"حين جاءت سلمى أخفق الهواء". إحدى عبارات الوله بين عاشق ومعشوق من رواية "ديناميت" للسوريّ زياد عبدالله، الرواية الصادرة عن دار المدى 2012.. لمَ فجر أحمد البطم نفسه كيف يمكن لشخص مثله أن يفجر نفسه؟ لم َ غاب غسان البراني ذاك الغياب الغامض مثل حكايات البحارة الغريبة ولم مات أبو سلمى بهذا الشكل الدرامي أو السحري حد الخرافة. مات وهو يرتدي البزة الموشومة ب خ ح س (الخطوط الحديدية السورية) مات بعد أن فاته تدشين سكة القطار في رحلته الأولى بين اللاذقية وحلب.. قضى عمره وهو ينتظر عبورا لقطار للطرقات التي أيضا استهلك عمره وهو يتعذب بمراقبتها والعمل بها. يموت وحيداً. لم جُنت سلمى؟ مثل هذه الأسئلة هاجمتني وأنا أنحدرُ مع مصائر شخوص رواية "ديناميت". غير قادرة أن أترك النص خوفاً من أخسرهم كبشر حقيقيين لكن في مثل هذه الأيام التي نعيشها والتي تبدو وأحداث "ديناميت" كرواية متل صدى مفرقعة خفيفة بمقايسة حجم الرعب والموت القادم من سوريا يصبح هذا السؤال ترِفاً وهشاً.. من الغريب أصلاً ألا يموت الجميع أو ألا يصابوا بالجنون والانفجار والغياب.. فهم لم يعيشوا أو يجربوا إلا ما يمهد لهذه النهايات السوداء.. أبو سلمى الفقير، فقير كل شيء ربى وحيدته سلمى بين الثكنة العسكرية التي عاش فيها فترة قصيرة وبين مكتب السكك الحديدية. لم تعرف معنى للطفولة ولا للاستقرار أو للطمأنينة. بعد وفاة أمها التي لا تتذكرها لكن الجميع يذكرها بجمال أمها القرباطية وقد ورثت عنها سلمى الجمال الذي سيكون نقمة عليها وعلى حياتها القادمة. ستتزوج سلمى من الطوربيد الصديق الوحيد لأبو سلمى وقد سمي بالطوربيد لسرعته في السباحة ولقوته وبأسه. ستقضي سلمى الصبية الجميلة أياما عسلية مع زوجها غسان البراني.. يتذوقان تفتحهما بسعادة ودهشة ورضا، كل منهما يقطف ثمار شريكه ليشتهي أكثر. لن تدوم سعادة سلمى طويلاً سيغادرها غسان البراني في رحلة طويلة لتقع في غرامها المحموم مع أحمد البطم أحد معارف زوجها الكُثر. لكن أحمد يختلف عن الجميع من صحبة زوجها. لا يلعب مثلهم الورق ولا يتصرف مثلهم. أحمد يحترمه الجميع وأنيق ولطيف.. ستعيش سلمى انعطافاً غريباً في حياتها.. بغراميات مشتعلة مرة ثانية.. تتوج بحمل من أحمد البطم.. العازب الأبدي. ناسك العلية.. الهارب من غنى أهله وترف يرفضه كحياة منتقيا علية بسيطة ملأها بكتبه وجرائده وملصقاته وعشاً للحب الجديد.. يحدث التحول المفاجئ والحاد بعلاقة أحمد وسلمى بإعلانها حملها مدعية بأنه من غسان البراني في إحدى زياراته الخاطفة. بتطامن وقبول غير معلن منها تبقي على الحمل وترفض رفضا قاطعاً أن تتخلص منهلكن أدهم سراج صديق أحمد وأحد أعيان اللاذقية.. يعرف أن أحمد البطم هو الأب الحقيقي والشرعي لجنين سلمى.. يغيب أحمد عن سلمى ويهجرها لتعيش فترة حملها وحيدة.. سجينة خيالاتها وانتظارها اليائس لأحمد ولغسان ولذكرى والدها مع أشباح الرجال الذين تركوها وعرضة لتخمينات أهل الزاروب وعاملات الريجي.. المعمل الذي وظفها فيه أدهم سراج. كثيرا ما تهكمت باكية وهي تشتم أحمد البطم" الواطي تركني وما سأل فيني" ستلد سلمى طفلاً ذكراَ تحارُ كثيراً في ملامحه. لكنه سعيد ويضحك. “حبيبي ما بيبكي ما بدو يزعجني".. لطالما خاطبت طفلها ونفسها بذلك. يجهد أحمد البطم برؤية سلمى بعد الإنجاب ولا يقوى على حمل الطفل طويلاً ويغادر للأبد.. لعزلة تطول تتخللها محاولات كتابة لسيرة اللاذقية عبر شخوصها ومصائرهم الغريبة أريد أن أْؤرخ لهذه المدينة كثيراً ما ردد لنفسه في أحلام يقظته وهلوساته بألقاب الشخصيات الحقيقية. بتاريخها الروماني والإسلامي والمسيحي عن أديرتها والقوس الروماني والكورنيش عن البروفسور والأستاذ الياس.. والشاعر وسلمى وغسان البراني. يكتب ويمزق ويلوث جسدهُ بمزيدٍ من التبغ. والأرق. فجأة تظهر سعاد المرتجى.. أم أحمد. وفجأة نعرف أن أحمد وحيدها سليل عائلة ثرية. أحمد الذكر الوحيد الآتي إلى عدم انتظار الأم الراغبة بذكر وكذلك الأب الذي يموت من فرحه. كما تعبرُ الأم التي ترفض الزواج من أخ زوجها الثري والذي يغادر البلد لفرنسا كي يبتعد عن أم أحمد زوجة أخيه ويتقاسم الثروة الطائلة مع الأرملة وأولادها الثلاثة أحمد وأختيه. تحضر سعاد كصورة للأم الخرافية بحبها، ترافقه للمدرسة، تنتزعه أحيانا من الحصص ساخطة من أسلوب التدريس. الباكية خلفه في سيارة عمه عندما حاول إرساله لمدرسة داخلية في لبنان تُستبدل بمدرسة مسيحية باللاذقية.. السيدة المنعمة. ترعى زهور الحديقة.. لا تيأس من انتظار أحمد بشكل مفاجئ كي يكافئها بتناول وجبة غداء أو مبيت في البيت العائلي. تفاجئه بالحمام وتفرك له ظهره وتقول له: "شو فكرت حالك كبرت" أحمد هو حياة سعاد بكل ثانية.. أحمد سيتزوج. أية سعادة! نجوى بنت خالتي يفاجئ أمه. ألم تكن هي الفتاة التي حلمت دوما أن تزوجيني إياها.. وأحمد العازب الأبدي سيتزوج بطريقة غريبة وشروط أغرب. لا ترتدي فستاناً أبيض. لا تنامي في بيتي ليلة الدخلة.. الجميع وافق على تلك الشروط خوفاً من أن يغير أحمد رأيه. ستمر على أحمد ونجوى سعادة هائلة سيستغربها هو نفسه ويتساءل لمَ فوت على نفسه هذه المدة كل ما يتمتع به الآن. أما سلمى باتت شبحاً خفيفاً لم يشكل له أي عبء.. حين يفاجئ الذاكرة. هي التي قال عنها “حين جاءت سلمى أخفق الهواء".. تتسارع أحداث الرواية في الخمسين صفحة الأخيرة لتسدل الستارة على حيوات الشخوص كلها.. بزمن قصير ومتسارع.. تتحول مدينة اللاذقية لمدينة أشباح. مطاردات وتفجيرات ومنع تجول بعد بروز نشاط الإخوان المسلمين. قتلوا الشيخ يوسف صارم أمام المسجد. تعزيزات مكثفة من قبل سرايا الدفاع.. قنص.. اعتقالات بالجملة لا تسلم منها حتى سلمى وابنها الصغير؟ لتفهم سلمى بعد فترة أن غسان زوجها الغائب صار عضواً بتنظيم الإخوان المسلمين واعتقل في طرابلس ويقولون انه أعدم.. عبودة، (عبدالله) ابن سلمى وأحمد البطم يكبر على غياب كل الذكور الذين صنعوه وصنعوا سيرته وتاريخه ومستقبله. أين أبي يقف على البحر ويصرخ بأبيه أن يخرج له من البحر.. من هو أبي؟ أليس أدهم سراج؟ الذي يغدق علي في كل شهر مبلغا كبيراً؟ نعم أنا ابنه وهذا هو سر اهتمامه المبالغ فيه وسر تعلق ومحبة ابنه سامر لي أنا أخوه؟ يصرح أدهم سراج لعبودة عن أبوه الحقيقي؟ إنه أحمد البطم وترك لكما ثروة طائلة تمكنك من السفر والدراسة في أي مكان بالعالم.. لحظة تحول هائلة بمخيلة عبودة.. من شخص مجهول التاريخ والأب والأم إلى شخص ثري سيفعل كل شيء.. ويحطم كل شيء وينتقم من كل شيء "ديناميت" هو عنوان معبر ودال على لاذقية الثمانينات والتي هي صورة مخففة عن حماه الثمانينيات وسوريا الثمانينيات. ربما تصلح لتكون نيغاتيف لسوريا الـ2011 وما تلاها.. أو نواة ما تكشف لنا من أسلحة وأدوات فتك تحصد أرواح السوريين يوميا.. تفتت أحمد البطم في عليته كسكمة انفجر بها إصبع ديناميت، ذاك التفتت الذي كثف رؤيته لحياته وخياره الواعي أو اللا طوعي بأن تنتهي حياته بهذا الشكل المُر بعد أن ماتت أمه بين يديه.. تفتت أحمد البطم هو رمز لتفتت سوريا التي لا يراد لها إلا أن تكون سمكاً في بحيرة المستبد. هي رواية سيرة مدينة لا يراد لنا أن نعرف عنها إلا ما يشوه صورتها. أقولها وأنا من مكان لا يبعد سوى ساعات عنها وكانت تبث في قلبي الخوف دوما.. سيرة مدينة مكتوبة بحب كبير ورشاقة معلنة تربطك من أول سطر لآخر سطر بخيط شفيف ومتين وأنا كقارئ لا أريد لأحمد البطم أن يموت لا أريد لسلمى أن تُجن لا أريد لعتاب اللعوب أن تسر ق عبودة، لا أريد لهذه المدينة أن تنتهي بهذا الشكل. يشار إلى أنّ زياد عبدالله كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحررها. صدر له: "الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (مجموعة قصصية، منشورات المتوسط 2016)، "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب – قصائد تشارلز بوكوفسكي" (ترجمة، منشورات المتوسط 2016). ـــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة وشاعرة ومترجمة سورية مقيمة في بريطانيا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم