المكان في رواية "قبل الميلاد" للسوريّ محمود الوهب
يشبه الروائي والناقد الإيطالي الكبير (أمبيرتو إيكو) قارئ الرواية كداخل غابة 2، فمنّا من يدخل الغابةَ ويخرج ولم يرى منها أو فيها شيء، ومنّا من يدخلها فيستوقفه قسمٌ معينٌ، ومنّا من يدخلها ويتيه فيها، ومنّا من يدخلها ولا يخرج، بالمعنى المجازي، فكثيرٌ من الروايات دخلنا إليها ولم نخرج منها، مازالت تؤثر فينا، حية معنا، ننقلها معنا، من مكان إلى مكان. ما شغلني في الرواية، هو المكان الذي افتقدناه بسبب الثورة التي كانت من أجل الحرية والكرامة وما تزال، ولكنها تحولت في سورية إلى حرب عالمية ملبّسة ، ضحيتها مع كل أسف الشعب السوري . والمكان في الرواية عنصر أساسي، وحامل لدلالة، وتفقدُ الروايةُ أصالتَها إن افتقدت للمكان، وعلينا أن نميز بين مصطلح المكان ومصطلح الفضاء الروائي، فالفضاء الروائي أوسع والمكان جزء منه، ربما يتضح الفضاء من خلال قراءات أخرى. ورواية قبل الميلاد لمحمود الوهب التي تطرح تساؤلات للوضع السوري القائم قبل الثورة، وتضع تصورا لكيفية الخلاص من المنظومة الحاكمة التي استشر فيها الفساد في جميع مفاصلها، وتقع المهمة المبهمة على بطل الرواية (همام) لانقاذ المدنية، فيها من الصور والوصف والحوار مع الأمكنة، تجعلُك تنجذبُ لهذه الأمكنة وقد افتقدتها، وكما قال نجيب محفوظ مرة عن المكان بأنّ "الروحُ تتشربُ المكان" فحين يذهب الإنسانُ والكلامُ لنجيب لمحفوظ " إلى أماكن أخرى أجمل وأنبل.. ولكنّه يحنّ إلى الحيّ القديم "3 . وهذا ما يجعلنا نتفهم مشهداً سينمائياً، لسجين مثلاً، يقاتل سجيناً أخرَ حتى الموت، أو يقهرهُ حتى الموت، من أجل صورة شخصية، لشخص عزيز على الشخص المقاتل أو المقهور. فالصورة تكتسب أهمية الشخص ذاته حين تفتقده، وكذلك المكان والاشياء والأدوات. و هناك فيلمٌ سوريٌ أشاهدُه عبر اليوتوب بين فترة وأخرى، وأشاهدُ فقط المشهدَ الأولَ ولا يتعدى الدقيقة بل أقل، في ذلك المشهد، نجدُ الفنانَ الحلبيَ المرحوم، عمر حجو، يركبُ الترامَ في حلب، والترام الذي كان في حلب، وأنا اسمع عنه ولم أرى إلا أثره، أي السكة فقط، شاهدته أخيراً في الفيلم، وهو يشبه الترام الموجود في ساحة (تقسيم) لمن ذهب وزار اسطنبول. بالعودة إلى نجيب محفوظ، نجد المكان عند نجيب محفوظ هو مكان ( كما هو قال عنه مرة) " بأنه اختار أن يكتب عن الجمالية (الحي الذي فيه الحسين وزقاق المدق ...) بعد أن انتقل إلى العباسية ، لأنه وجد فيها "اختلاط العصور في زمن واحد" 4..حمامات ، مقاه، مساجد، أزقة، مشربيات، شخصيات متنوعة، فقيرة، غنية، مثقفة، متخلفة، خيرّة ، شريرة ، أي الحياة، فالمكان عنده يمكن أن نقول مكان صديق /جميل. حيث يجد الإنسان راحته وسكنه وحضوره ، وحتى المجرم تجد المكان يحميه . بعكس زكريا تامر، المكان عنده عدو /قبيح5، عدو للإنسان، أي معادي، لا يوجد مكان أليف وآمن في قصص زكريا تامر، فالغرفة و البيت والشارع والحديقة والشمس والنهر كلهم أعداء، ولا تعرف متى ينقض عليك، تتبرص الأمكنة بك في أية لحظة، ففي قصة له في دمشق الحرائق، تجدُ البطلَ مع خطيبته في نزهة إلى غابة، غابة جميلة ورائعة، وإذ بمجموعة من الرجال تلتهم خطيبته على مرأى عينيه، و في قصة له تجدُ البطلَ يسيرُفي شارعِ وإذ بسيارة تقف وتقوده إلى المجهول ، والنهر مجنون يكاد يبتلعه، والشمس صفراء باهتة اللون، حتى لحظة دخول البيت تجده يستعمل أفعال مثل (دلف) تشعرك بأنّ الإنسان معرض بأية لحظة للافتراس، فالمكان ليس آمنا حتى لمسالم. فكيف كان المكان عند محمود الوهب؟ هل هو معادي أم صديق؟ جميل أم قبيح؟ حلب ، كالقاهرة ، وكالاستانة ، كانت حلب ولاية لا تقل عن القاهرة أو اسطنبول، ولكنها تعرضت للتجزئة منذ الحرب الكونية الأولى، ومن ثم تعرضت مرة أخرى على يد التقسيمات السورية، وهي تتعرض اليوم لتجزئة المجزئ، وسط مشاركة العالم أجمع. ليست كدمشق تامر، هي مكان صديق وجميل، فيها الخير وفيها الشر، فيها النور وفيها الظلام، أي الحياة. ويرى محمود الوهب حلب في روايته مكان جميل ولكن أُفسد، ولهذا نرى الفساد هو رأس البلاء كما يقول بطل الرواية. لنتابع المقطع التالي من الصفحة السابعة، في هذا المقطع يصف لنا حلماً للبطل مع حبيبته مياسة " مياسة عصفورة ملونة ترفرف أمامي، ألاحقها بعيني، تقفز إلى غصن قريب، أمد إليها يدي، تبتعد خائفة، تختفي في عمق ظلال قاتمة ، ظلال تتكشف عن أسراب كثيفة تتالى، أسراب من جراد ...جراد أسود يغطي فضاء الساحة، وحديقة المدنية، يأتي على بقعة العشب، يغمر المروج وشجيرات الورد، ينفض لون الخضرة عن الأرض والشجر ..تمتلئ بطونه ، تنتفخ ، تتروم، تتقيح عن حشرات تافهة سرعان ما تأخذ في النمو والتبدل " نحن أمام حديقة ، مكان عشبي ، غابة، سمها ماشئت ، حيث الزهور والعشب ، أي مكان جميل ، وهناك البطل وحبيبته، ولكن الجراد أفسد المكان، وهؤلاء الذي يأكلون الأخضر واليابس، هم من يفسدون هذا المكان الجميل، فهو ليس بمكان معادي، بل مكان شرح وفق دلالة (اللون الأخضر )، ولكن هذا الفساد هو من يمنع الانشراح ويعمق الضيق . هذا المكان الضيق الذي يحاصر النفس ، " يصفه لنا الروائي في الصفحة 19 "ورأيت نوافذ المنزل تفتح ، وجلجلة الصوت لا تزال تتردد في فضاء الغرفة : أنت بحاجة إلى هواء نقي، إلى أكسجين يفتح مسام رئتيك، ....ألا تزعجك هذه الطحالب النامية على فراشك وأشيائك؟ ..ألا تضايقك لزوجة الفطور المتكاثفة على منامتك وأصابعك؟ كأنك لا تنتظر غير هلاكك ، وصعود روحك". لهذا كانت مهمة البطل، أن يقوم بتخليص المدينة من الفساد، ورأس الفساد هو الهدف، لان بزواله تزول البقية الفاسدة، ولأنّه يتقاعس كان (الضمير) يحفزّه ، ويشجعه و يوصله مع المفسدين أو من تعرضوا لظلم الفساد أو فسدو. فنطلع من خلالهم على تفصيل المجمل الذي ذكر في الحلم، فساد المدينة. فالحديقة العامة، المتنفس الجميل والوحيد لمركز المدنية، ومباني مؤسسات الثقافة تعرضت للهدم والفساد، وحتى الأدوات والوسائل النظيفة تم التخلص منها وإزالتها، فالمهمة تنتظر البطل لتخليص المدينة التي عمها الفساد " ما قمت به من واجب لا قيمة له تجاه المهام الكبرى التي تنتظرنا " ص، 18 ومهمته قتل رأس الفساد (الرمرام) لأن " البلاء عم البلاد ، يوشك أن يُدخل الكلَّ في غياهب من السراب والسواد" ص10 في الرواية اعادة لدور المثقف، كنا حتى التسعينات كان المثقف هو الايجابي والتاجر ورجل الاعمال هو السلبي، وتغير ذلك بعد التسعينات .. هنا يعيدنا الكاتب الى دور المثقف. ولهذا اختار الحديث عن مركز المدنية حيث نشاط الفكر والثقافة . فلم يكن عبثاً اختيار مركز المدينة كمكان اساسي في الراوية، ص87" كنت أسمي هذا المكان من شارعي بارون والقوتلي بنقطة تقاطع الفن مع الأدب مشيراً إلى كثرة المكتبات في الأول ودور السينما في الثاني، اليوم لا هذه ولا تلك .." ولنتأمل وصف ما حالت اليه سينما فؤاد ص 94 .. عبارة عن حفرة مسورة بسور من "تنك"، وحيث حلّ مكان السينما " أكوام من الزبالة ، ومحتلة من قبل أسراب الهوام والذباب ، ومشبعة بالأبخرة المتصاعدة من أكوام الزبالة تفسد المكان والفضاء.. وليس فساد المدينة متوقف أو تشويهها على الأشخاص فقط، بل هناك أمكنة أو أبنية شوهت المكان، فمبنى الحزب الذي زرع في وسط المدينة أخذ " شكل القلعة" ص71، ولكنها ليست كقلعة حلب ، بل اشبه بسفينة مكنفئة على ذاتها، ويجري مقارنة بينها وبين قلعة حلب الشامخة، بين الجمال والقبح، بين جمال قلعة حلب الأصيلة، وقبح هذه السفينة التي تنزر بطوفان سيغرق الحرث والنسل، "فهي تغيب في عمق الماء العظيم، والكائنات تتسابق للخلاص.."ص 71-73 والفساد في اختفاء امكنة ، أو أشياء وأدوات، صديقة للبيئة ، في الصفحة 76 ، وإلى اختفاء الترام، " كثيرة هي البقع التي اختفت ، وكذلك الأشياء والأدوات" ويتحدث عن الترام ويصفه بصورة أجمل مما رأيته في الفيلم، " يرن جرس الترام ، تتلامع عرباته الصفرالنظيفة أمامي.. وما امتع النظر إلى حلب من نوافذها العريضة"، ويسأل لماذا ألغي وهو وسيلة صديقة للبيئة ؟ في رواية محمود الوهب، قبل الميلاد، والتي لا تتجاوز احداثها كمدة زمنية عن اليومين، ولكن البطل الذي يكلف بمهمة غامضة بين الصحو والنوم لتخليص المدنية من مخربها، فيجعلنا نحلم معه ونسير معه فنتعرف على دائرته وأصدقائه وفكره وايدلوجيته وبين الفواصل نحلق اشواطاً طويلة وعميقة للمخربين والفاسدين، تجعلنا كالحلم، تفقد وحدة الزمن قيمتها. فكان المكان بازرا على حساب الزمن، وهو مكان جميل وصديق ولكنه أُفسد، وسيعود جميلاً بعد التخلص من الفساد والمفسدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- قبل الميلاد رواية لمحمود الوهب صدرت عن دار نون اربعة عام 2017 2- ست نزهات في غابة السرد، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد ، المركز العربي الثقافي 3- من مقابلة اذاعية مع نجيب محفوظ عن المكان والإنسان يمكن الاستماع إليها عبر الرابط "https://www.youtube.com/watch?v=Rp_ZXme1t7U" 4- نفس المصدر السابق 5- يمكن مراجعة كتاب المكان في الرواية العربية لغالب هلسا
الرواية نت
0 تعليقات