تقولُ الفيلسوفة الألمانية (حنة أرندت) أنَّ الأحزانَ قد تثمرُ لو وضعناها في قصة أو حكيناها قصةً.وهذه الفرضية هي ماتبرر مصداقيتُها الروايات التي تمتحُ مادتها من المآسي والآلام الإنسانية وربما ولولا السردُ لمايتحمل الإنسانُ آثار الكوارث البشرية والطبيعية وذلك مايؤكده بول ريكور إذ يعتقدُ الأخير بأن فن القصة يُكسبُك قدرة إحتواء المعاناة . هذا ما تّراه في رواية (السماء تهرب كل يوم) الصادرة من دار أنطوان وهي رواية أولى لصاحبتها كاتيا الطويل .إذ تتوسل شخصياتها بفن الحكي للتحايل على الأحزان الممضة.بحيث يتحول الشجنُ إلى بُنية متحكمة بمسارات هذا العمل. كما أنَّ رغبة الخروج من الإكراهات التي غالباً ماتكون من صنيع السلطات الإجتماعية والدينية والسياسية تٌشَكِلٌ رُكناً أخر في بناء هذه الرواية.إذ تبحثُ شخصياتها السديمية عن الآليات التي تُمَكنها الخروج من إهاب التقاليد المُكبلةِ .والإنطلاق نحو فضاءات جديدة وأفق أرحب. حكايات مُتجاورة يتحول مبنى الكنيسة إلى مكانِ متسعِ لقصص الشخصيات التي تتعاقب على زيارة هذه البقعة .هنا تستفيد الكاتبةُ من طقوس الإعتراف المتبع في الديانة المسيحية إذ بمجرد أن تجدُ أي شخصية نفسها داخل هذا المكان المفعم بالرمزية يتحركُ شريط الذاكرة مستعيداً ماضيها وسلسلة من الأحداث التي صاغت رؤيتها وتصورها.بما يجعل السردُ أداة للبوح ومُكاشفة الذات حيثُ تتقاطع القصص.تختلف الشخصيات ويظل المكان واحداُ بتصميمه وتركيبته كأنًّ الكاتبة أرادت بِذلكَ إثبات مانسمعه من المقعد المُشخصن بأن الأشياء تُعَمِر أكثر من أصحابها .يتواصل حضور الشخصيات التي تتذكر على المقعد الخشبي وقائع حياتها بدءً من الفتاة التي تمقت أجواء القرية وتستغرب إقتناع أهلها بةبواقعهم الممل وعجزهم في التوثب نحو حيوات أخرى .وهي ترفضُ الإذعان إلى تقاليد وما سنه المجتمع من الأعراف لذلك تهربُ في يوم زفافها .تتوفز للحياة المدينية وبذخهاوإنزياحاتها .ويراودها حلم النجومية .فعلاً تصبح نجمة المسرح في المجتمع المخملي موظفة ماتزودت به من المعلمة التي كانت تزورها بالإنتظام .عندما تحتك بفضاء المدينة .يخذلها الإهتمام المفرط بالمظهر والإستعراض الشكلي وذلك مالم يكن متوقعا بالنسبة إليها .غير أن حصولها على معطف فاخر يفتح لها باباً لتندمج بهذا العالم المبهرج ومن ثم تنصب فخاً للرجال الذين يطاردونها في السهرات والليالي الصاخبة .يعول عليها مدير المسرح لتنشيط العروض وهي تختار وتعدل النصوص بما يتوائم مع مزاجها .ومع إستمرار سرد الحكايات نجد بأن مدير المسرح يصبح مستأجراً لدى العروسة الهاربة بعدما يفلسُ الأول جراء مراهناته على المسرح وتقويض حياته الزوجية بذلك يصبح مشرداً يعتاش على مايسرقه. فهو يحتمي بالكنيسة عندما يلاحقه الشرطي .ولايُتورع في التفكير عن سرقة أشياء ثمينة من هذا المبنى المقدس.ينفتح هذا المكان بطابعه الأليف على أشخاص من غير الديانة المسيحية .منهم منْ يأتي ليفجر نفسه كما هناك من يحضر لرؤية الفرق الذي يمنع الإرتباط بين شخصين مختلفين في المعتقد الدينى .هنا تهتمُ الكاتبة بعرض مكونات المبنى وإقامة الطقوسات .وتستجلي ماتشعر به الشخصيات من عدم وجود تباين كبير بين مبادىء الأديان. وتشترك الشخصيات التي تسبح في فضاء الرواية بسديميتها وفقدانها لأي مُتعينات إسمية .كما تتصارع مع الأمكنة الأولى.زد على ذلك ماتظهر من حالة التماثل في المشاعر وهذا ما يتبين أكثر في تصور العروس الهاربة والشاب المُهندس للحب.الأمر الذي يُخلُ بعنصر التشويق في تسلسل الأحداث. جسدية المقعد يذكر الناقد العراقي (رسول مُحَّمَد رسول) بأن الجسد يكمن في كل ماهو متواجد في الوجود بمافيه الأشياء الجامدة .هنا تمنح الكاتبة صفات وخصائص بشرية للمقعد الماكث في الكنيسة.إذ يتفاعل بجسده الخشبي مع من يتخذه مكاناً للجلوس .ليس ذلك فحسب بل يتماهى المقعد مع ضيوفه متغلغلاً في أعماق الشخصيات .ويكون مبئراً تتسلسلُ منه حلقات السردُ فهو يلعب دور الراوي العليم عندما يُسردُ دقائق الأمور المتعلقة بكل شخصية على حدة إذ من هذا الموقع تنطلق رحلةُ المخيلة إلى مساحات مكانية مُتعددة.غير أن المتلقي لايفوته إدراك تدخلات الكاتبة بخطاباتها المباشرة وما تقدمه من ملفوظات مُطعمة بالحكمة.لاسيما فيما يتعلق بموضوعة الحب.فهى قد إختارت عناوين داخلية لفصول روايتها كما ميزت خطاب الخشب المؤنسن في مُفتتح كل فصل بخط مختلف.قبل أن يتوحد مع ماينساب من الذكريات والصور لدي الشخصيات .هنا وفقت الكاتبة في إسناد دور الراوي إلى هذا العُنُصر لكن أحيانا تتمثل شخصية الكاتبة في ذهن المتلقي كراوِ أكثر من المقعد. تحولات الشخصية يُعْتبرُ وجود شخصيات مركبة أو حركية في الرواية عنصرَ تشويق أساسي وهي تأخذ بإهتمام القارىء وتخفف من حالات الرتابة أو كما يقول لويتمان أن هذا الصنف من الشخصية يمتلك حلولاً للفعل .مركزاً عليه أفق توقع المتلقي .هنا في هذا العمل تأتي الشخصيات مجردة من الأسماء وحتى الملامح غائمة كما أنَّ تحولات بعضها غير مقنعة مثلاً المتطرف الذي يدخل الكنيسة ليفجر نفسه ينتقلُ إلى نقيضه من خلال حوارِ مع الكاهن دون أن ندرك كيف إنتبه الأخير إلى مايبيته أخو المهندس من الشر.كما أن مانتلقاه عن الشخص نفسه حول إنتقاله إلى صف الإرهابيين بمجرد دخوله إلى الجامع وإصغائه إلى أحد المشايخ لايبرر هذا التحول من شخصية مرحة إلى مُتعصبة أضف إلى ذلك أن هذه الخلفية تتضارب مع مايقدم عن عقدة الأخ الكبير كسبب وراء إختيار الأخ الأصغر لنهج المتطرف .كما أن مدير المسرح يتصرف بسلوك عبثي في عزاء والدته ويفكر في مشاريعه بعد إنتهاء مراسيم العزاء ومن ثًم تجدُ مقلب أخر للشخص نفسه فهوغارق فى الإكتئاب وعدم الشعور بالأمان إثر فقدان أمه ووالده.لكن ذلك لايحجب براعة الكاتبة في إستعادة شخصية المعلمة في الفصل الأخير وإنصهار االمقعد في الواقع الإنسانى .فعلى مستوى التعامل مع عنصر الزمن يوجد إلتباس إذ تستشفُ ذلك من خلال مؤشرات تحدد لك الوقوع في التناقض الزمني حيثُ تتعرف فتاةُ موسيقية على شاب غريب الأطوار وتتعلق به ثم هي تعترض على عدم إهتمامه بها حتي من خلال إرسال رسالة على الهاتف الجوال المناخُ الذي يولد فيه الحب بين الأثنين يوحي بأنه في أواخر مرحلة الإحتلال الإسرائيلى للبنان،وأنذاك لم تكن هذه الآلة التواصلية متوفرة.يتمحور هذا العمل حول عدة ثيمات .الهروب، الإغتراب، الحب،الغياب ويمتلك مقومات التحويل إلى دراما تلفزيونية. كونها تضم قصص مؤثرة لاسيما ماهو مخصص لمعاناة الأم مع إختلالات الذاكرة.

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم