عندما هممتُ بقراءة رواية "تاء الخجل" للكاتبة الجزائرية "فضيلة الفاروق" كنت محملة بما ورثته عن النقد النسوي من كلام نمطي عام، عن كتابات المرأة العربية وعن أوهام الأنوثة وحرب الذكورة المعلنة، وعن كثير مما أثر من نقد في هذا المجال، وكنت سأقرؤها لمجرد القراءة، فقد سمعت عنها لكنني لم أبحث لأجدها ولم أتربص بها لأكتب عنها للأسباب النقدية السالفة نفسها. لحظات القراءة الأولى ثم انتفض بداخلي شيء ما كان غريزيا لكنه لم يكن متوقعا ولم يكن توثّب امرأة تتأهب للقراءة عن التاء المربوطة ولا عن الخجل الذي يعلقها إلى مشنقة الكتابة وإلى مشانق النقد كان توثّبا انتمائيا .. نوستالوجيا مرضية لمعاقل وطنية لم تستوف حقها من القول أو من الصراخ صراخ يرتدّ صداه عبر ربيع الأوطان المتناثر في خراب الأمنيات تبدأ الرواية عادية جدا ودون أن تثير أي حدث حكائي متميز، إذ تنطلق الكاتبة في التمهيد لما أسمته تاء الخجل جامعة بين التاء كحرف هجائي متصل بالأسماء المؤنثة التي تتضح هويتها من خلاله (يمينة، رزيقة، راوية، خالدة... ) وبين الدلالات الرمزية للأنوثة مركزة على السمة الهامة في التركيب النفسي الاجتماعي لها وهي الخجل، بما يحتويه على دلالات الانتقاص والسلبية والعجز عن الإتيان بالفعل الإيجابي في أي مجال أو موضوع يتعلق بحياتها أو دراستها أو زواجها أو وجودها ككل ( منذ العائلة... منذ المدرسة... منذ التقاليد... منذ الإرهاب. كل شيء عني كان تاء للخجل، كل شيء عنهن تاء للخجل، منذ أسمائنا التي تتعثر عند آخر حرف، منذ العبوس الذي يستقبلنا عند الولادة، منذ أقدم من هذا، منذ والدتي التي ظلت معلقة بزواج ليس زواجا تماما، منذ كل ما كنت أراه فيها يموت بصمت، منذ جدتي التي ظلت مشلولة نصف قرن من الزمن إثر الضرب المبرح الذي تعرضت له من أخي زوجها وصفقت له القبيلة وأغمض القانون عنه عينيه، منذ القدم... ) الرواية ص 11. وإلى أن تخرج البطلة من قريتها إلى قسنطينة لإتمام دراستها الجامعية التي كانت منوطة بذكور العائلة دون إناثها، يبقى شأن الرواية عاديا وبلا إثارة فعلية للنقد ( في الجامعة تحولت حياتنا إلى ساحة يعبرها الأصدقاء، كنت طيب القلب إلى درجة لا تحتمل فسئمت من ذلك الوضع، إلى اليوم أن امرأة أمارس حياتي وكأنها عمل سري وأغطيها بغطاء سميك، نادرا ما يتمكن الضوء من اختراقه. لم أكن أدري أنني منحت نفسي خيبة محكمة الإغلاق ) الرواية ص 14. غير أن نقطة التحول في هذه الرواية تبدأ من انعطافة متميزة في مسار القصة الرئيسة نحو استثارة قصص مصاحبة يبدو أنها كانت المركز السردي الفعلي لما أرادت الكاتبة أن تقوله حول المرأة ( بعدك حادت الدنيا قليلا عن مسارها، صارت أكثر حدّة، بعدك صار الرجال أكثر قسوة أيضا، صارت الأنوثة مدججة بالفجائع. بعدك، بعد الثلاثين، أصبحت الطرق المؤدية إلى الحياة موحلة، أصبحت الأيام موجعة ) الرواية ص 14. فالقضية لم تكن تتعلق بالمرأة في وضعها الأسري أو الاجتماعي العادي لأن كثيرا من النساء - حتى المثقفات منهن - لا يجدن حرجا في الانضمام إلى أسراب النساء المدجنات بالفطرة حين يكون التعب الثوري قد نال منهن نصيبا وافرا، القضية تتعلق بشكل جذري بوضع المرأة في حالات الأزمات التي تعصف بالأوطان ( والوطن يشيع أبناءه كل يوم. الحب مؤلم جدا حين تعبره الجنائز، وتلوثه الاغتصابات ويملأه دخان الإناث المحترقات ) الرواية ص 15. تمهد الكاتبة بعدها للحكي المركزي الذي ينقل كراهيتها لسلطة القهر التي تلاحق المرأة من خلال الحديث عن عملها في الصحافة المعارضة لتشير بداية إلى المحور الذي تتشكل من خلاله أزمة الوطن ( انغمست في العمل الإعلامي، انضممت إلى جريدة "الرأي الآخر" المعارضة، والتي كانت مزيجا من الإسلاميين والديموقراطيين والعلمانيين، كنا نتفق عموما، رغم أن البعض لا يصافح النساء والبعض يصافحهن، كان ذلك قبل أن تمتد الخلافات السياسية بين الأحزاب، فتصل إلينا لنصبح مؤسسة من الأعداء وتتحول مكاتبنا إلى مواقع حربية) الرواية ص 34.
ثم تنحرف الرؤية السردية في الرواية ( سنة العار... سنة 1994 التي شهدت اغتيال 151 امرأة، واختطاف 12 امرأة من الوسط الريفي المعدم. تضاربت الأرقام بطريقة مثيرة للانتباه في حضور قانون الصمت. 1013 امرأة ضحية الاغتصاب الإرهابي بين سنتي 1994 و 1997، إضافة إلى ألفي امرأة منذ سنة 1997. والبعض يقول إن العدد يفوق الخمسة آلاف حالة. ولا أحد يملك الأرقام الصحيحة، إن السلطات مثل الضحايا تخضع لقانون الصمت نفسه ) الرواية ص 36. وتزداد تأزما حين تقابل البطلة (الصحفية) بعض النساء اللواتي تم الإفراج عنهن من معاقل الإرهاب الذي كان يطوق الجزائر في مرحلة التسعينات، بؤرة الحدث تتمحور حول (يمينة) تلك المرأة النازفة التي قتل طفلها بعد أن تمزقت أحشاؤها لإنجابه ( وفي الحقيقة لم أكن واعية تماما بما كنت أحسه تجاهك، كانت مشاعري قد حلّت عليها عليها العاصفة بمجرد وقوفي أمام غرفة "يمينة"، شدتني جثتها التي تئن، إذ لم أتوقع أن أجد أي واحد منهن بذلك الشكل... بقيت مذهولة، عاجزة عن التصرف، دخلت ممرضتان طلبتا مني الخروج، لم أخرج، بقيت واقفة قرب الباب، أزاحتا الغطاء فإذا برقعة كبيرة من الدماء تغطي ساقيها، أزالتا القطن المشبع بالدم، واللحاف مع قطعة بلاستيك، كان المنظر مفزعا، أغمضت عيني وابتعدت...) ص 44، 46. وفي الوقت الذي تحاول الصحفية إنقاذها من الموت الأكيد تمتد المأساة إلى بقية النساء فتحكم عليهن بالانتحار أو الجنون مشيرة إلى استحالة استمرار الحياة وسط كمّ الحطام والقذارة البشرية التي تحيط بالذاكرة وبالجسد الأنثوي بشكل صريح، خاصة وأن الأهل في تلك الحالات يتنكرون لبناتهم ويفضلون اعتبارهن موتى على القبول بأوضاعهن الجديدة المعبأة بالعار ( هل تعرفين ماذا يفعلون بنا؟ إنهم يأتون كل مساء ويرغموننا على ممارسة "العيب"، وحين نلد يقتلون المواليد، نحن نصرخ ونبكي ونتألم وهو يمارسون معنا "العيب"، نستنجد، نتوسلهم، نقبل أرجلهم ألا يفعلوا ذلك ولكنهم لا يبالون) الرواية ص 45. هنا تتأزم القناعة الإنسانية في سؤال يظل طي الكتمان والاحتجاب، ماهو التعريف الفعلي للشرف في حالات الأزمة؟ هل يتوقف الشرف عند جسد المرأة أم يمتد ليستوعب شرف الوطن كاملا؟ وأيهما أهم؟ كانت البطلة الصحفية قد حددت موقفها، وأعلنت رأيها، وقد جعلت المجتمع كاملا مسؤولا مسؤولية مباشرة عن تفريطه في شرف الوطن، حين رفضت أن يكون مقالها الصحفي حول تلك النساء المذبوحات قسرا، إلى الكتابة عن موضوع الدعاء العدائي الذي أمّن عليه المواطنون وباركوه بالقبول والاحتواء الفكري دون أن يشكوا للحظة أنهم الطرف الذي سيناله العقاب السماوي لاشتراكهم في فعل التحريض على الشر، وعلى إتيان جرم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وعلى انتهاك الحرمات ( - اللهم زنّ بناتهم. – آمين. – اللهم رمّل نساءهم. – آمين. – اللهم يتّم أولادهم. – آمين ! ... ولهذا تنام يمينة نازفة في المستشفى الجامعي حاملة آثار التغيير ! ولهذا مئات الزهرات يغتصبن، ما باركه الشعب بالدعوات كان يجب أن يصيب الشعب لا غير! ) الرواية ص 52. وتظل (يمينة) تنزف وينزف معها وطن من الأمنيات التي تتراقص قي قفزات الأرانب الصغيرة على قميص نومها، إذ تحاول الكاتبة أن تبعث شحنات من الأمل والتفاؤل وهي ترمز إلى الحياة المنشودة المرحة التي تنتظرها وسط ذلك النزيف الذي يعانيه الوطن، في الوقت نفسه تبعث الانتعاش في حلمها بحبات من البرتقال، بينما يظل الواقع مضببا بالأخبار الكثيرة والمتلاحقة التي تبثها وسائل الإعلام حول المجازر اليومية التي ترتكب في حق الإنسان من خلال (الراديو)، وين هذه جميعا تعود حالة الثورة التي لا يصنعها الرجال كالعادة في هذه الرواية إنما تصنعها النساء من خلال التركيز على أن تكون الكتب التي تحضرها الصحفية للمريضة هي روايات وقصص للكاتبة "غادة السمان" لما تحمله هذه الأخيرة من انتفاضة أنثوية صارمة في وجه الحرب الذكورية بكل أنواعها ( في الثانية والنصف بعد الظهر كنت أمام يمينة، أحضرت لها كيسا من البرتقال، راديو، كتبا لغادة السمان، وقميص نوم عليه أرانب صغيرة ) الرواية ص 64. ويبدو أن القضية الأكثر إثارة في هذه الرواية لا تتعلق بكون الجسد الأنثوي وسيلة لانتهاك الشرف الفردي عبر فعل السّبي والاغتصاب المقنن بقوانين الرجل المغتصب، بل بكون المرأة هنا تمثل الوطن بسلطته المنتهكة عبر فعل المعارضة المسلحة الذي عرفته الجزائر في تلك الفترة الحالكة، على هذا لا يتعلق الاغتصاب بامتلاك الرجل للمرأة الأنثى فحسب بل هو محاولة لامتلاك السلطة وهذا ما يجعل قائد المنظمة يتسمى بالأمير. هذه الإمارة التي يحكم عليها الانحراف الذي تأسست عليه بالعقم تبدأ من خلال التنبيه إلى أن الاغتصاب الذي ينتج عنه مولود يتم قتله، لتنتقل الكاتبة إلى طرح إشكالية موازية حول الطريقة التي تعامل بها الطبيب وأعوان الشرطة مع جنين الضحية المنتحرة حين رفضوا السماح بإجهاضه حتى تنتهي التحقيقات، فتقلب المعادلة لتمعن في التشكيك بكل القيم المصاحبة لفترة الأزمات التي تعصف بالأوطان، فما هي القيمة الإنسانية التي يمكن أن تنبع من الحكم على استمرار حياة لم تكن بعد بالقضاء على حياة كائنة بالفعل؟ وماهي القيمة المهنية التي تبحث في إمكانية تحول الضحية إلى شريك في الجريمة؟ ولماذا كانت تلك القيم بالذات سيفا جديدا سلط على رقبة المرأة وقام بحزّها؟ ( قبل أن تصلي بقليل، حدث شجار بين إحدى البنات اللواتي حررن معنا، مع أحد الأطباء، لقد طلبت أن تجرى لها عملية إجهاض ورفض الطبيب لأنه لا يملك الصلاحيات، القانون يمنعه، تصوري ! ... لم يكن الأمر سهلا كما تخيله الطبيب، في قسم الشرطة عرفت أن التحقيق في الأمر لم يبدأ، وقد قال لي أحد الضباط إنه من الصعب التأكد ما إذا كانت الفتيات خطفن أو أنهن التحقن بمحض إرادتهن بالإرهابيين في الجبال، فأغلبهن لهن وثائق تثبت انتماءهن لتيارات إسلامية... هذا ليس سببا كافيا لاتّهامهنّ "قلت له") الرواية ص 66، 67، 68. سلطة القيم نفسها في هذه الرواية يمكنها أن تثير جدلا واسعا لا يتعلق بالقيمة في حد ذاتها بل بإشكالية تأثير القيم الإنسانية والاجتماعية على المرأة دون سواها، لتتحول القيمة إلى سلطة قمعية لأنها من صنع الرجل.
تحكم الكاتبة على (يمينة) بالموت وذلك في إشارة إلى أن استمرار الأحداث الدامية سوف يقضي على الوطن، وتعزز هذه النبوءة من خلال الجملة الأخيرة في الرواية حين تقول على لسان البطلة إن الوطن كله مقبرة، ولعل الفترة التي خطت فيها الرواية يجعلها تقع ضمن تصنيف (الأدب الاستعجالي) الذي لا تكون فيه الصورة النهائية للأحداث واضحة تماما، ولكن النص بهذا الشكل يمكنه أن يكون وثيقة تاريخية للحدث فيدخل ضمن تراتبية زمنية للأحداث الواقعة وللأفكار والرؤى والأحاسيس المصاحبة له في حينه، مما يجعل خلفية الحدث التاريخي أكثر وضوحا فيسهم في تحسين مستوى القراءة النقدية له ( فتحت جريدة ذلك الصباح ورحت أقرأ أخبار الموت، قلبت الصفحة فازدادت أرقام الموت... أغلقتها متأفف، فعلق رجل بقربي: أجريدة هذه أم مقبرة؟ أجبته: الوطن كله مقبرة !) الرواية ص 95، 96.

ــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم