قبل كل شيء أود أن أقول إنّ هذا الكتاب غير عادل إطلاقًا، صادم، غريب، مفاجئ، فقد مارس محمد جبعيتي عليّ إرهابًا جماليًّا وفكريًّا منذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة.

بدأ الأمر بدهشتي من جمال وروعة أسلوبه، سرد مدهش لحكايات وذكريات وتفاصيل، وانتهى بمعرفتي بعمر الكاتب الذي يبلغ خمسة وعشرين عامًا فقط.

كيف حصل هذا الشاب على كل تلك الخبرة والحنكة والقدرة على سحر القارئ، إن لم يكن الأمر يستند إلى موهبة فطريّة فذة؟

يتحدث جبعيتي في روايتهِ "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" الصادرة عن دار الآداب 2019م، عن الأزمة الفلسطينيّة الناتجة من الاحتلال الإسرائيلي، ومن تناحر الأحزاب فيما بينها، والذي انتهى إلى اقتتال الأخوة. قد يظن البعض أن هذا الموضوع أصبح مكرّرًا، وبأنه قد تم تداوله بشكل مكثف على مدى عقود طويلة، ولكن المعالجة هنا مختلفة، ولا تشبه غيرها من الروايات القادمة من فلسطين.

ناقش جبعيتي القضية الفلسطينية من منطلق شمولي عام، ولم يشعر القارئ بأنه يتحدث عن بلد بعينه، بل تجاوز الأزمة الفلسطينية الخاصّة، وجعلها أزمة فلسفيّة تعنى بمناقشة الوجود والحرية والكينونة البشرية.

بعد كل الكتب التي قرأتها في هذا الشأن، لم أتوقع أن يشدني كتاب جديد بنفس هذه الطريقة.

يتحدّث النص عن الشاب نوح، طالب جامعي تجبره قسوة الحياة على العمل في مهن لا تليق به، بداية بمخازن السوبرماركت، ثم غسل الصحون، ثم حمل الطابوق والإسمنت.

ولكن لن تتمكن كل تلك الظروف الصعبة من أن تكبح مخيلة نوح وتمنعه من الحلم، وهنا يأتي الجزء الأمتع من الرواية، وهو احتواءها على الكثير من الغرائبية والخيال والأحلام السّاحرة التي تتداخل مع الواقع، فلا يعود القارئ يعلم إن كان ما يقرأه حلمًا من أحلام نوح أو حقيقة محضة.

وفي وسط كل هذا الكرنفال الإنساني الجميل، فقد استطاع محمد جبعيتي أن يسرد قصة حب مميزة، بطريقة أشعرت القارئ بأنه يعيش أحداثها، وبأنه هو من اختار لها أن تحدث الآن وفي هذا الوقت.

لم تكن قصة حب سمجة ولزجة، كما لم تكن قصة إيروتيكية مثيرة، بل كانت حبًّا نما وترعرع على أساس متين من الصداقة والتفاهم.

غاسل صحون يقرأ شوبنهاور، رواية تأخذ القارئ إلى عوالم ساحرة، تذكره بالأعمال الروائية العظيمة، ولن يندم أبدًا على تلك الرحلة.

كاتبة ومترجمة من العراق.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم