تعطي الروائية المغربية زهور كرام في روايتها المبكرة هذه مساحة غير صغيرة لما يسود الواقع المغربي الذي تعيش فيه والوسط المهمش الذي تنحدر منه ، ليس فقط لما يعانيه المتساكنون من ضغط الحاجة أو ما يتخذه بعض المناضلين من المواقف، وإنما من خلال ما يقبل به البعض الآخر من التعاطي مع الشروط الصعبة والمؤثرات القوية والمغريات الكاسحة ، وإن ذلك ليبلغ ذروته عبر العملية السردية عند بلوغ الفصل الذي وسمته بعنوان الجسد يدخل المزاد العلني، عندما اقتضت الحاجة أن تسعى أشهر شخصيات الرواية للحصول على جواز السفر الذي يمكنها بواسطته أن تعبر حدود الوطن إلى العالم الآخر ، حيث اللحاق بأي بلد بلاد الله الواسعة أن من أجل السياحة ومحاولة التبضع أو للاستفادة من المتاح في تلك العوالم من فرض العلم وحتى الدخول بالجسد في المزاد العلني الأرحب ، حيث توفر المنافسة غير المتكافئة واختلاف الباحثين عن الأجساد في الإقبال عليها ، مما يجعل ذوات الخبرة أكثر قدرة على الاستفادة من هذا الجسد ، لا فرق أن يكون ذلك بمقتضى المقومات المتعلقة بالجسد ذاته أو الروح التي تطبع سلوكه وتضاعف من قدرته على المنافسة عند ارتفاع وطيس معركة المزاد العلني والسري أيضا . فقد أوجدت مراجعة صاحبتنا لمكاتب المسؤولين عن البت في طلبات الراغبات في استخراج الباسبور بعد تقديم مستنداتها كاملة غير منقوصة أن تقضي المشاق الطويلة جيئة وذهابه قبل أن تنال طلبها هذا الذي هو حق مشروع أو هكذا يجب أن يكون لمجرد أن تستكمل المستندات الضرورية لاستخراجه، كانت تعتقد أنها صاحبة الحق في الحصول على ما تريد لمجرد أن قدمت مستنداتها، ولكنها ما لبثت أن اصطدمت باستحالة تحقيق ما تريد، فثمة مستندات أخرى تدركها هنا وتنصح بها وتلح في النصيحة اللاتي يجلسن بين الصفوف ويخترن بين الحين والحين ما يمتد من طوابير المراجعين الذين يغدون ويروحون أملاً في أن يصلهم الدور ويخرجوا حاملين ما تقدموا من أجله ، فيعودون خالين الوفاض لأن الاستجابة الخاصة بأمثالهن تحتاج إلى الانتظار أما اللاتي يدركن الطرق الأخرى فإن مضيهن نحو المطلوب يسير المنال، لقد استجابت آمال لنصحه حدا لهن لضرورة الدخول على المسئول بتسريحة تختلف عن التسريحات الشائعة وشيء من الزينة التي تلاءم التسريحة والدخول في الحوار الذي يكون عادة من المكملات ومن ثم التسريع بالمطلوب ، وقد كلفها ذلك ما كلفها من الخروج على ما لديها من القناعات المتعلقة بأحقيتها في الحصول على ما تريد ما دامت صاحبة أوراق مكتملة فتحدثت أو قدمت أو أهدرت ما كان يجب ألا يهدر ، ففقدت من ثم ما فقدت ، بل وحملت من الأثقال ما حملت ، فقدت تعيش هموماً مجتمعة ، هموم نتجت عن التفريط في الأسس العقلية والسلامة الجسدية فكان أن حملت المرارة وتجرعت كأسها ، وعبرت بطبيعة الحال عن أعداد كبيرة من أمثالها من الضحايا اللاتي فقدن الأعز وضيعن الأغلى لأن الطاحونة أكبر من الجميع ما قدر على جرف الجميع ، فكان الحوار الذي تم على أكثر من صعيد أن كان ذلك مع الآخر أو مع الذات الضحية تعبيراً بليغاً عن نوعية الخسارة وحقيقة المأساة التي طالت آمال وجعلتها تجيد التعبير عن مأساة جيل كامل من الفتيات اللاتي وقعن في الشرك فلم يخسرن الذات وإنما خسرن الموقف وجرفهن البيع في المزاد العلني كما عبرت الراوية بدقة ووعي وإدراك . لقد تضمن السرد تفصيلات كثيرة عن تلك العوالم التي بدأت من صالون ميلودة الذي لا يكتفي بقص الشعر واقتراح الموضات المتعددة ، ولا يتوقف عند اختيار الزيوت المناسبة لهذا الشعر وذاك كما حدث لآمال التي عبرت من مكانها هذا إلى عوالم أخرى ليس خارجها التدخين ، وتدخين الكيف بالذات وثمة وصف دقيق ومعبر عن التجربة الأولى ، وهي تجربة قد لا يختلف أمامها من يقدم عليها من الجنسين وأن تكن الأنثى أكثر قرباً من الاهتزاز الشديد إلا أنها من حيث الحالة الإنسانية لن تكون إلا شاملة، إلا أن الصالون لا يتوقف عند هذه الواقعة وحدها فقد رأيناه يتحول إلى صالة عرض لأحدث السلع الخاصة بأحدث الموديلات من ملابس الإغراء، وهي تعرض هنا ليس من أجل الاقتناء وحده بدون شك وإنما لما بعد الاقتناء وما يتخلل ذلك من الترتيبات والتي – كما عبر النص – ستجعل المسئول يقول " شبيك لبيك عبدك وربما بسبورك بين يديك " ولكن سيعبر إلى أقصى من ذلك إلى حيث العوالم الأخرى التي رأينا أحدهم بدخلها حين تبدلت به الأحوال وغدا يرتدي أنظف الملابس لولا أن هذه النظافة ترتبت عليها وساخات أخرى اكتشفها سعيد الخارج من السجن بسرعة عندما التقى المجموعة ذات يوم ووقف على ما حل بها من المتغيرات مما جعل آمال تستدعي في هذه المفارقات مجتمعة بما في ذلك عبور مجتمع ميلودة وعبور تجمع سعيد المتماسك والمتشبث بخياراته وإبراهيم الذي اهتز على ما يبدو وبعض الشيء وهو يكتب رسائله لآمال ، وآمال نفسها التي تكاد تختفي خلف أكثر من قناع ، فالجسد هو مجموعة الأجساد والمدينة وطن كامل . كان العبور قبل هذا التاريخ وفي زمن الانشغال المسئول تجاه الوطن انطلاقا من الحي الصغير الذي كانت المستنقعات تحيط به من كل مكان يختلف عن العبور الذي أقدمت عليه آمال وهي تتطلع إلى استلام الباسبور الذي أرادت من ورائه الخروج من الواقع المعايش كله كي تصل إلى عوالم أرحب وأحياء أحدث ، ففي ذلك الزمن كان التطلع إلى العبور يعني الوطن كله ويعني الحوار الذي لا يتوقف مع تلك الشرائح حول ما كان يعانيه الجميع من مصاعب . أما في الزمن الجديد فقد أصبح الأمر مختلف كل الاختلاف ولهذا جاء السرد مفعما بكل ما هو مخيف ومحير وباعث على القلق من العواقب، ففي ذلك الزمن رفضت آمال قبول دعوة صاحب السيارة الفخمة الذي توقف إلى جانبها والمطر يهطل في الشارع والأحوال تعوق السير ، عارضا عليها امتطاء السيارة ليذهب بها حيث تريد حتى لا تهلك جراء البرد، بل وذهب إلى أكبر من ذلك فتمادي قائلا عن إمكانية التوجه على حي من الأحياء لقضاء وقت أسعد ، فما كان جوابها إلا أن رفضت في إباء وشمم ، بل ولم تتردد وحين لم يفلح عن مضايقتها وهي تسير في الشارع إلا أن توبخه على فضوله ذاك ، وإذ لم يرتدع كان ردها أكثر عنفاً وتجاهلها أكثر قسوة على إلى أن وصلت البيت ودخلت وهي ترتجف من البرد والمطر الذي غمر ملابسها حتى بدت وكأنها غسلت لتوها بالماء ، أما الآن فقد كان العبور مختلفاً كان العبور إلى فضاءات خالية من أوحال الطبيعة ولكنها غارقة في أوحال يعجز عن وصفها كل من يستشعر سوء تلك الفضاءات وأثرها القاتل لكل ذي همة ، فنحسها كما لو كانت تصرخ ألماً وحزناً واستشعار الخجل الذي يقتل النفس ويعيدها إلى الحضيض . " يغرق الجسد وسط أدخنة السجائر ورائحة الكحول المختلطة مع العرق المتصبب من البطن المنتفخ ، تشعر آمال بالقلق .. بالاختناق.. بثقل محل يخنق أنفاسها تحاول أن تحتج .. تذوب همسات الاحتجاج مع عنفوان الاحتكاك .. احتكاك الأمواج ببعضها .. تشعر بالحصار .. أصوات وأدخنة ورائحة العرق أصابها الإعياء.. أثقلها الثقل ، عبثا تحاول الانفلات .. لقد تمت محاضرة الجسد، يمتلئ المستنقع ، تفيض المدينة .. تحاصر المدينة، المستنقع صار حصارها، تصرخ آمال بداخلها ، تخاف إعلان الصرخة .. تخشى الفشل عند أول بداية، الفشل من ماذا .. لم تسأل نفسها فالغطاء الحريري تنبعث منه رائحة كريهة .. يشهد أنها أسلمت العرى بدون رغبة، لم تسأل نفسها ، الفشل هو الفشل ، مهما كان موضوع الامتحان . " هذه النقلة أو العثرة والمجازفة ، الكل يصفها بما يحلو له من الوصف لم تمر عرضا بآمال أو أتاحت لها من المسرة ما صرفها عن مراجعة الذات شيء من معاتبتها أو تذكيرها بما لدى من التقت في هذا الأفق من جدوى الوضوح ولذته أن شئنا بعكس الموقف المزدوج حيث تكون المفارقة بين ما يمارس عمليا وما يطرح نظرياً فتبدو المأساة شديدة الوقع لكل من أمتلك نعمة العودة إلى الضمير ومراجعة ما جرى ويجرى في شيء من الشجاعة مع النفس والإنصاف الشجاع للآخرين أذلين هم الأخريات بالطبع ، فالسرد هنا يحمل الكثير من البوح الذي لا يكابر في الاعتراف بحقيقة ما ارتكب وبالأحرى ارتكبت الساردة منذ أن قبلت العرض الذي تلقته من صاحبة الصالون " ميلودة " وما أدى بها إلى القول في الخصوص . " كان ذلك بداية عبور السيدة ميلودة إلى عالمي، لم تأخذ ثمن التسريحة بدعوى أنني ابنة الحي ولأول مرة أسرح فيها شعري عندها، قبلت كرمها بصعوبة لأني خفت ، فقد علمتني المدينة التي صارت تأكل بنهم أنها لا تعطي إلا لتأخذ أضعاف ما أعطت ، طلبت مني أن أزورها خلال الأسبوع .صرت مدمنة على الصالون ، أتردد عليه كثيراً ليس انشغالاً بشعري ولكن انشداد إلى عالم نساء الصالون ، بدت لي المدينة خلف كلا مهن وفكرت لو جمعنا نساء كل صالونات المدينة ثم طلبنا منهن الحديث عن أنفسهن، ترى كم حكاية ستعري وجه المدينة ! وأنا التي توهمت أني أحمل المدينة سراً .. قد يكون في هذا من أسباب اتساع المستنقع وبقاء المدينة بعيدة عن السؤال الكبير الذي تنحته كل الأصوات، لذا بدت لي وجهاً آخر خلف أحاديتهن " . لم يكن ذلك وحده ما استوقف آمال في تجربتها هذه وما تلا التجربة من ألم لم يتوقف عند الجسد ولكن امتد إلى أكثر من ذلك، غير أنه جعلها تتأمل حين قررت تدوين ما رأت وما لمست بالطبع، مما جعلها تعيد الحديث إلى النفس " إنك تتورطين في التناقض، قد يكون النوم فرصة اكتشاف الرجال تجعلك تبررين التأجيل.. على الأقل هن واضحات وضوح النهار عيبهن أن حكايتهم عنه يلتقطها فراغ الصالون . هل تخشين تدوين الاعتراف في اللغة، هل لهذا السبب هن متحررات لأنهن خارج التدوين " . لقد دخل الجسد عوالم المزاد العلني فأمكن الوقوف على الوجه الخفي من تلك العوالم التي تدار بواسطتها أمور ذلك المجتمع بدءً من استخراج جواز السفر، ووصولا ربما على تسمية أولئك الذين يخونه حمل النصف بعد هذه المقاطع ما يدفع نحو أفاق أكثر صعوبة وتجارب أشد قسوة ومتغيرات طالت الأسماء مجتمعة، أن بدخول سعيد السجن وبقائه فترة خرج منها مضطرباً بين التماسك ونقيضه، أو بإقدام إبراهيم على الانتحار في ناحية من النواحي البعيدة حين لم يستطع التعاطي مع الواقع، كما أرادوه فأوجد ذلك كله تعاملا أكثر مواجهة مع حقيقة ما كان يجرى بواسطة آمال التي وإن تكن الظروف قد ساقتها إلى مجتمع عين الذئاب وعوالم صالونات الحلاقة ، حيث تتردد عديد الأصناف، إلا أن السرد ما يلبث أن يفلح في طرح الأسئلة الحقيقية ، طرح لا مكان فيه للقسر أو فرصة الكلام على الأفواه ولا حتى المواقف وإنما هو ذلك الذي يدفع نحو المزيد من التحدي والمزيد من المواجهة والإصرار على الوصول إلى شاطئ الأمان . بقى أن نسجل التقديم المرافق الذي صدرت به زهور كرام روايتها هذه التقديم المكثف الذي سطره قلم الناقد والباحث المتميز في دنيا السرد " سعيد يقطين " والذي يعد بحق خير ما يحفز على قراءة جسد ومدية لزهور كرام وانتظار ما قد تقدمه وبما تكون قد تمكنت من تقدير بالفعل إلى المدونة السردية المنطلقة من واقع مدن المغرب وما يتفاعل داخله من صراع من أجل حياة تسودها الحرية ويستطيع الكاتب أن يقول حولها ما يعن له دون أن يخشى زوار الليل وإكراهات الانتحار.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم