آرام كرابيت

الساعة الخامسة والعشرونروايةُ "السّاعة الخامسة والعشرون" للكاتب والرّاهب الروماني "جيورجيو فرجيل قسطنطين التي صدرت لأول مرة في العام 1949، باللغة الرومانية، بالرغم من أنها منعت في أوروبا لسنوات طويلة. وتمت ترجمتها بقلم فائز كم نقش، وتقديم د. عبد الله إبراهيم، وتقع الرواية في خمسمائة وستة صفحات من القطع الكبير.

هذه الرواية ثقيلة بأحداثها ومجرياتها، تعكس حياتنا المعاصرة الذي تنبأ بها الروائي، لهذا تبقى مستقرة في ذاكرتنا حتى بعد أن نغادرها بسنوات طويلة. من يقرأ هذه الرواية لا يمكنه أن ينسى شخصياتها المكسورة المهزومة بفعل ثقل الدولة والحداثة والآلات الحديثة عليها. وإن مضمونها ما يزال فاعلًا في حياة البشر إلى يومنا هذا.في مجريات الرواية، إشارات واضحة إلى تمأسس الإنسان، ارتقاءه بالعبودية أكثر فأكثر إلى أن أصبحت منظومة متكاملة، تزداد بإطراد يومًا بعد يوم كنتاج لتطور الحداثة والتقانة، والتراكم الذي مارسته القوى القابضة عليهما، وتسييرهما وفق غايات محددة هو الوصول بأقصى سرعة إلى الثروة والمال وحيازة القوة.

يقف المرء مذهولًا أمام قدرة العمل على فضح عالمنا، وثقل المفاهيم التي تحول الإنسان إلى كائن مستلب مهزوم من الداخل قبل أن يهزم من الخارج.المفاهيم عمليًا أداة استلاب، قيد أو سجن يدخله الإنسان سواء بإرادته أو بالرغم عنه، يتسلل إلى حياة الإنسان من خارجه ليصبح جزءً منه ينهش تكوينه الطبيعي من الداخل إلى أن يحوله إلى كائن هش وضعيف أمام الوقائع التي تعصف به من كل الجوانب.فبعض المفاهيم انزياح للحرية والقيم الخالدة، تحويل الإنسان إلى مادة نافلة لا قيمة لها.

الرواية تغوص في مضمون الحرب، العنصرية، التمييز على أساس الدين والعرق، كمادة لتعويم الحرب والقتل والإبادة لخدمة المفهوم، والمصلحة العليا للحداثة الغربية التي شيأت الإنسان والطبيعة والحياة، لتصبح على مقاس طموحاتها وتوسعها المرضي.إيوهان موريتز أحد الشخصيات المهمة في الرواية، مجرد إنسان عادي أو طبيعي، يعمل خادمًا للكنيسة، يحلم بالسفر إلى الولايات المتحدة للعمل فيها لتأمين مبلغًا ماليًا ليشتري أرضًا وبيتًا، ليتزوج حبيبته سوزانا:ـ كانا تحت شجرة الجوز، حيث التقيا الليلة الفائتة. أحس بثقل المرأة بين يديه، فأسندها ومددها على العشب، واستقلى بجانبها، وتداخل جسمهما، وتعاقدا كالحيتان، أو كالنبات المتسلق. كانت الأيدي تبحث عن الأيدي في الظلام، والشفاه تلتصق بالشفاه، برغبة وشوق، وقد أغمضا عيونهما.

الصراع بين الإنسان والآلة كان على أشده، الصراع على من سيكون العبد المفضل لدى القابض على الثروة والسلطة، إلى أن انتصر الثاني على الأول بالضربة القاضية.الرواية تتنبأ بموت الإنسان الغربي على لسان بطل الرواية، الروائي تريان كوروغا، في إشارة إلى مكانة الآلة وتأثيراتها:ـ إن العبد التقني، الخادم الذي يقدم لنا ألف خدمة، يدفع سيارتنا، يعطينا النور، يصب لنا الماء لنغتسل، يحمل لنا الرسائل، والأخبار والقصص، يخطط الطرق ويزيل الجبال من أماكنها. ويسيطر على النقاط الحيوية في المجتمع العصري، والاستراتيجية في مجتمعنا من جيش ونقاط خطوط المواصلات والتموين والصناعة والزراعة.

ويعتبر التقانة طبقة، يسميها البروليتاريا، ويشير إلى تأكيد فكرته: هناك آلات عبيد بالمليارات، وبشر عبيد بالمليارات يعملان، الأقوى يجبر الأضعف على اعتناق عاداته ولغته وتقاليده وثقافته بالرغم من أن الأول محتل للثاني، بيد أنه أسره، ويومًا بعد يوم سيتخلى البشر عن صفاتهم الإنسانية ويعتنقون صفات العبد الآلي.فالإنسان المعاصر يدرك بفطرته إن الزمن القادم سيخرجه من المعادلة لمصلحة الآلة، لأن الحداثة هذا خط سيرها، أن تنظم العلاقات القائمة وفق النظم التقنية واحتياجاتها.

تبدأ الحرب العالمية الثانية تحت تبريرات تأتي إلينا من خارجنا بالرغم عنا، في استخدامها للمفاهيم بدقة كالقومية أو الدين والوطن، لتترافق مع آلة البطش كأنه صراع بين تقنات من أطراف مختلفة يفوز بها من لديه آلة أكثر تقانة وبطشًا وتأكيدًا لهزيمة الآلة القديمة أو الإنسان القديم لمصلحة الآلة الجديدة وغياب الإنسان.عندما يتشبع الناس بالمفهوم أو الفكرة دون إدراك لأبعاد وغايات من يقبضون عليهم، يذهبون إلى الموت بصدر رحب وطاقة معنوية عالية. ينسون أو يتناسون أنهم مجرد فضلات أو مادة نافلة في هذا العصر.

ينسحب الإنسان ككائن طبيعي عن الطبيعة، ويأقلم ذاته وعقله مع متطلبات العبودية الجديدة. وعندما لا يستطيع أن يتأقلم مع عالم التقانية يخرج من المعادلة ويتحول إلى نكرة، يمكن نعته بالدونية والجهل، وتتملكه الغربة والبعد عن الذات والآخر.

تنبأ الكثير من الفلاسفة والكتاب بموت الإنسان الغربي في ظل الحداثة، بيد أن الرواية هي منطقة العمليات الفاضحة. هي المنطقة الرخوة في الحداثة، لأن روح الأدب وضميره وقلبه يقوم أو قائم على تعرية المعتم، المخبأ خلف الأحجيات الثقيلة، لأنه كائن حساس يبحث عن العوالم الضائعة، يدخلها ويعريها وفي يده النور أو القنديل.هنا تبرز قدرة الأدب على فضح المؤوسسة، العبد المقنع، تعريته دون خجل أو أي اعتبار للحسابات الجانبية. يتسلل إلى الأعماق، يقبض على المفاهيم المتلبسة الملتبسة التي تزيح الإنسان من البيئة الطبيعية النقية الخالية من الأمراض والعقد، والعمل على إعادة إنتاجه وفق الواقع الجديد:ـ التحول البطيء، سيقلب الكائن الحي، وسيجعله متخليًا عن أحاسيسه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية، ويجعلها محصورة في حدود ضيقة، واضحة، آلية تمامًا، كتلك العلاقات التي تجمع بين قطعة آلة وأخرى، أي بين الإنسان والآلة.

وهذا العمل سيقيد البشر في علاقاتهم الاجتماعية وفي الإدارة والفنون والرسم والأدب، واللغة الخاصين بالعبد التقني.ما يقرأ هذه الرواية يشعر بالألم على ذات الإنسان، وجعه، بعده عن طبيعته، وتتغير المفاهيم، ويدخل في متاهات اللغة لينمو فيها ويكبر وينفصل عن ذاته، ويكون لنفسه ذات أخرى من خارجه. ينسى القيم الطبيعية ويفترش القيم التقانية البعيدة عن طبيعته، لهذا سيعاني ويعاني، وفي معاناته سيذبل كالوردة العطشى ويضيع ويتلاشى.

الرواية سهلة القراءة، تعتمد على الأسلوب التقليدي، عبر السرد البسيط المتتابع عبر أقسام وفصول، تجعل القارئ يذهب معها إلى أبعد مدى. وإن ترجمتها أكثر من رائعة ولغتها نقية وصافية كحبات اللؤلؤ، لهذا اتمنى أن تقرأ هذه الرواية، لأن هذا النوع من العمل الجليل يسهل الأمر على القراء العاديين، بعيدًا عن النخبة أو النخبوية.كما أنها عالجت فترة الحرب وما قبلها، وقسوتها والآثار الجانبية على الناس والعمران والحياة، وعلى ضياع القيم والمبادئ في أتون هذا العصر الظالم.

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم