• أن أكون ناقدة أدبية، أمنيةٌ استحوذت عليَّ لحظة انتهائي من قراءة هذه الرواية المدهشة للدكتور يونس الأخزمي، لعلّني لو كنت كذلك، سأكون قادرة على إيفائها حقها من القراءة التحليلية المعمّقة.. وبما أنني لست كذلك، يتوجب عليَّ الإشارة إلى أن حديثي عن الرواية لا يتعدى حدود انطباعات قارئة ذات تكوين علمي ( اجتماعي/ نفسي) وليس أدبياً.

  • رواية (بدون) منجز روائي إنساني جريء اخترق فيه الكاتب المحظورات، وكسرَ التابوهات الاجتماعية، وكشفَ غطرسة الواقع، و ألغى ما فيه من الشرعية، وعرّى راهنية مشكلاته وآلامه، من خلال تناوله لموضوع من الموضوعات الإشكالية المسكوت عنها في مجتمعاتنا العربية المكبوتة القامعة، المنتشية بذكوريتها، ألا وهو موضوع اضطراب الهوية الجنسية الذي يُقصد به شعور المرء الداخلي الراسخ بمن يكون بصفته كائناً يحمل جنساً ما، وبتعبير آخر نوع الجنس الذي يشعر المرء بالانتماء إليه.

فبطلة الرواية (علا) ولدت بجهاز تناسلي ذكوري طبيعي لكنه بقى مختبئاَ، وبشكل خارجي أنثوي لم يكتمل بالبلوغ المتعارف عليه عند الإناث في مرحلة عمرية معينة، لذلك كان شعور الاهتمام بالبنات هو الذي يسري في عروقها، ولا يأخذ موضوع الرجل حيّزاً ولو بسيطاً من تفكيرها، لتحسم أمرها أثناء منحتها الدراسية في لندن بإجراء عملية تحوّل جنسي، فتصبح (علي) بعد رحلة وجع نفسي وجسدي استطاع الكاتب سردها بلغة جذابة مأنوسة واضحة بعيدة عن التوعر والتكلف، مراعية لقواعد اللغة مع هامش من المرونة عندما يتعلق الأمر بالطبقات الشعبية العادية البعيدة عن العلم والثقافة، حيث نجد ( الأخزمي) يستعمل مفرداتهم وأمثالهم وطرائقهم في الحوار.

  • و في عودٍ على بدء، أقول : استوقفني جداً عنوان الرواية وتساءلت طويلاً ما الذي أراده الكاتب من هذا العنوان؟

هل هو وصف لحال بطلة الرواية بأنها حال عائمة غير محددة؟

وهل عدم وضع النقاط على حروف العنوان، دلالة على عدم وضوح مصير البطلة حتى بعد إجراء عملية التحول الجنسي؟

أم أن المجتمع هو المقصود بالعنوان ، فهو مجتمع قاسٍ بدون رحمة أو رأفة مع هذه الحالات ومثيلاتها، ما دام هو الذي يضع المعايير الاجتماعية للوصم بسمة معينة أو غيرها؟

أم أن المقصود بعنوان الرواية هو كل ما سبق ذكره؟

لابد من الاعتراف بأن العنوان شكّل عامل غواية كبيرة لقراءة الرواية، و الغوص في أعماقها لمعرفة مكنوناتها.

  • لقد جعلني الكاتب أعيش الأحداث بأدق تفاصيلها في متعةٍ منقطعة النظير، وفي سياقات اطرادية يكتنفها التشويق والترقب، وإعمال الخيال في التنبؤ بما سيحدث، من خلال تفاصيل يضعها ( الأخزمي) رهن إشارة القارئ ليكون فاعلاً وشريكاً مهماً لعقدةٍ حيكت في مزيج من التفاعل بين ما هو اجتماعي ونفسي وديني وسياسي.

وبذلك استطاع الكاتب - وببراعة كبيرة - تأكيد مقولة أننا عن طريق الأدب نعي إنسانيتنا التي تفكّر وتتكلم.

ومن خلاله يمكن للإنسان أن يسائل نفسه، وقدره الكوني والتاريخي، واشتغاله الذهني والاجتماعي.

  • لقد كان ( الأخزمي) مخلصاً لواقعيته عندما عرض مشكلة اجتماعية مؤرقة، ولم يعرضها مجردة، بل بحث عن أسبابها ووجه النظر إليها، ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع، وبذلك يزداد وعي القارئ، وتزداد قدرته على التحليل والملاحظة والاستقراء، ويصبح مؤهلاً لوعي الواقع، و قادراً على تغييره، ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى للأدب من خلال التحامه بالواقع، وتأثيره فيه، وتأثره به في علاقة جدلية لا يمكن إنكارها.

  • أسلوب الرواية اتسم بالساطة و السلاسة ، ولعل بساطة الأسلوب، وصدق التعبير، وكثافة المعاني، وتوظيف عناصر السرد وتقنياته بذكاء شديد.. شكّل عوامل أساسية في نقل القارئ إلى عوالم جذابة ممتعة مثيرة للدهشة، جعلته يتساءل : إلى أين تريد أن تأخذنا في روايتك يا يونس؟

  • لقد حققت ( بدون) الرواية التي نادى بها ( هنري جيمس) التي يختفي فيها المؤلف فتحكي القصة نفسها بنفسها. لقد قدمت لنا هذه الرواية مونولوجاً نابضاً بالحياة، مجسّداً للواقع.

  • رواية ( بدون) تختصر رحلة الألم الأنثوي في مجتمع شرقي غارق في ذكوريته حتى أذنيه، لتقول لنا : آن لهذه الرحلة أن تنتهي.

إنها رواية استثنائية مغتسلة بأمطار الوجع الإنساني..

يونس الأخزمي شكراً لك.. روايتك كانت روايتنا. لقد أدهشتني وأسعدتني.

 

  • كاتبة من سوريا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم