"يا مريم" رواية للكاتب سنان انطون، صدرت عام 2012 عن منشورات الجمل، ترشحت لجائزة البوكر العربية عام 2013 ووصلت إلى القائمة القصيرة. وهي الرواية الثالثة له بعد روايتيه؛ "اعجام" التي صدرت عن دار الآداب عام 2004، ورواية "وحدها شجرة الرمان" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عام 2010. حاول الكاتب في روايته هذه ان يصور لنا جزءا مما يعانيه المسيحيون في العراق وبالأخص بعد 2003، وعمليات القتل والتفجير التي تطال هذه الفئة من الشعب العراقي. غير ان استهداف هذه الفئة، وهي ثاني ديانة في العراق من حيث عدد الأتباع بعد الإسلام، ومُعترَف بها حسب الدستور العراقي، ليس بمعزل عن ما تتعرض له باقي فئات الشعب العراقي. استفاد الكاتب من أسلوب التقطيع الذي كتب به الرواية، فقد قسمت الرواية الى خمسة فصول وقسمت الفصول الى عدة أجزاء. ويعتبر تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع الصغيرة أو الكبيرة، عملية منهجية مفيدة تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهذه العملية ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي "الفصل أو أجزائه" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاع الكاتب التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعمل له الكاتب الفصول والأرقام، لتبقى حركته حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخوص وأحداث الرواية، التي ظلت الشخصية الرئيسة فيها "يوسف" تعيش الحاضر من خلال الماضي. الرواية تستعرض لنا "رؤيتين متناقضتين لشخصين من عائلة عراقية مسيحية، تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد" كما جاء في الغلاف الأخير للرواية، هاتان الشخصيتان شاهدنا الكثير منهما في حياتنا، فالشخصية الأولى "يوسف"، "رجل وحيد في خريف العمر، يرفض ان يترك بلده، متشبثاً بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته، ومها، شابة عصف العنف الطائفي بحياتها، فشرد عائلتها وفرقها عنهم لتعيش لاجئة في بلدها، ونزيلة في بيت يوسف". ومثل الكثيرين من عائلة يوسف، تفشل مها في جعله يترك العراق وبالأخص بعد ما يتعرض له المسيحيون من استهداف من قبل الميليشيات الإسلامية المتشددة من خلال المضايقة عليهم وإجبارهم على ارتداء ما لا يرغبون ارتداءه، ومحاربتهم كذلك في قطع أرزاقهم، فهو يرى أن الظروف التي يمر بها البلد طارئة ولديه أمل ان يعود البلد الى ما كان عليه. وهي لا تتوقع ان تتحسن ظروف البلد الذي لم يعد صالحاً للعيش بالنسبة لهم، بسبب ما يتعرضون له من تهجير وتهميش، وعندما يصر كل طرف منهما على رأيه تحاول مها ان تلقي بآخر ما عندها من الأسلحة، وهو اتهامه بأنه يعيش على ماض لم يعد موجودا "إنت عيش بالماضي عمو!". وتتركه لتصعد الى غرفتها في الطابق الثاني. تبدأ الرواية في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "ان تعيش في الماضي" من نقطة الاختلاف بين يوسف ومهما التي وصلت الى اللاعودة.. عندما تصرخ مها بصوت مرتفع "إنت عيش بالماضي.." تثير هذه العاصفة التي أحدثها الوصف تساؤله: إذا كان الحاضر مليئاً بالبشاعة؛ متفجرات وقتل على الهوية؟ فلماذا لا أعيش في الماضي، كما اتهمتني؟" لكنه يتردد "يجب أن أسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي. هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكرا، أما أنا فقد عشت أزمنة الخير وما أزال اتذكرها وأصدق بانها حقيقة". كأن الحاضر المؤلم الذي يقاومه بكل عزم ويحاول أن يتخطاه، أصبح كبيرا حتى بالنسبة إليه، فبات يتوجس عندما يتذكر الماضي الذي عاشه وهو الذي يمتلك القدرة على استعادته، في أفكاره، كأن هذا الحاضر يحاول أن يشكك في داخله صدق ذلك الماضي الجميل!. في الفصل الثاني من الرواية الذي وضع له عنوان "صور"، ومن استعراضه لهذه الصور التي يصل عمر البعض منها أكثر من نصف قرن، يرسم لنا يوسف تاريخ عائلته واصفا تعلق والده بالإصرار على لبس "الصاية واليشماغ، ولا يقبل ان يلبس (البنطرون) اعتزازا بموروثه، مستعرضاً أفراد العائلة والى ما آل إليه هؤلاء الأفراد في الوقت الحاضر: "تفرقوا بعدها في ارجاء البيت وأرجاء الدنيا ليظهروا في صور أخرى". الأخ الأول غازي يعمل في "الآي ي سي" في كركوك حتى عام 1961. جميل يعمل مع شركة شاكر ابراهيم واخوانه، ثم يسافر الى بيروت عام 1969 بعد ان يعدموا صديقه بتهمة الماسونية. الياس يدرس الحقوق لكنه يتورط في السياسة ويدخل السجن عدة مرات. ميخائيل يعمل بعد تخرجه من كلية بغداد مترجماً مثل يوسف. صورة أخرى ليوسف يرتدي بذلة داكنة وربطة عنق ويجلس وراء مكتب اصطفت فوقه ملفات وأوراق، استغل أوقات الفراغ في مطالعة بعض الكتب التي كانت متوفرة في مكتبة الدائرة الصغيرة وكان معظمها عن الزراعة والتجارة. كتاب لأحد المستشرقين؛ السير روجر كنغسلي عن الشجرة المقدسة "النخيل في الجصارات السامية" فتنته المقدمة التاريخية عن النخيل ومكانته عند العراقيين القدامى. كانت النخلة تحتفظ بمكانة مقدسة فتوجد نقوش وصور تمثلها في هياكل بابل وآشور وعلى جدران المعابد ومداخل المدن والعروش والتيجان. كانت شريعة حمورابي تقضي بتقديم كل من يقطع نخلة. وتنص مادة اخرى على ان لا يهمل الفلاح بستان النخل وان يسهر على مراقبة الطلع وتلقيحه. وبمرور الزمن أصبحت النخلة شبه مقدسة لدى يوسف أيضا لأنه مدين برزقه لها وللملايين من أخواتها. وتتكلم إحدى الصور عن أوقات الدراسة التي قضاها يوسف مع زميليه نسيم حسقيل وسالم حسين عام 1950 ، وعن إسقاط الجنسية عن اليهود، واصرار (ابو نسيم) على البقاء في العراق وكان نسيم يكرر ما يقوله ابوه: "إنها غيمة عابرة وإنهم سيظلون في العراق". ورغم اصرار ه على البقاء إلا ان الأحداث التي تلت ذلك والتي استهدفت اليهود اجبرت عائلة نسيم حسقيل على الهجرة إلى إسرائيل. ولهذا تصف مها ما يتعرض له المسيحيون في الوقت الحاضر بتهجير اليهود في العراق. ورغم ان الصور التي تملأ الغرفة والتي تملأ الالبومات التي تحتفظ بها العائلة في حقائب وأماكن أخرى تساعده على تذكر الماضي الجميل الذي عاشه، إلا أن صورة واحدة يحتفظ بها يوسف في ظرف صغير في دولاب غرفته وفي كل مكان على جدران قلبه وروحه: "وبالرغم من ان الكثير من زوايا قلبه قد غرقت في عتمة خريف العمر، إلا انها كانت تضيء نفسها بين حين وآخر عندما تستيقظ الذكريات". إنها صورة "دلال" التي أحبها والتي كانت تصغره بأكثر من عشرين سنة، كما أنها كانت مسلمة وهو مسيحي، وهذا يعني جبالا اجتماعية شاهقة الارتفاع لابد من تسلقها. يذكر رومان ياكبسون: أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية وميتالغوية، وهي اللغة الصورية، وتسمى أيضاً باللغة الواصفة. وحسب معرفتي البسيطة ان سنان انطوان في روايته هذه من قلائل الكتاب الذين استعملوا تكرار العنوان الفرعي بقصدية واضحة أراد منها أن ينبه القارئ إلى أن الفصل الأول من الرواية الذي حمل عنوان "ان تعيش في الماضي" ما زال مستمراً بعد الفصل الثاني "صور" من خلال تكرار العنوان في الفصل الثالث "ان تعيش في الماضي" وهذه حالة من التقطيع الذي أجاد بها، واستطاع أن يعود الى الحاضر مستعرضا لقاءه بصديقه الوحيد الذي بقى له، سعدون الذي يجيد حفظ الشعر وإلقاءه، ويسأله سعدون ما الأمر الذي يشغل بالك؟ عندما يشاهده مهموماً. يخبره يوسف عن ما دار بينه وبين مها، فيجيبه سعدون بكل عفوية: "أي مو چذب هالحجي، تره إحنا انتيكات، هذا اللوتي أوس هذاك اليوم يكوللي: جدو أنت شگد قديم، تصور". في الفصل الرابع "الأم الحزينة" يصف لنا الراوي ما تعرضت له مها وعائلتها من تهجير وتهديد وتفجير سيارة ملغمة أمام بيت أهلها في الدورة يسقط على إثرها طفلها الذي تحمله، والذي كان الأمل الوحيد الذي يبقيها متحملة البقاء في البلد حتى ولادته، لكنها تخسره بسبب هذا الانفجار الذي تتبعه انفجارات أخرى في المنطقة التي يسكنها الكثير من المسيحيين. والذي سبقته تهديدات عديدة تعرضت لها عائلتها وبقية العائلات المسيحية، وتسميتهم بأهل الذمة ومطالبتهم بدفع الجزية أو اعتناق الدين الإسلامي. ثم اختطاف خالها الذي اخذ المختطفون منهم الفدية ثم قتلوه، وتهجيرهم من الدورة وذهاب عائلتها، مثل الكثير من الأسر الى عينكاوة او مناطق أخرى في محافظات شمال العراق التي يسكن فيها غالبية من المسيحيين. "روحي وجدت ملاذاً في عالم آخر أطل من نوافذه على آلام القديسين واحزان العذراء وأبنها".

في الفصل الخامس الذي كان تحت عنوان "الذبيحة الإلهية" يصور لنا الأحداث التي جرت في كنيسة النجاة في بغداد عام 2010، وقد ثبت المؤلف في نهاية الرواية في صفحة منفصلة ملاحظة: "تتقاطع أحداث الرواية مع حادثة الهجوم على كنيسة النجاة في عام 2010، لكن النص وشخصياته من نسيج الخيال، وأي تطابق او تشابه في الأسماء غير مقصود". فلماذا "الذبيحة ـ يوسف" الذي سار بأقدامه الى الكنيسة كأنه يعرف ان اليوم سيكون هو الضحية التي سيقدمها مع الآخرين فداءاً عن طائفته المسيحية تشبهاً بالتضحية التي قدمها "يسوع المسيح على خشبة الصليب ودمه الذي سفك من أجل آثامنا. الرب يسوع مات بدلا عنا . البار من أجل الأثمة. قدّم نفسه قربانا من أجلنا مرّة واحدة وإلى الأبد، فبواسطته نلنا المصالحة مع الله وأصبحت لنا الثقة بالدخول إلى محضر الأب بدمه. طريقا كرّسه لنا بجسده، أمام الله كلنا بدون استثناء خطاة وبحاجة إلى التكفير عن ذنوبنا" أثناء الصلات التي تقيمها الكنيسة قرأ الأب ثائر بصوته الرخيم وقال للمصلين: "فلنصلي يا أحبتي كي يعم السلام في بلدنا الحبيب وننعم به جميعاً. وندعو لله كي تتشكل حكومة جديدة تحافظ على سلامتنا وتحمينا". اقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددونها. ارتبك البعض في أول الأمر وسرت همهمة، لكن الغالبية استمروا في الصلاة، فقد تعودوا على اصوات إطلاق الرصاص والانفجارات في السنين الأخيرة". ارتبك يوسف وظل واقفاً لا يعرف ما الذي يمكن له ان يفعله. لمح مها تندفع من أقصى اليسار الى المذبح. هم باللحاق بها وناداها مرتين لكنها لم تسمع. لأن الأبواب الثلاثة التي في المدخل كانت قد انفتحت على مصراعيها، ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء. انبطح يوسف ارضاً مثل البقية. ظل جسد يوسف مسجى على ارض الكنيسة لأكثر من اربع ساعات. قبل ان يحمل الى الخارج بعد تخليص الرهائن واخلاء الجرحى، كان محاطاً باشلاء بشرية وبقطع الزجاج المكسور والجص وببركة صغيرة من الدم الذي ظل ينزفه. "وقبل أن يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت "يا مريم" لكنه لم يكمل جملته. ظلت عيناه مفتوحتين حتى وهما تغرقان في ظلام الموت".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم