في توازن ملحوظ بين اختيار الموضوع و الكتابة عنه، و على قاعدة أن موضوع الأدب و طريقة صياغته يمكن للمبدع أن يتوصل إلى المضمون الأجود، يفلح المثقف الموريتاني المعروف الأستاذ محمد ولد أمين، في إنجاز روايته - منينة بلانشيه - الصادرة ضمن منشورات دار الساقي، هي رواية تمكنت من قراءتها في الآونة الأخيرة و بالنسخة التي حملت طبعتها الأولى المؤرخة بالعام 2014. و قد جاءت خالية من أي إشارة حول ما إذا كانت الأولى في مؤلفات محمد ولد أمين أم أن له غيرها في دنيا المؤلفات، فقد وقفت صفحة التعريف عند القول بأن المؤلف كاتب و روائي و حائز على الماجستير في العلوم السياسية و الحقوق من جامعة لوفان ببلجيكا، و قد شغل من المناصب الإدارية وزارة الاتصال و العلاقة مع البرلمان، و وزيراً مستشاراً في رئاسة الدولة. و مع أنه في عداد الخبراء الدوليين في قضايا الأمن الإقليمي، إلا أنه اكتفى على ما يبدو أخيراً بمزاولة مهنة المحاماة في بلاده موريتانيا. و أشهد أنني سُعِدت أيما سعادة بقراءة هذه الرواية الممتعة عندما وجدتها في الركن المخصص لجنس الرواية في مكتبة الفرجاني الجديدة التى افتتحها منذ مدة في شارع ميزران الشهير بالعاصمة، تلك المكتبة التي أعادت إلى الذاكرة الثقافية إسم المرحوم محمد الفرجاني ذلك الرجل الذي بدأ مشواره من الكتاب "بيع و نشر" و الصحف و المجلات في مطلع النصف الثاني من القرن ىالماضي، إذ كانت المجلات المصرية حتى ذلك التاريخ من مشمولات آل المشيرقي. ففي تلك الأيام كان محمد بشير الفرجاني أحد مُدرسي الضهرة الذين استهواهم النشاط النقابي شبه السياسي و الذي كان من بين العاملين فيه أمثال المرحومين سالم شيتة و محمد دخيل و محمد بوزيد الشريف و محمد بشير الشريف، فتطور الأول إلى أن قاد الحركة العمالية على مستوى البلد و انصرف الآخرون إلى أنشطة أكبر، و ذلك بعد أن ضم أربعتهم المجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب في هيئته الثالثة، حيث شهدت قاعة ذلك المجلس أحد المناقشات التاريخية، كشؤون الصحافة من خلال المجلس التنفيذي الطرابلسي لصحيفة الليبي الشهيرة و العمل النقابي من خلال طلب للمناقشة أفاض فيه المرحومان على الديب و سالم شيتة، و لم يتحرّج هذا الأخير من صب جام غضبه على المحامي الإيطالي جيبيلِّي أحد الياساريين الإيطاليين الذين بادر بتصفيتهم الإنجليز تحسُّباً لأي جهد من شأنه تخفيف الحساسية بين الليبيين و الإيطاليين في دولة الإستقلال و من موقع دعوة الإيطاليين إلى الإندماج في الواقع الليبي الجديد و الذي من أول شروطه إستنكار جرائم الفاشيست و هو ما حاول الإنجليز الحيلولة دون إيجابياته. و هذه على أي حال إستطرادة أملاها هاجس التاريخ الوطني و ما يبعثه عادة في النفس من القدرة على تجاوز لحظات اليأس و مشاعر الإحباط لرداءة الحاضر، و الذي كان من أول عوامل تغوله لاحقاً هو ذلك الإنصراف المبكر لتلك الأسماء و غيرها عن الشأن العام و ركونها إلى النشاط الخاص القزم و الذي لا يقضي عليه شيئ أكثر من عدم الإهتمام بما يحتدم في الحياة من صراع بين مختلف القوى السياسية و اتّخاذ موقف أكثر إيجابية بشأن المستقبل إذ لو حدث ذلك لما قُدِّرَ للتسيُّب أن يطال دولة الإستقلال. و من الواضح أن المؤلف، حين لم يدون في كتابه هذا تعريفاً عن سابق مؤلفاته، سرداً كانَ أو دراسة، شِعراً ربما أو قصة، إنما أرادَ أن يترُك نصه الروائي هذا يتقدم إلى قارئه مباشرة، ثقةً منه بدون شك أن مثل هذا المنحى، سيتكفل بتقديم مؤلِّفه و ما عساه أن يكون له بعد ذلك من مؤلِفات فالمثل دائماً يُضرَب بالمفرد. و الحق إن القراءة هنا تؤكد من البداية لمن يُحسن القيام بها وجود كاتب واضح التمرُّس و في مجال الرواية على وجه التحديد، على قاعدة أن الرواية عندما يطرق المبدع بابها عن وعي لن يعجز عن تبليغ متلقيه بكل ما يطمح إليه من إكمال شروطها، إن لم يكن في حدودها القصوى ففي الدنيا منها على الأقل. و إذا ما إعتبرنا أن من معايير إكتمال الفن القصصي تَحَقُقْ المتعة كَمُحَفِّزْ على القراءة، بما يتوفر من سلامة اللغة و قوة التشويق و إغتِناء المُخيلة، و ما ينتج عن ذلك من إمساك بيد القارئ و دفعه إلى متابعة الأحداث و مسيرة الشخوص و قوة تعاملهم مع بعضهم بعضا، تناقضاً و إنسجاماً، صوتاً مفرداً أو أصواتاً متعددة، حضوراً أو غياباً فمن الممكن القول إن الرواية جاءت بكل ما هو قادر على الإثارة المُحَبّْبَة، فقد كانت " منينة " التي هي مركز الحدث قوية الحضور، بدايةً من جانبها الأسطوري كشاهدة من الشواهد العظيمة على الشخصية النسائية الموريتانية و قد نقول المغاربية و ربما الإفريقية عامةً حين أجادَت التعامل مع مِحنة الوجود القائم على التعامل مع الآخر الغازي و ما رافق وجوده من الإبتلاء الذي طالما حاصر الذات و فرض عليها أن تتعاطى مع الكثير مما نكره. و لكنها لم تعجز عن التملُّص من الوقوع في كل ما هو مكروه، فتخرج بأقل الخسائر و ربما دونها بالكامل على الأصح ليسوغ القول، و ربما بواسطة بعض الإقتباسات التي قد ندونها لاحقاً. إن كاتبنا قد أفلح في توظيف مخزونه التاريخي، التحريري منه و الشفوي، و ليس من المستبعد أن يكون قد أضاف إلى عمله من مخيلته أيضاً، و لا حرج عليه في ذلك، فهو بصدد إنتاج نص يهدف بواسطته إلى ترويج ما يطمح لترويجه من الرؤى و الأمر في هذا الصدد لا يتعلق بما يجب و ما لا يجب، فالتبليغ لدى الكاتب المُتمكِّن لا يدخل في التمنيات و لا حتى الهتاف و قبل ذلك المشاعر، إذ النص هو سيد الموقف و مما لا شك فيه إن الكاتب بإختياره لضمير المُتكلِّم في البناء العام لنصِّه وُفِّقَ أيما توفيق من حيث السيطرة على الحدث، إذ تماهى السرد مع السيرة و كادت منينة أن تتحول إلى والدة حقيقية و ما ذلك إلا لِمَا تَحَقّقَ لِلُعبة السرد من إستشعار الجدوى و لا عجب فمحمد ولد أمين الذي هو على هذه الصفة الإعتبارية في مجال الممارسة الحياتية و المقدرة الأدبية لا يملك إلا أن يوظف قلمه على هذا المستوى من الصدق و الجراءة و الإصرار على إدانة سلبيات ذلك المجتمع الذي لا يتحَرَّج من التفرقة العنصرية و من المجاهرة برفض كل أشكال الموروث الشعبي فضلاً عن النزاع الذي ذكره التاريخ الموريتاني حول ملابسات منينة بلانشيه و كيف عُرِفَت بهذا اللقب و ما ترتّب على ذلك من الخصام الحاد حول الراوي الذي هو إبن منينة و ما تجرّعه من كؤوس المرارة بين نسب العرق و نسب الرعاية و كيف رضىَّ كل طرف بما كان في حاجة إليه من ذلك الإنسان و الذي كان شغله الشاغل هو الوقوف على حقيقة وجوده إنطلاقاً من غياب أُمه، حتى لنراه لا يتحرّج من اللجوء إلى الطب النفسي و ما يتحقق له من تطور و قدرة على إقناع المُتلقي و هو ما لم يَرُق لمدرسة فكرية أخرى أفلح السارد في إستدعائها مُجتمِعة لتوصيل ما رام إيصاله من المعاني و ما يتبنَّاه من المواقف، و لا سيما بصدد الفوارق الطبقية التي تُثبِت الممارسة المعيشة زيف كل ما تلفظه الألسنة إزاء ما تقترفه الجوارح من أفعال سُوء مُتعمَّدة، نحو الطبقات الشعبية المسحوقة تحديداً، و على قاعدة ألا حكي لأجل الحكي و لا إمتاع لأجل الإمتاع، و لكنها الدلالة التي يحققها الحكي المُجَوَّدْ و يوُحي بها الإمتاع الناضج فإن المثقف الموريتاني يتمكن من التعبير عن طيف من أبناء موريتانيا ما يزالون يكابدون مِحنة التفرِقة و يدفعون ثمن غياب العدالة، ليس من أجل فعل أقدموا عليه و إنما من حقيقة كونهمم ضحايا أولئك الآباء غير المنصفين لذويهم، بل و المستفيدين من مأساتهم وجوداً و بقاءً كهذا الذي نقرأه عن مواطن يحمل إسم جوزيف في ذات الوقت الذي هو بَيولوجياً كما يقول الراوي أحمد، و ما ذلك إلا لأنه كان ذات يوم مصدر رزق لأولئك الأهل الذين أدركوا مِحنة منينة التي حملت لقب بلانشيه، و أفلحت في إمتهان التجارة و إستطاعت أن توفر ما جعلها تملك الأرض التي بُنيَّ عليها مقر رئاسة الدولة، و لكن هذه الحقيقة ما كان لها أن تكون و بالأحرى تُعرَف و يتم البوح بها لولا خضوع الضحية لتلك التجربة الطبية المريرة التي جمعت بين تجربة الصوم و قوة التركيز، و إهتدت في النهاية إلى ما إهتدت إليه من تفاصيل مُثيرة لم يتردد الكاتب من التصريح بها دون أي مواربة "أحسست بالحزن الشديد و لقد كُنت و ما زلت محلّاً لخلاف قانوني بشع حمل إليّْ الكثير من إزدراء الناس و إحتقارهم، و كيف لا و أنا ابن الغرابة الأول و نسل الفضيحة بامتياز" ، "المصالحة ألا أخلاقية و ألا شرعية جعلتني شخصياً غريباً و مُمَزقاً نفسياً، و قد تلقيت إثرها تربية مؤسفة و قاسية حيث عهد لي المُدعي الموريتاني إلى والدته أي جدتي البيولوجية، و لا أظن أن التنازلات الفرنسية التي تشبه حالة تفريط بحقي كمواطن فرنسي كان من الممكن أن تقع لو كان في فرنسا و الفرنسيين ‘حساس عائلي بالمعنى الأفريقي للكلمة" "24..26". صحيح أن المقاربة النقدية الأكثر سطوة في ثقافتنا العربية اليوم سترى في ما حمَله النص من محاضر قانونية و أحكام قضائية جنوحاً إلى دنيا الوقائع التي قد تقلل من القيمة الإبداعية، بإعتبار العمل الروائي في مسعاه للتألّق يعتمد المخيلة، و إن مثل هذا النوع من التضمين و إن لم يكن قائماً على النقل الحرفي إلا أنه سيذهب بالقارئ مثل هذا المذهب. بيد أن هذه المقاربة لن تصمد كثيراً أمام ما دأبَ على الجهر به في العقود الأخيرة من أن الإبقاء على الشكل الروائي الذي سادَ أدبُنا العربي منذ النصف الثاني من القرن الماضي قد تسبب في شيئ من السكونية إذ كان من المفروض أن يبقي السرد العربي الذي بدأ به القدماء و حفظه لنا موروث ألف ليلة و ليلة في دائرة التجريب أو التطوير و ليس الخلود إلى النص الذي ساد مدونتنا لأن ذلك يعني أن مدونتنا تكتب رواية أوروبية باللسان العربي و هو ما تَفطَّنَ إليه كُتَّاب أمريكا اللاتنية، بمعنى أن محمد ولد أمين ربما يكون قد وضع في إعتباره مثل هذا الجدل الدائر حول الرواية كَفَنّْ إستطاع بواسطة هذا النص أن يدخل مدونته المغاربية بجدارة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمين مازن: كاتب وناشر ليبي

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم