أحمد العربي

ألماس ونساء للروائية السورية لينا هويان الصادرة عن دار الآداب 2015، عمل روائي شائق وذو حبكة تمسك بقارئها، إنه استرجاعٌ لمرحلة من الماضي، تطال قرناً من الزمان، بدءاً من سبعينيّات القرن التاسع عشر، الى سبعينيّات القرن العشرين، منتقلة في المكان بين بيروت ودمشق والبرازيل والأرجنتين ومصر وباريس ولندن مع أبطالها مغطية حياة جيلين منهم.

تبدأ الرواية من الكونت كرم شاهين الخوري المنتمي للطبقة الثرية في دمشق وبيروت، طبقة رجال المال والأعمال والإقطاع، ورث لقبه وماله عن والده شاهين، كان كرم منفتحاً على الحياة، يعيش في بذخ مشبعاً ملذاته النسائية وغيرها، ضمن شبكة واسعة من العلاقات. كرم كان قد وصل الى سنّ يتطلب منه أن ينجب وريثاً له، خاصة أنه الابن الوحيد لوالده، لم تكن مجموعةُ النساء اللواتي يملكهنّ حيث كانت العبودية سارية، ويمكن شراء النساء والتسري بهنّ، والنساء اللواتي يصطادهن يومياً من شبكة علاقاته الواسعة، كلّهنّ لم يكنّ من مقامه. لذلك كان عليه أن يتخيّر فتاةً ذاتَ أصل وحسب ونسب ليتزوجها، وقع اختياره على ألماظ الفتاة المسيحية الدمشقية المنتمية لعائلة مسيحية عريقة، جدتها بابور من الأوزبك تشبهها بسمارها وشكلها، تزوج كرم ألماظ وسافر معها إلى بوينوس آيرس في البرازيل، كانت الهجرة في ذلك الوقت قد زادت من لبنان وسورية إلى أمريكا اللاتينية، على خلفية الصراعات الأهلية الدرزية المسيحية التي حدثت في لبنان وسورية، كما كانت أمريكا اللاتينية وجهة للكثيرين بحثا عن العمل والمال وصناعة الثروة، كانت بلاداً بكراً، واستطاع اللبنانيون والسوريون ومن كل الطوائف والأديان أن ينجحوا هناك على مستوى السياسة، والأعمال التجارية. لم تتغير حياة كرم بشيء بعد زواجه من ألماظ، كان يقربها جنسيا بشكل متباعد، ومقصده أن تحمل له وريثاً، بقي على علاقاته الجنسية مع خادماته، وكثيرا من نساء المجتمع المخملي حوله. ألماظ التي كانت صغيرةً، ترى نفسها غريبة عن هذه الأجواء، تستاء من وضع زوجها الذي يكبرها بعشرين عاماٍ، لكنها كانت تتقبل، ما يفعله على أنه هو الطبيعي في تلك الفئة، كان عليها أن تبحث عمن يلبّي حاجتها النفسية خاصةً الحب، والجنس، بدأ البعض يتقرب منها، وحصلت بعض العلاقات التي كان أغلبها مصلحياً، حيث تقرب منها أحدهم، وسرق منها بعض مجوهرات نادرة أهدتها لها جدتها حين زواجها.

كبرت ألماظ وأصبحت ناضجة، كانت تعيش متنقلة بين عواصم العالم في ذلك الوقت تشبع غرائزها ومتعها مع الكثيرين، لا يربطها عمليا مع زوجها كرم الا زواج صوري، لقد أدركت بعد عشرين سنة من الزواج ضرورة الحمل والانجاب، وحصل الحمل أخيراً وأنجبت ابنها الوحيد كارلوس. كان بجوار ألماظ الكثير من النساء سواء من عملن في خدمة بيتها وزوجها، او من الفئة الثرية المحيطة بها، وأغلبهن أنجبن أولاداً أيضا. لم تحظ ألماظ بحياة طويلة بجوار طفلها كارلوس، كانت قد أدمنت القمار وحياة التمتع والتهتك، راهنت على كل ما تملك بما فيها جوهرة جدتها الفريدة، خسرت كل شيء، ذهبت الى صخرة الروشة في بيروت وانتحرت، لقد فقدت احساسها بحياة ذات معنى. وكان زوجها كرم قد توفي أيضا وهو يرقص مع إحدى محظياته. عاش كارلوس يتيما في عهدة جدته، مع أطفال من جيله إناثاً وذكوراً، يمتّون بصلة لشبكة علاقات أمه وأبيه. كانت بجواره لطيفة الطفلة ابنة المستخدمة التي عملت عندهم، والتي أنجبتها من زواجها مع مستخدم آخر تزوجها، وغادرا سوية الى البرازيل. وكذلك برلنت الفتاة ذات الحسب والنسب والأصول الثرية، لطيفة وبرلنت عاشتا معاً في بيت واحد، وكانتا مثل أختين تتنافسان على كل شيء حتى الاسم برلنت الذي ستحملانه معا حتى آخر عمرهما في سبعينيات القرن العشرين، كان بجوار كارلوس بوتان؛ صديقه الكردي وريث أجداده حكام الدولة الكردية مهاباد الوحيدة التي قامت في التاريخ، والذي بقي مسكوناً بهاجس توحيد الأكراد على أرضهم، مهتما سياسيا وناشطا للقضية الكردية حتى وفاته. عاش كارلوس بصحبة بوتان ولطيفة وبرلنت، طفولة وشباباً فيه الكثير من المشاعر تجاه بعضهم. أحب كارلوس لطيفة وأحب بوتان برلنت، والاثنتان انجذبتا لهما، لكن مصاير الكل كانت متباعدة. لقد تربت لطيفة التي ستسترد اسمها الأول برلنت بعد عشرين عاما في بيت سيدتها والدة برلنت، كان التمييز وإحساس الظلم والعلاقة الدونية، مع برلنت وأهلها، قد زرع فيها قرار الانتقام من الدنيا، وأن تعمل كل شيء لتصبح ثريّة، وذات حظوة، وممتلكات كثيرة، لذلك لم تهتم لمشاعر كارلوس، لقد قررت أن تستثمر جمالها وجسدها لكي تصنع مجدها الشخصي، كبرت لطيفة برلنت وكبر معها طموحها وما حصلته، لقد أصبحت من طبقة الأثرياء، ولها زبائن من الطبقة السياسية والضباط الجدد الذين حكموا سورية بعد حركة ١٩٦٣م. اما كارلوس الابن الأوحد لـ ألماظ وكرم قد ولد فقيرا ويتيما، بحث عن ثروة والده ووالدته في البرازيل والأرجنتين، ولم يعثر على شيء، كان الكثير من المهاجرين وعبر عقود قد تدرج في طبقة رجال المال والأعمال والسياسة في أمريكا اللاتينية، البعض صار بجوار الحكام، بجانب بيرون في الأرجنتين مثلا، وسقطوا بسقوطه، ذاقوا ويلات السجون والاعتقال والتعذيب ومصادرة الأموال والطرد أيضا. أما بوتان قد تنقل بين اصقاع الدنيا يعمل لصالح قضيته الكبرى. أما برلنت الفتاة الثرية التي تزوجت من رجل من طبقتها، الرجل الوحيد الذي أحبته لطيفة برلنت حيث نافستها عليه، أنجبت ابنها الذي سيدور الزمان عليها وعلى عائلتها بعد التغيرات في السلطة السورية في ستينيات القرن العشرين، فتلجأ الى برلنت لطيفة التي تساعدها في اخراج ابنها من السجن، ابن الأثرياء يتهم بالانتماء لحزب شيوعي يساري. كانت لطيفة برلنت قد وصلت لمجدها بعلاقتها مع شبكة ضباط عسكريين وأمنيين، ستكون الدولة السورية منذ ذلك الوقت ملكا لهم.

وهنا تنتهي الرواية.

نحن أمام رواية محبوكة باحترافية عالية، لقد غصنا عميقاً في عالم شخصياتها وطبقاتهم الاجتماعية الثرية وعصرهم وتنقلاتهم والبلاد الكثيرة التي عاشوا فيها سورية ولبنان ودول أمريكا اللاتينية، لقد مزجت باقتدار بين الخاص والعام. ونجحت الرواية حين غطت قرناً من الزمان، وكانت سياحة لنا كقراء في ماض لم نكن نعرف عنه الكثير.

في الرواية أيضا ايماء لحقيقة أن البشر بمقدار حصولهم على الثراء والمال والأمان الاجتماعي، يكونون أقرب للحياة الغرائزية المنفلتة من أي التزام أخلاقي واجتماعي وديني، كان ذلك يظهر وكأنه حالة طبيعية يعيشها الكل، ويصمتون عنها. غالبا ما تنتهي حياة هؤلاء الناس بطريقة مأساوية، الذي يموت منتحرا، أو باحثا عن حلم سياسي تساعد الدنيا كلها على وأده، أو ميتا بعد تناول عقار مهلوس بكمية كبيرة، أو فقيرا بعد ثراء فاحش.

وأخيرا تقول الرواية ضمنا إن الإنسان المحكوم ببداية الولادة والموت بعد عمر يعيشه بحلوه ومره، ستكون حياته هباء، طالما لم تكن ممتلئة بالمعنى والرساليّة والبحث لكل الناس عن الحياة الأفضل، كيف تمنع الظلم والقهر عنهم، وتساعد على بناء حياة الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم