تعد رواية (أموشي) واحدة من الروايات السودانية التي نالت شرف الفوز بجائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي، في دورتها الخامسة 2015م، يتناول مضمون الرواية منطقة (قيسان)، التي تقع على الحدود الفاصلة بين السودان وإثيوبيا، من هنا نال المكان كتقنية روائية اهتمامًا خاصا وبرز كعنصر أساسي في بناء الرواية، إذ المكان الذي يسكنه الشخص ما هو إلا مرآة عاكسة لطبائعه وصورة مجسمة لثقافته، فالمكان يكتسب صفة المجاز المرسل القائم على العلاقة المحلية، بمعنى أن الساكن هو المسكن نفسه. وتكاد تكون هذه الرواية رواية مكانية من خلال تشكيلها لعالم المحسوسات الذي يطابق عالم الواقع الحقيقي وقد يخالفه، فاذا شابهه فهو شبه خاص يخضع لمعطيات وخصائص المفردة التصويرية ، التي تشير الى الواقع ولاتنقله نقلا حرفيا بكل حذافره، وإنما خلق عالم جديد له خصائصه الفنية ودلالاته الجمالية، التي تميزه عن عالم الواقع من ناحية - المنظور والمحتوى والشكل- بيد أن هذا لايتم بطريقة آلية تكون طبق الأصل لما هو موجود فعلا، إنما عن طريق التحوير الذي يقع على المادة الخام ونقلها من معناها الحرفي الضيق الى معنى خيالي واسع، يتم توظيفه في القص الروائي توظيفا خاصا . سأقف هنا عند عنصر واحد من عناصر البناء الفني للرواية ألا وهو الراوي، بحكم أنّه المنوط به نقل الوقائع الروائية ونقلها في قالب لغوي سواء أكان شفاهة أم كتابة، فالراوي هو الذي يمثل صوته محور الرواية وعمودها الفقري الذي لايمكن أن تستقيم إلا به . ومن هنا يجب أن نفرق بين الراوي للأحداث وبين الكاتب الحقيقي ، فالراوي شخصية متخيلة شأنه في ذلك شأن بقية الشخصيات الأخرى في الصنعة الروائية ، يتوسل به المؤلف في تأسيس عالمه الروائي، لتنوب عنه في السرد المحكي وتمرير خطابه الفكري والثقافي والاجتماعي، بغية لعبة الايهام بواقعية ما يروي . ذلك أن عملية التلقي لدى القاريء تحددها حجم المعلومات التي يقدمها الراوي للقاريء والكيفية التي تقدم بها المعلومات ، فكلما برز دور الراوي ضمر وانكمش دور القاريء في عملية الابداع والخلق للأثر الأدبي ، والعكس صحيح كلما تضاءل دوره كبر دور القاريء وازدادت مشاركته في العملية الأدبية . وقد جرى التفريق في النقد الأدبي الحديث بين ثلاثة أقسام من أنواع الرواة وهم: 1/ الراوي المجاوز 2/ الراوي المجاور 3/ الراوي الضمني فالناظر في رواية (أموشي) أنها اعتمدت على الراوي المجاوز أو الراوي العليم الذي يتميز بكونه يعرف كل شيء عن شخصيات الرواية ، وبالتالي تكون معلوماته أكثر من المعلومات الشخصية عن نفسها بما في ذلك أعماقها النفسية ، فهو يخترق جمجمة الشخصية الروائية ويطلعنا على أفكارها وما يعتمل في داخلها من مشاعر وأحاسيس ، ويغوص في مكنونات النفس ليتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الأسرار وتستوي لديه في ذلك جميع شخصيات الرواية على اختلاف مستوياتها الفنية – الرئيس منها والثانوي – إنها بالنسبة إليه مثل كتاب مفتوح يطالعه أنى شاء؟ من أجل أن يزودنا بتفاصيل عالم يهيمن عليه بشكل تام حيث يقول عن أموشي (مضى بخفة نحو مسكنه الجديد ووضع الصفيحة عند أحجار المنقد الثلاث (كذا) والعصا أ سفل البرش ويسراه مسندا، شخيره المنتظم أبعد الفضوليين عنه وسافر مع أحلامه يرسم غدا آخر ) الرواية ص28 . بيد أن الاعتماد على راو عليم تعرض للطعن والنقد من قبل بعض النقاد لما له من انعكاسات سالبة على تماسك العمل الروائي ووحدته (وأكثر تقاليد القصة شيوعا هو الكاتب العليم بكل شيء غير أن أبسط تلميح من الكاتب العليم الى كونه عليما يكفي لمسح وهم الحاضر التخيلي الذي حرص على إيجاده) يمنى العيد – تقنيات السرد الروائي، ص122 ليس هذا فحسب بل ذهب أحد النقاد الى أن هذا النوع من القصص يؤدي الى خلخلة بنّية القصة وفقدان الترابط العضوي بين أجزائها، وعزى ذلك إلى أنّ هذا النوع من القصص أدى الى التفكك وعدم التناسق (حيث إن الانتقال المفاجئ من مكان إلى مكان أو من شخصية الى شخصية أخرى دون مبرر، أو دون الانطلاق من بؤرة قصصية محددة تكون النتيجة التشتت وعدم الترابط العضوي بين المقاطع المختلفة) سيزا قاسم، ص81 وبالرغم من انحسار دور الراوي العليم في الرواية الحديثة - وبروز صوت الشخصية في العمل الفني الروائي اضافة الى بروز دور المتلقي بشكل واضح – إلا أن هذه الرواية تحمل مفاهيم الراوي العليم الذي تجاوزه النقد الحديث ، إذ نجده مقحما نفسه على الشخصية الروائية وفارضا رؤيته على القارئ ومسيطرا على النص القصصي، فأحيانا مفسرا ومعللا لأفعال وأقوال الشخصية، وتارة يكون واعظا للمتلقي ، وأخرى شارحا ومعقبا على النص الروائي جهلا بمعلومات القاريء أو اعتزازا بما يملك من معلومات وافرة لا يستطيع أحد أن يدلي بها إلا هو، وذلك كما ورد في آخر الرواية شرح لبعض المفردات والكلمات (انظر ص 194-200من الرواية) . فتدخل الراوي في أفعال الشخصيات وأقوالها أدى الى ضعف الشخصية الروائية لأنها لاتتحدث بلسان نفسها ولا بمستواها الاجتماعي، إنما ناب عنها الراوي بالممارسات التي يفرضها عليها، فأمست هذه الشخصيات مجرد أداة جامدة لتقديم الأحداث المتراكمة التي يريد الراوي العليم تقديمها. أما المتلقي فقد انحسر دوره واقتصر على التلقين فقط، ومن ثم أخرج من دائرة المشاركة الايجابية والتفاعل المثمر في الأحداث الروائية ولم يترك له فرصة التفاعل مع النص الروائي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ناقد وأستاذ جامعي سوداني، عضو لجنة التحكيم في جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم