في بعد جنسي واحد، وباتت شخصيتي لوركا وأبو بكر بن عمار كمرآتين متقابلتين تعريان بعضاً  ممانشأ وعلق، بعضاً مما خبا وتألق بينهما، سواء سقوط الحضارة الإسلامية أو بزوغ شمس الحضارة الاوربية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم