أحمد العربي

روزا ياسين حسن كاتبة سورية متميزة، هذه الرواية الثالثة التي نقرؤها لها، بعد: الذين مسّهم السحر وحرّاس الهواء، وكلها تتابع الإنسان السوري ضمن واقعه الاجتماعي والسياسي والإنساني.

رواية بروفا الصادرة عن رياض الريس للنشر والتوزيع 2011. رواية مختلفة الأسلوب عن سابقاتها، رغم إدراكنا أن الكتابة الروائية غير ملتزمة بخط محدد، وهي متنوعة بشكل كبير. اختلاف بروفا عن غيرها من الروايات يبتدئ من اسم الرواية حيث يوحي أننا أمام عمل روائي قيد الإنتاج وليس ناجزاً، نعم قدمت الرواية على أنها كذلك، مما يعنى وجود هوامش وملاحظات وإحالات وتفسيرات تظهر وكأننا شركاء مع الكاتبة في إنجاز النص، لقد خلق أسلوب الكتابة هذا غرابة وفرادة وأحيانا دخولاً عشوائياً على السياق ينقلنا بتعسف أحيانا من حالة إلى حالة، لكن في المحصلة وعند إنجاز قراءة الرواية، سنجد -كقراء- أننا أمام عمل روائي مُبهر. واذا انتقلنا من تقنية الكتابة في الرواية الى المحتوى، فنحن أمام موضوع مثير، الرواية مصاغة على لسان رجل أمن في مدينة اللاذقية يخدم فترته الالزامية في فرع المخابرات، منصتا على اتصالات الناس، لنقل إنه يتجسس لدواعٍ أمنية على أناس محددين وأحيانا عشوائيا، هذه الخدمة التي تجعل حميمية حياة الناس تحت الاستباحة، كما تجعل حياتهم تحت الخطر، هذا في دولة القمع السوري، ونحن في مطلع الألفية الثانية زمن السرد الروائي؛ فما إن تحصل زلة لسان ضد النظام، أو تمر معلومة مشبوهة عن خطر محتمل على النظام، حتى يدخل المتنصت عليه في عالم الاعتقال والتحقيق والسجن والموت أحياناُ.

هذا المجند في المخابرات وهو من اللاذقية نفسها، ومن طائفة النظام؛ علويّ، يتعامل مع مسؤوليته بكل اهتمام لدرجة الهوس، ويستمر كل الوقت يتابع ويدقق ويحول المعلومات الى تقارير يرفعها مرفقة بالتسجيلات إلى رؤسائه. كما أن هناك تقنية أخرى في الرواية وهي الانتقال العشوائي في تتبع المُتنصت عليهم، في مسار الرواية كاملاً. نحن أمام مقاطع متفرقة تتابع حياة أشخاص الرواية، بعشوائية في التتبع الزمني مع تنوع في الشخصيات، وبهذا الشكل يصبح القارئ كاتباً آخر للرواية حيث سيرتب الحدث الروائي كاملاً في ذهنه عند إنجازها. هل يتعب ذلك القارئ؟ لا أعتقد، فالنص مكتوب بتقنية جعلت هذه الميزة تزيد فرادته وجماليته. وجعلتنا مثل رجل الأمن ندخل لعبة التجسس على حميمية حياة الآخرين، بما فيها من غواية ومتعة وتأنيب ضمير.

الرواية هي هذه المتابعات التي يكتبها رجل الأمن المتنصت، وهو الراوي، وبهذا الشكل تختفي الكاتبة روزا عن النص بالمطلق.

تبدأ متابعات التنصت من مهيار السالمي، ونحن نجمع المتبعثر في حالته وغيره في الرواية بحيث نقدم حصيلة كل حكاية ومتابعة. مهيار السالمي يعيش مع والدته، وهو وحيدها، والدته هالة المشلولة منذ سنوات، كانت قد وقعت في المطبخ وشُلت، لا يعرف مهيار والده سالم، فقد مات قتلاً بالخطأ أو بشكل متعمد قبل ولادته، حيث كان جنيناً في رحم أمه، كان معارضاً يسارياً للنظام السوري، كان في رحلة صيد، أعيد لها ميتاً وقد اخترقت رصاصة رأسه وجوفته، أخبروها أنه أصاب نفسه بالخطأ، كان ذلك في الثمانينات من القرن العشرين، حيث الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية التي كان بعضها مسلحاً، وكذلك المعارضة الديمقراطية على أشدها، المعارضة التي كان والده ينتمي إليها. أمه هالة تعتقد أن النظام قد قتله وأنهاه كمعارض. مهيار يعيش مع أمه المشلولة يقوم على خدمتها في كل شيء، يطعمها ويسقيها ويحمّمها ويضعها على كرسي متحرك ويجول بها. ينقلها الى سريرها عند النوم، يتابع كل شؤونها، هو لا يتحرج معها من شيء، يخدمها بكل حب وهي تراه ملاكها الحارس كل الوقت، الأم هالة ومع الزمن تبدأ في التعمق عبر ابنها مهيار في العقائد الشرقية الهندية، تطل على التاوية ودين الحب، وأولوية الروح على حساب الجسد المادي، وأن الروح خالدة تنتقل من جسد إلى جسد، الجسد فان، وهناك دائما أجساد جديدة تعود إليها الأرواح. كان هذا الاعتقاد سبباً لتحرر هالة من معاناة شللها، وأن الأولوية لروحها، وأنها تنتظر أن تنتقل الى جسد آخر بعد فناء جسدها هذا، تنتظر موتها وتوده، تعيش كمتصوف ينتظر لحظة إشراقه بلقائه بذات الخالق، وهي تنتظر الالتحاق بروح الكون قبل عودتها بجسد آخر، لذلك كان موتها عيداً عندها، ماتت بعد شلل استمر أكثر من خمسة عشر عاماً، أوصت أن تحرق جثتها وتنثر في البحر، لكن ذلك لم يتحقق، لأن مهيار أمام منظومة مجتمعية ودينية تمنعه من ذلك، عماته وأقرباؤه وقفوا ضده، دفنت في مقبرة، ومنعت رغبتها من التحقق. مهيار كان يعيش حياة أقرب للتبتل اتجاه النساء، عشرته الممتدة إلى سنوات مع جسد أمه بحيادية تامه، جعل الدافع الجنسي عنده شبه غائب أو في حالة سبات، كان يفرغ معاناته في محترفه عبر الرسم ولطخ الألوان حيث يقضي معظم وقته هناك. كل ذلك كان حتى تعرف على صبا عبد الرحمن وأحبها.

صبا عبد الرحمن من الساحل السوري أيضا ومن الطائفة العلوية، والدها ضابط كبير في الجيش، حضوره في البيت قاسٍ جداً، أمها مجرد كائن صامت مظلوم يلبي كل الحاجات، عقلية التسليم والقبول وإحالة كل مآسي حياتها إلى السحر من قبل الاخرين، وتتوج حياتها دوماً بمزيد من الضرب من زوجها والإساءة لها هذه المسكينة المغلوبة على أمرها.

 لدى صبا أخت تكبرها: ديالا تزوجت باكرا غادرت جحيم بيت أهلها، تعاني من سمنتها الشديدة، ومن إفراطها في الطعام، كان الطعام ملجأها يوماٌ ما مما تعاني في بيت أهلها، ومن ثم زوجها، الذي يعاملها بتجاهل، لا يعاشرها جنسياً، يستعيض عنها بعلاقاته النسائية، ويذلها دوماً بسمنتها، فكان الطعام هو العلاج ومزيد من السمنة والتنكر لكل من يحيطها رامية عليهم سوء ما تعيش فإنهم أساس كل ما تعاني. صبا دخلت عالم المراهقة والشباب من بابه الواسع، انفتحت جنسيا على كل من تعرفت عليه، لم تكن تؤمن بما يسمى الحب، لها فلسفتها الخاصة عن أن الجنس هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وأنها بمزيد من الجنس ومع أكثر عدد من الرجال هو أفضل ما في الحياة. كانت قد مرت بعدة تجارب زواج كان آخرها مع عيسى الذي ضربها وأساء لها وتركته هاربة وقررت ألا تتزوج ثانية وأن كل الرجال لها متى أرادت وكيفما تريد. كان والدها ظالماً، علم بطلاقها، قرر تزويجها من ضابط صغير تحت إمرته، لكن المحاولة فشلت بعد لقاءات عدة بين صبا والضابط الذي أرادها عبدة جديدة من ممتلكاته. وهكذا دخلت صبا في مشوار العشرة الجنسية المنفتحة مع كل شاب تلتقي به وترغبه. لكن ذلك لم يكن يجعلها مستقرة نفسياً، فقد سئمت هذا التعدد وأصبحت تحس أنها تخسر نفسها أول بأول، لقد وجدت حياتها بلا معنى. وفي هذه المرحلة تقاطعت حياتها مع مهيار السالمي الذي كان قد مرّ على وفاة امه حوالي العامين، وأصبح أكثر تحرراً، ويجد أنه أقرب لان يُحِب ويُحَب، تقربت منه صبا، استغربت ألا يحاول معها جنسياً رغم مرور وقت على علاقتهما، وجدت صبا في مهيار جاذباً مختلفاً رغم أن الجنس لم يغب عن نفسها، استمرت بالتقرب منه، لكن اكتشفت بمزيد من التقارب والتوادد والاحتكاك والاعتراف المتبادل بالحب أن مهيار شبه عاجز جنسياً. كان ذلك صدمة له ولها، تركته لفترة، واكتشفت أنها تحبه، وأنها لا تستطيع الاستغناء عنه رغم مصابه الجنسي، استشارت طبيباً، وعادت إليه واتفقا أن يتعايشا وأن تساعده لعله يستعيد طاقته الجنسية الغائبة أو النائمة. صبا ومهيار اكتشفا حباً يحاولان أن يعيشاه.

المتنصت رجل الأمن يتابع أيضا حياة أيهم الصارم، صديق مهيار، أيهم شاب دخل الجامعة دارسا للطب، ليس من الطائفة العلوية، وليس منتسباً لحزب البعث حزب السلطة، لذلك كان طبيعيا أن يطرد من الجامعة، أيهم موهوب موسيقياً أيضا. ذهب الى ليبيا ليتابع دراسته بعدما طرد من الجامعة، وفي ليبيا لم ينجح أيضاً، دخل علاقات جنسية فجة هناك، شكلت في نفسه ندبة، عاد مجدداً الى سورية، حاول الدخول في المعهد العالي للموسيقا. رحب به أحد اساتذة المعهد كموهبة واعدة، لكنه رفض أيضاً من الدخول إلى المعهد لأنه ليس حزبياً أو من طائفة النظام...

تابع المتنصت رجل الأمن حياة هاني عباس وأخته لميا. إنهما من الطائفة العلوية أيضا، والدهما قتل في تفجيرات الثمانينات أيام الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة، وماتت الأم بعد ذلك بفترة وجيزة، تبناهما عماهما، عاشا متباعدين، كانت عائلة العميّن في شجار دائم بسبب الزوجتين المتعاديتين، كبر هاني وكبر داخله حب خاص عميق لأخته لميا، اكتشف أن دوافعه الجنسية لا تتحرك تجاه أية فتاة سوى أخته، كان ذلك يعذبه كثيراً، لكن ذلك استحكم داخله، بحيث كان يفرغ حاجته الجنسية عبر خيالات محرمة مع أخته، التي لم تكن تدري بما يجول داخل نفس هاني، لقد عاش هاني على استدعاء اخته في استمناءاته الدائمة. كما كان يعاشر صديقه مانيكانات النساء الشمعيات في محله للملابس النسائية. اما لميا فقد دخلت حياة المراهقة والجنس عبر تجربة جنسية مع أحد الشبان الذي جامعها تحت دعوى حقها الجنسي، وأنها حرة في التصرف في جسدها. لكن لميا لم تكن لتقبل ذلك، لأن عمها وزوجته يعملان على ايجاد زوج لها، لذلك ذهبت الى الطبيب واعادت رتق غشاء بكارتها مجدداً. وسرعان ما جاءها عريس مغترب من البرازيل، أحبها وخطبها، وعاد إلى بلده، واستدعاها إليه في البرازيل، كان ثرياً جداً. وصلت اليه بعد تعب وهناك تكشفت لها حقيقة واقع خطيبها الذي سيتزوجها. لقد كان على علاقة مثلية مع صديق له هناك. وأنه تزوج وخطب كثيرا هناك، وفشلت كلها بسبب هذه العلاقة، اعتقدت لميا أن العلاقة بين الصديقين بريئة وحميمية، دون خلفيات جنسية. جامع العريس زوجته لميا عدة مرات متباعدة، ومن خلال رصد زوجها وما توحي به أمه ومن حولها عن علاقته الجنسية المشبوهة مع صديقه. ومن خلال مشاهدتها المباشرة لجماع جنسي بينهما، جعلها تقرر الطلاق والعودة الى سورية، فلا حياة لها هناك، لقد وجد زوجها حياته مع غيرها. عادت لميا، وكان أكثر الفرحين بعودتها أخوها هاني، الذي لم يكن قد تزوج أو خلق علاقات نسائية له، او استعاض عن خيالاته المحرمة مع أخته لميا العائدة.

تنتهي الرواية عندما تنتهي خدمة رجل الأمن الالزامية، ومغادرته غرفة التنصت في فرع المخابرات، خرج ولكن ليس كما دخل، لقد غير تنصت وتجسس رجل الأمن في شخصيته الكثير، لم يعان ضميره من كونه يتجسس على خصوصيات الناس، وقد يضرهم أمنيا بما يقدمه في تقارير لرؤسائه، فهو يعتقد أنه يخدم الوطن والنظام والطائفة. لكنه خرج وقد بدأ يتعلم تفهم حياة الناس واختلافها وتنوعها، وأن الحياة فيها الكثير ولكل مبرراته فيما يحصل عليه. ودّع مكان عمله، وترك جزءاً من نفسه هناك، قدم المعلومات لقيادته، غادر المبنى وهو لا يدري هل سينجح في حياته، أم أن ما عاشه لن يتركه يعيش بسلام.

ومن خلال رؤيتي لهذه الرواية يمكنني القول:

اعترف أنني أمام إمكانيات فكرية ونفسية وعقلية للكاتبة، وهذا يعني أنها متبحرة في موضوعاتها لدرجة تبهر القارئ المطلع، ناهيك عن القارئ العادي.

إن الرواية متميزة في تقنية الكتابة التي تجعل القارئ مشاركاً في إنضاج النص الروائي واكماله.

كما إن الموضوع حساس جداً، إنه تجسس السلطة في سورية المستبدة القمعية على شعبها، على ما ينعكس على حياة هؤلاء الناس من مشاكل وتنكيل. السلطة الحاضرة بأبناء الطائفة المحظيين، بالضباط الحكام الفعليين، رغم أن حياتهم من الداخل فاشلة وعنيفة وتافهة. الآخر غير ابن السلطة مهمش ومبعد ومستلب من كل حقوقه. كل ذلك يدرك أنه قانون الحياة في سورية الاستبداد والقمع عبر عقود.

الرواية تطال موضوعات شائكة تتعلق بحقائق الوجود الانساني، الحب، والجنس، والعقد النفسية والمجتمعية، تنير كل ذلك دون أن تعطي لنا حكم قيمة، إنها تقول لنا هذا هو الواقع، كطبيب مشخص للمرض، دون تدخلية قصدية مسبقة. لذلك تحركت الرواية في منطقة الممنوع التفكير به أو الممنوع التكلم عنه، الرواية تعلن أن المعرفة تنور كل موضوعات الحياة، تشرح عن وجودها، تفهم واقعها، تترك التفهم للقارئ، المهم أنها أرادت القول: إن كل ما قرأناه موجود. وإن مجرد عدم معرفته أو تجاهله، لا يعني عدم وجوده وعدم تأثيره على الحياة. والحل أن ننطلق منه للتفكير بحياة أفضل مختلفة.

للرواية رسالة مضمرة تقول إن هذه الحياة ضمن دولة الاستبداد والقمع من السلطة ضد الشعب، وغياب تكافؤ الفرص، والمظلومية المستدامة على الشعب السوري، تعني مزيدا من الخراب النفسي والاجتماعي في سورية.

وإن أردنا أن نعرف المطلوب في الرواية نقول: إن الرواية انتصار لقيم الخير والحرية والعدالة والكرامة الانسانية المفتقدة في الرواية وفي الحياة في دولة الاستبداد والقمع السوري.

*****

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم