تتخذ الرواية أبعادها الجمالية من انطلاقتها نحو موضوعات متنوعة وتطويع اللغة كوعاء للأفكار والاتجاهات المُتعارضة، إذ يتبينُ ذكاءُ المؤلف في القدرة على تحويل الإشارات والتفاصيل اليومية الدقيقة إلى ركن أساسي في بناء عمله، ما يجعل المتلقي متوثب الإحساس لمتابعة المادة المسرودة، كما يبحث فيما يُفَرِدُه الروائي من مشاهد متنوعة عن المضمرات أو ما هو غير مصرح به مباشرة. يؤسسُ الكاتب والروائي الجزائري أمين الزاوي متن روايته «قبل الحُبِ بقليل» على ثيمات مُتَعَدِدة بدءا من موضوع الحب مرورا بالثورة وصولاً إلى العلاقة القائمة بين الإنسان والمدينة، ومحاولة صياغة وجهة النظر المختلفة لما تلقيناه من نصوص أجنبية حول مدينة وهران، التي تبدو في صورة أحد الشخصيات المحورية في نسيج هذا العمل، حيثُ تتوارد الإشارات إلى رواية «الطاعون» لألبير كامو، ما يفرض عليك أن تقابل بين صورتين لمدينة واحدة، الأولى هي ما تستدعيه بفعل الإشارة إلى «الطاعون» إذ ترى وهران غارقة في أمواج كئيبة تلاشت فيها رغبات الحياة أمام شراسة الموت. وفي الثانية تحتفي المدينة بالحياة مشرعة بابها على غير أهلها تجتمع فيها المُتناقضات، بحيثُ تكتسي مواصفات المدن الأُسطورية قبل أن ينقضَ عليها المُتطرفون.

المرأة المؤسطرة

لا يكتسب المكان طابعا أسطوريا فقط، بل أن القارئ يكون على موعد منذ اللحظة الأولى مع وجود أجواء موحية بأن ما تشاهده يتراوح بين الواقع والتوهم، إذ تستولي بنية حُلمية على اللغة حين يبوح الراوي بأنه يريد أن يلتقي بزوجة الجنرال في الحلم ويُحقق ما هو ممتنع بالنسبة إليه واقعياً، وذلك يكون ممتزجا بالخوف من سلطة الجنرال لأن ما يرغب فيه الراوي ليس انتهاكاً لشخص عادي، بل يعتبرُ اعتداء على الثورة وما لها من القداسة. تراودُ فكرة قتل الجنرال سفيان والاستيلاء على دار إقامته وسارة التي كانت مُضيفة للطيران وصارت زوجته الثانية، إضافة إلى صفية وهي زوجته قبل انتصار الثورة. قبل أنْ يخبرك الراوي المتماهي مع هابيل تأريخ الجنرال يتوقف عند نشأته في القرية، وما كان يكنه الأبُ من حب جارف لأمه، ومن ثُمَّ يلمح إلى علاقته مع ابنة اخته هاجر التي ما راقت لأمه. تحملُ الرواية في أعطافها قصص شخصيات ذات تراكيب متنوعة وأمزجة مُختلفة، بحيثُ لا يمكن إدراك الخطاب العام للرواية، من دون معرفة عنصر الشخصيات التي تظل مشدودة إلى الأطر المكانية، هنا تلفت قصة الفتاة التي تقف على قارعة الطريق انتباهك وهي تَعد السيارات والشاحنات كما لا تَمِلُ من متابعة حركة النمل. عندما تجد الفرصة لمغادرة مكانها فلا تتردد فتذهبُ مع أحد السائقين غير أن السائق يختفي في المدينة ومن ثم يتوارد ذكر تفاصيل أخرى حول الخلفية الاجتماعية والظروف التي نشأت فيها تلك الفتاة، إذ أن عمها قد اعتدى عليها وهي تتفاجأ برد فعل أمها، فالأخيرة تحاول إقناعها بأن الأمر يهون طالما لم تفقد عذريتها. يلف هذه الفتاة غموض إذ تظهر محملة بالألغاز، تارة يتصور هابيل أن المرأة التي يراها من الشرفة هي الفتاة نفسها التي آوت إلى وهران. تارة أخرى يزعم بأنه لا يوجد ما يفرق بين شخصية زوجة الجنرال وفتاة الشرفة، وفي خاتمة الرواية تحضر من جديد هذه الفتاة بحلة مضيفة الطيران، حين يغادر هابيل مدينة وهران بعدما تتسيد فيها الأفكار المُتطرفة ويتم اغتيال صديقه المخرج هيتشكوك.

وجوه الثورة

ثمة شخصيات في سياق الرواية تمثل الثورة بصورها المُختلفة إذ قد تكون الثورة في لحظتها الأُولى عاملاً لارتقاء الإنسان إلى مراتب سامية، لكن مع انتصارها تبدأُ مرحلة جديدة، إذ تزاحم الانتهازية نقاء الثورة، كما يتقاتل الأخوة في معظم ثورات العالم وهذا ما يهتم به صاحب «السماء الثامنة» في عَمَلِه حيث يضعك أمام نموذجين مُتناقضين للثورة. فبابا سليمان هو من المُناضلين الشرفاء، لم يتخذ الثورة ولا شعاراتها مطية لنيل أهدافه الذاتية، بل يفضل أن يشتغل بالكراج على أن يكون من صنف المُتطفلين، كما يبدو شغوفا بالقراءة ويقدم مُلاحظاته عن مواقف ألبير كامو حول الثورة الجزائرية، وهو قد عاش تجربة حب مع مدام دانييل ديفا، وهي فرنسية من أصل إسباني فأخو الأخيرة قتله المتعصبون الفرنسيون، لأنه كان مساندا للجزائريين. تسمع وصفا مثاليا على لسان هابيل لشخصية البابا سليمان الذي لم يأخذ شيئا من الاستقلال، فهو متمسك بآرائه اليسارية يُذَكِرُ هابيل بما قاله ماركس عن مخاطر استغلال الدين، إذ يتوقع تفشي الهمجية والسلب والنهب في مقبل الأيام، بالمقابل فشخصية الجنرال سفيان يرتدي عباءة الثورة لإخفاء عقليتها النفعية، إذ ينضم إلى المتآمرين على زعيم الثورة أحمد بن بله. ويقيم في منزل الحاكم الفرنسي السابق، وتكشف زوجته لهابيل أن الجنرال كان من ندماء الحاكم المدني، قبل انسحاب الاستعمار، تأتي أهمية الشخصيات في هذا العمل كونها متعددة الوظائف إضافة إلى وظيفة تحبيك أجزاء الرواية فإنها تتبدى كنمذجة لسلوكيات قد تنتشر في ظرف تأريخي معين، فنموذج شخصية الجنرال يُوجَدُ من يُماثِله في انتهازيته واستعداده للعب على الحبائلِ. لا تكتفي الرواية بالوقوف عند نماذج من جيل الثورة، بل تُصَوِرُ أوضاع جيل ما بعد الثورة الذي تتجسد ملامحها في شخصيات هابيل وهيتشكوك وكريمو فهؤلاء خليط من شريحة الإنتلجنسيا المهزومة مع طبقة الشغيلة. ترك هابيل كلية الحقوق وبدأ ببيع الكتب على الأرصفة، كما لم ينجح هيتشكوك في إكمال مشروع فيلمه عن الشيخ الصوفي صاحب الفتوى المثيرة للجدل عن جواز شرب النبيذ احتجاجاً على معاقبة فرنسا للجزائر اقتصادياً. يجمع هذه الشخصيات مكان واحد وهو فندق المهاجرين ينزلُ فيه العائدون من فرنسا، وفي ذلك ما يمكن تفسيره بأزمة اللامكان لدى هذا الجيل. فهم مغتربون في وطنهم، بجانب ذلك يورد في السرد بعضُ التفاصيل عن الأنساب الأسرية لشخصية الجنرال وزيجات والده الكثيرة وذلك الأسلوب يتضمنُ أحيانا دلالاتِ أسطورية، كذلك بالنسبة لأسرة هابيل وقصة والده مع الكرسي.

ثأرالمدينة

يقومُ العمل الروائي على مجموعة من العناصر قد تتفاوت أهميتهما من عمل إلى آخر هنا يتلمسُ المتلقي ما يمتلكه عُنْصُر المكان من الزخم الدلالي إذ يَهمُ المؤلف تصوير مدينة وهران وذكر بعض أعلامها الثقافية، كما يُحيلك إلى تأريخ مكوناتها المِعْمارية وهي مدينة لا تتوقف فيها حركة الحياة حين ينامُ نصفها يستيقظ نصفها الثاني، بجانب ذلك يركز على طبيعتها المُنفتحة لذلك لا يُنافسها مكان آخر في احتواء وقائع الرواية. كأن غاية الكاتب من وراء هذا الاهتمام بوهران هو الردُ على ألبير كامو وما قدمه من صورة قاتمة لوهران. غير أنَّ صاحب «الملكة» لا يفتأ يشيرُ إلى جرذان الطاعون وقد تؤول ذلك بما ينتظر وهران من خطر عودة طاعون التطرف. كما أن موت البابا سليمان عاشق المدينة ينذرُ بفتح صفحة دموية في تاريخ وهران. يذكر أن الكاتب قد تفنن في توظيف الضمائر كما لا ينفرد راوِ واحد بسرد القصة وفي بعض المقاطع يوجدُ التواصل بين مكونات خطاب الرواية (الراوي، المادة المروية، المروي له) كما استفاد الكاتب من نصوص دينية في صياغة عناوين فرعية، يجمع هذا العمل بين عدة موضوعات، من دون أن يكون ذلك على حساب الإتقان في تنظيم المادة وبنيتها المحكمة.

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم