تُنصِتُ رواية "اللّحن المفقود" لحركة مكانها بانتباه، بل وتنكبُّ على قراءته بوصفه نصًّا موفور الوقائع تتقاطع في نسيجه نصوصٌ حياتيّةٌ ثَرّةُ الأحداث والعلائق. وإذ تفعل ذلك، نُلفيها تكشف عن وعيٍ لديها جمالي واجتماعيّ بالمكان وبأدواره التأثيريّة في مسيرة أهله وفي منظومة قيمهم الاجتماعية. ولعلّ في هذا ما يؤكّد زعمنا أن «المَكانِيَّات» هي الآن مجالٌ بحثيٌّ يَعِدُ بالإجابة عن كثير من أسئلتنا الاجتماعية والنفسيّة والسياسية والثقافية والاقتصادية الراهنة.

يحضر في رواية أسامة رقيعة مكانان: القرية والمدينة، وبينهما تحضر مسافة وظائفيّة كبيرة صوّرها الراوي بكثرة اختلافاتهما العُمْرانية التي يُنبئ بها احتكامُ المدينة للقانون المَدَني (وجود المحاكم والمُحامين) وتلاحم بيوتها وتوفّرها على الكهرباء والأطبّاء وتميّز حركة الناس فيها بالسرعة في حين تحتكم القرية للقانون العرفي وتضيء ليلَها بالفوانيس وبيوتها مشتّتة ويتداوى سكانها رعوانيا ويحكم حركتَهم بطءٌ ظاهرٌ. ولم تخفِ الرواية انتصارها للمكان القرويّ الذي خصّته بأوفر أحداثها على حساب المكان المدينيّ الذي حضر فيها باحتشام ولضرورة حاجات الناس إليه، لأنّ سكّان القرية لا يحتاجون إلى المدينة -وَفْقَ ما يقول الراوي- إلاّ : "إذا ما أردنا الدّواء، أو الكساء، أو السّفر، أو الخدمات، وفيما عدا ذلك نستوطن القرية حتّى الثمالة".

وعليه، تكفّل الفضاء القرويّ بالتحكّم في السرد عبر التأثير في حركة الشخصيات ومواقفها وعلائقها داخل الرواية. وهو أمر نميل فيه إلى القول إنّ القرية تنزع في رواية "اللحن المفقود" إلى التَّأَنْسُنِ فلا تتجلّى في الرواية إطارا حاضنا لوقائعها فحسب، وإنما هي تحضر فيها بوصفها "موضوعا للكتابة" على حدّ عبارة ميشيل بيتور، لا بل وفاعلة في متن الحكاية ذاتها بعد أن عمد الكاتب إلى زلزلة سُكونها، وإثارة علائق السكّان فيها، وتحرير جغرافيتها وذاكرتها وحاضرها بكلّ ما في هذه العناصر من إيحاءات مادية ورمزية ثَرَّةِ المعاني تتضافر حينا وتتواجه حينا آخر مُنبئةً بفقدان الناس لإيقاع منظومتهم الأخلاقية الحاكمة لحركة مفردات معيشهم.

والظاهر أنّ حادثة قتل الشّاب "عثمان ود نايل" في أحد الأعراس لم تكن إلا حصاةً رماها الكاتب في طمأنينة القرية لتتوالى فيها دوائر اتهام السكّان لبطلها "عبدالقيّوم" المعروف بدماثة أخلاقه وحسن سلوكه وحبّه للناس، ومع توالي هذه الدوائر توالى تكشُّفُ وجهٍ للقرية جديدٍ كان مغمورا بضرورة "التساكن والتنازل" بعبارة ابن خلدون، وأحال على حقيقةٍ لها ثانيةٍ تنتعش فيها، وإنْ بخَفاء، كلُّ أسباب ضمور الضمير الجمعي وتنامي القلق والحيرة والضغينة والاتهام وإفراغ البشر من ذواتهم بكل قيمها وأخلاقها، بل قُلْ ومَحْوِهم على غرار ما آلت إليه حالُ البطل عبدالقيّوم ما جعل الراوي يتساءل: "لماذا ساءت القرية الظنّ إلى هذا الحدّ، لماذا تتهمني في مثالي الذي منحته لي الحياة؟".

ولا نخال إدانة مجتمع القرية لنموذجها الأخلاقيّ في كمال صفاته الاجتماعية إلاّ إدانة منها لحاضرها الذي تفتّتت فيه عرى محبّات الناس بعضَهم بعضًا وفشا فيه العنف بعد أن كانت القرية مُسالمة و"غاية ما نصل إليه في غضبنا هو أن نرفع صوتنا الغاضب في مواجهة مَن كان سببا فيه ثم نسكت متجاهلينه في علوٍّ".

وإن أظهرَ ملامح تأنْسُن القرية، بوصفها فضاءً للتَّنَاص الاجتماعيّ، فقدانُها للتأنُّسِ، ذلك ما نُلفي له صُورًا عديدة في الرواية تتخلّى فيها هذه القرية عن "جمودها" لتتجلّى بإهاب بشريّ، وتحتاز إليها صفات القلق والتوتّر والاتهام وإساءة الظنّ والغضب وإصدار الأحكام على فئة من سكّانها. وببعض التأليف يجوز لنا القول إنّ القرية بجميع أشيائها وأحيائها بدتْ فاعلةً في أحداث رواية أسامة رقيعة عبر سبيليْن: الأولى هي قُدرتُها على التأثير في سكّانها، والثانية هي قَبولُها التأثّر بأحوالهم.

فمن جهة تأثيرها في ساكناتها لا نعدم في الرواية وجودَ شواهد نصيّة عديدة مُحيلة على أنّ القرية صارت مؤثِّرًة بفيزيائها وكيميائها الجغرافيتيْن في سلوك الناس ومواقفهم، إذْ "كثيرا ما تنتقل العلاقات بينهم من جروف النيل الخضراء إلى الصحراء حيث ينبت الطندب الشوكي الجاف فتكتسي ببعض خصائصه". ويشرح الراوي تأثير المحيط الماديّ للقرية مُمَثَّلاً بشجر الطندب الشوكي في نفسيات الناس من حوله وذلك بالقول: "ألحظ بوضوح قساوة الطندب الشوكي الجاف عندما يمنح خصائصه للعلاقات بين الناس". ولا يكتفي المكان، وهو هنا قرية الراوي، بالتأثير في سلوك الناس فحسب، وإنما نلفيه يطبع صفاتِه على ملامح وجوههم كما لو أنه يُعيّنهم تعيينَ التملّك ويَسِمُهم بوَسْمِه الخاصِّ ما يوحي بانقلاب عميق في علاقة الكائن مع مكانه؛ فلم يعد الإنسان سيّدَ مكانه وإنما أصبح المكان سيّدَ إنسانه، وهو ما عبّر عنه الراوي واصفًا ملامحَ سائق التاكسي في المدينة المُخالفةَ لملامح سكان القرية بقوله: "لوّحتُ بيدي لأوّل تاكسي مرّ من أمامي وأنا بوَسَط سوق المدينة، طالعتُ السائق مليّا فلم أجد في ملامحه أثرا لجروف النّيل".

وبقدر ما يؤثّر المكان في سلوك أهله ومواقفهم يتأثّر هو أيضا بشكل حضورهم فيه وبما يكون من وقائع معيشهم؛ من ذلك أن أمكنة القرية (الراكوبة، الحوش، المدرسة، بيوت الجيران) قد تفاعلت مع حادثة مقتل الشاب "ود نايل"، وأصابها منها توتّرٌ وَصَّفَه الراوي بقوله: "خبر عبدالقيّوم يوتّر كلّ الأمكنة". وهو توتّر يكشف عن تضافر حال القرية مع أحوال أهلها ما حفزها على المسارعة إلى إفراغ البطل "عبدالقيّوم" مما عُرِفَ به فيها من فضائل وسارعت إلى اتهامه بالقتل، و"أصدرت حكمها على عبدالقيّوم ولم تنتظر"، بل إنّ شحنة من العدائيّة تجاه هذا البطل قد تلبّست بها وبأعرافها كما تلبّست بسكّانها، فراحت تتبرّأ منه ومن تبعات جريمته ما جعل الراوي يقرّ بأنّ: "كلّ شيء أراه مشحونا ضدّه، القرية وأعرافها وماضيها". ولم تكتفِ القرية باتهام عبدالقيّوم وإنما سارعت إلى محاكمته عرفيا دونما انتظارٌ منها لصدور الحكم المدنيّ، ولا تبيُّنٌ واضحٌ لخفايا هذه الحادثة وتفاصيلها، وهو ما نعثر له على مشهد نقله الراوي بقوله: "في الحوش الكبير نُصبت المقصلة".

وما نخلص إليه من أمر حضور القرية في رواية "اللحن المفقود" هو تأكيد حقيقة أنّها تحوّلت في كتابة أسامة رقيعة من حاضنة للفعل إلى سبب للتفكير في الفعل وفي طرائق إنجازه، وذلك بتهيئتها الظروفَ المناسبةَ لتفاعل الشخصيات مع واقعهم بجميع وقائعه، وسعيها إلى توجيه مقاصد الكتابة صوب تَمَثُّل مفردات فضائها الأنتروبولوجي بشرًا وعلاقاتٍ وثقافةً وجغرافيا. ذلك أنّ فنَّ تسريدِ القرية قد ارتقى بها إلى مرقى صارت فيه كيفيةً من كيفيات الوجود الاجتماعي لمجتمع الرواية، وآلةً مناسبة لتفكيك طبائعم السيكولوجيّة، وأفقًا من آفاق حكايتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم