أحمد السماري

رواية كُتِبت وفق السّلم الخاصّ بالآلات الموسيقية كالبيانو. وقد ضَبط كاتبها الجزائري الشاب سعيد خطيبي نوتاتِها ليعزفَ لحناً متعدّد الأصوات لكنه متناغمٌ لا نشاز فيه ما بين صوتٍ وآخر. تنتقل أحداث الرواية وفصولها، في ذات الوقت، من الجزائر إلى سراييفو، ثمّ إلى ليوبليانا، فسراييفو، إلى أن تنتهي وصلة العزف في الجزائر أخيراً.

تمزج الرواية بين حكايتين في رقعة جغرافية بعيدة ومختلفة، لكنها متقاربة من حيث الهواجس والطموح، حيث تلتقي المآسي والجروح وتتقاطع الآلام والأحزان، وتلتقي المشاكل الإنسانية رغم البعد المكاني والزماني، وذلك في بحثهما الشاق عن الأمن ونسيان الحرب والدمار، والرغبة في تأسيس حياة جديدة لهما.

تعتمد هذه الرواية على تقنية السرد الدائري، فليست هناك أنساق مستقيمة تتصاعد على وفق الأحداث، فثمة ارتجاعات متعددة تعود بنا إلى الحرب العالمية الثانية، وإلى حرب التحرير في الجزائر في خمسينات القرن الماضي، لكن الحاضر يهيمن على مدار الرواية، ويرصد الوقائع التي تحفّ بالبطَلين سليم وإيفانا، وما يصادفانه من أحداث تنطوي على الكثير من الغرابة والترويع. من خلال هذه الرّواية يبدو كأنّ ما حصل في الجزائر وسراييفو وجهان لحرب واحدة، باعدت بينهما الجغرافيا غير أنّ الحرب وفظائعها جعلتهما توأم بعضيهما زمنيًا في المعاناة والقدر غير المحسوب؛

" كانت سراييفو أختًا لليوبليانا في سنوات العزّ، ثم صارت أختًا للجزائر في سنوات السّقوط. ويصعب على من يعيش في أمن أن يتخيّل حياة من يعيش في خوف."

حكاية درامية تناولها سعيد خطيبي بلغة بسيطة التّعابير، سهلة الأسلوب، لا هي لغة حب ولا هي لغة حرب، بطعم الغضب تارة وتارة بمرارة الإحباط، ملفوفة في جمل قصيرة تختزل ما يُحكى في مجلّدات وأخرى شبه طويلة لكنها لا تقطع النَّفَسْ. لغةٌ هادئة وأسلوب شيّق جعلا من "حطب سراييفو" رواية موفّقة، وأثبتت بأنّ مؤلفها وهو ينسجها بأسلوبه المختلف، عملاً مميزاً بمنعطفٍ سردي مغاير يُحسب له. تستحق حسب رأيي الجائزة الكبرى.

وصلت الرواية إلى القائمة القصير للبوكر العربية ٢٠٢٠م.

مقتطفات من الرواية:

- “نجوت من الموت، وخرجت من حبس، ظننت أنني سأمكث فيه سنوات طوالا. أزهقت روحًا، والتحقت بالقتلة، ثمّ تعثّرت، وتخيّلت أنني لن أقف على رجليّ، من جديد. شعرت بأن عمري يتبخر، ببطء، ولن أحقّق حلمي، الذي حملته معي، هنا وفي غربتي، كما تحمل أمّ رؤوم جنينها الأوّل. تصوّرت أن الحرب التي مزّقت وجه سراييفو، ستجرفني معها، وتحوّلني إلى خرقة بالية، لا نفع منها. بزغت صورة شقيقتي الصّغرى في ذهني، وخفت أن يختلّ عقلي، وأجنّ مثلها.”

- " سنوات الحرب. كان العدو ينكّل بنا ونحن ننكّل بجذوع الأشجار. الموت يسقط على رؤوسنا بالتّساوي، ونحن نقود ثورة على جذوع البلوط، في الميادين والحدائق العامّة. باتت سراييفو أشبه بامرأة جميلة يملأ وجهها كدمات. اختفت منها جنائن زهر مارغريت، الصفراء والبيضاء وزاد المشهد كآبة رائحة الموت، المنبعثة من تحت التّربة، فالقبور في كل مكان، ورفات الموتى تكتظ تحت أقدامنا. يحصل أن تجد مقبرة جماعية يقف أمامها مقهى أو مطعم، يتحوّل في الليل إلى حلبة رقص، يتناوب فيها الأحياء على تحريك أجسادهم، وقابلتهم الموتى يتفرّجون وهم صامتون."

- " عاد العسكري إلى السائق وطرح عليه أسئلة روتينية: من أين أتيت؟ أين تذهب؟ أين تسكن؟ والسّائق يردّ عليه في كلّ مرّة، بكلمة واحدة. صمت العسكري قليلاً، ثم أردف:

- لماذا لم تحلق لحيتك؟

- أوّل ما أصل إلى البيت سأحلقها حضرات.

- إن رأيتك، المرّة القادمة، بلحية سأحلقها لك بشظية زجاج.

ثم سمح له بمواصلة الطّريق، بحركة من رأسه."

- " ردّة فعل أمّي غير المبالية لم تُفاجئني. أنا أعرفها أو يخيل لي أنني أعرفها. هي كتلة من الصّمت، لا تبصر الأشياء كما أبصرها أنا، أو شقيقتي أو أي شخص آخر، لها عينان لا تُشبهان أعيننا، إنها تفهم أشياء يصعب علينا إدراكها، لكنها لا تشرحها لنا. علاقتي بها صارت باردة. خريف طويل يفصل بيننا. ولولا رابط الدم، الذي يجمع بيننا، لما قلت إن تلك المرأة التي تستكين إلى صمتها هي أمّي!"

- " هناك سحر ما في ملامسة الأشياء للمرة الأولى. سحر البدايات في قصص الحبّ أو اكتشاف مكان جديد، قبل أن يتراجع السّحر والشّغف والبهجة ويتقدّم الملل والابتذال، وهذا ما حصل معي في ليوبليانا."

- " أخبرني أنه لم يزر البلد منذ أربع سنوات. وهي مدة كافية لنزع قشرة الحنين، من عقولنا، والدّعس عليها بأرجلنا . هي مدة كافية لتتغّير أشياء كثيرة، فسراييفو تشبه حرباء ضجرة، لا تنوّع في ألوانها فقط، بل في آلامها أيضاً . لو كان الأمر بيدي لمحوتها من الخارطة، وحفرت مكانها بحيرة وأرحت الناس من خذلانها لهم."

- " العاصمي هو من يحرس الأموات، ويعرف جغرافيا المقابر، فهو يُدرك أنه لم يَبن لا هو ولا أجداده شيئاً يُذكر، بل يسكنون البيوت التي وجدوها، وعاش فيها غزاة من قبلهم، ففي الجزائر العاصمة، نمتلك الحقّ في الموت والدّفن، لا الحقّ في التّحرّر أو في عيش مستقرّ ."

- " لو سُجنت في سراييفو لَم خفت وشعرت بضعف، فحريّتنا فيها هي سجن واسع، نتحايل على المفردات كي لا نُسميه باسمه الحقيقي. ألم تكن حياتنا فيها، تحت الحصار، أشبه بحياة في سجن؟ لا نخرج من بيوتنا، سوى نادراً، وفي حذر، بحثاً عن ماء أو غذاء أو حطب. لا نقطع الشّوارع سوى مُهرولين أو راكضين، خافضين رؤوسنا، خشية أن تصيبنا واحدة من رصاصات القنّاصة. نطفئ الأنوار بمجرد نزول الظّلام، كي لا تبلغنا واحدة من القذائف العمياء. في البداية، كنت أبكي كلّما سمعت عن موت أحد ما، من جيراننا أو من معارفي، ثم، شيئاً فشيئاً، تعوّدت على الأمر، تحوّل إلى شيء مألوف لي، وصرت لا أتخيّل سراييفو من دون جلاّديها."

من صفحة الكاتب على القيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم