يبدو أنّ الإنسان العراقي مُقدَّر له أن يعيش في أجواء حروب لا تنتهي. ما إن تضع حرب أوزارَها حتى تبدأ حرب أخرى، أيّاً كانت أهداف الحرب، فما لا يتغيّر في أحكامها هو حجم المعاناة الذي سيَكبر على مرّ الأيام، بحيث يكون مشهد الجثث المتكوّمة أمراً بديهيّاً تألفه الأحاسيس.ما يساهم في تجفيف المدارك هو الصورة التي قد غدت أيقونة العالم اليوم. هنا تتمثّل مهمّة الأدب في كسر هذا الإحساس بالبداهة المُسْتهجَنة إزاء الموت المجّاني. وذلك ما يتوخّاه سنان أنطون في عمله الروائي الجديد «فهرس» من منشورات الجمل 2016.

بلاغة العنوان

يَحتفظ هذا العملُ بالثيمات التي تجدها مبثوثة في روايات صاحب «إعجام» كالموت والاغتراب والحرب، غير أنه يحاول اختبار أسلوب جديد في «فهرس» يجمع بين الرمزية والواقعية والسيرية والعجائبية.

ولا تكون بؤرة اهتمامه موجّهة إلى الإنسان فحَسب، بل يقودك إلى عوالم مختلفة حيثُ تكتشفُ وجهاً آخر للأشياء التي قد لا تكون مدار اهتمامك في العالم الواقعي. كما يورد حكاية من يَقبع في الظلّ على رغم أنّه أكثر تَبَصُّراً بتمظهرات الحرب.

وبذلك، تتداخل الأصوات وتبلغ درجة الصخب إلى مستوى يُخَيّل إليك أنَّ ما تقرأه هو عدّة أعمال وحكايات في رواية واحدة. إذ لا يكون المتلقّي رهينَ أحادية المنظور، بل تتعدّد وجهات النظر، كما لا ينفرد راوٍ واحد بمهمّة السرد.

وهذا لا يمنع وجود سارد رئيسي يُنظّم المادة المحكية، وهو يتمثّل في شخصية «نمير» الذي يحكي بضمير المُتكلم، إضافةً إلى ذلك تتخلّل عبارات حبلى بدلالات وجودية داخل السرد المؤطّر، وهي تخدم خطاب الرواية. ويتواصل هذا العمل مع نصوص أخرى على عدّة مستويات، وذلك ما يُثبت أنّ التناصّية قدَر كلّ نصّ، على حدّ قول رولان بارت.

يفتح العنوانُ باب التوقّعات بالنسبة للقارئ، كلّما كان هذا الجزء من النصّ موحياً يكون المتلقّي أكثر استعداداً لمحاورة ما وراء العنوان. لأنّ (العنوان جنس وحده لديه بلاغته ومتعته) هنا مفردة «فهرس» تُحَضِّرُ عملاً تراثيّاً موسوعيّاً في ذهنك يضمّ مقالات مبوّبة حسب الموضوعات المتنوّعة. وما يؤكّد هذا الحضور هو كلمة صاحب الفهرس الأوّل من بين كلمات مُقتبسة يوردها سنان أنطون في مقدّمة فهرسه.

بطل الرواية

مع استرسال السرد، يكتشف المتلقّي قصّة كتاب بعنوان «فهرس» كَتبه ودود عبد الكريم، وهو بائع كتُب فى شارع المتنبّي يلتقي به نُمير عندما يمرُّ بالمتنبي بحثاً عن الكتب القديمة.

يجدهُ جالساً على كرسي يقرأ صحيفة الزمان، يتجاذب معه أطراف الحديث وهو يخبر الزائر بأنه قد يجد ضالّته في مخزنه وأنّ تكملة ديوان الجواهري موجودة، فالأخير يتبعه إلى مُعْتَكفه، فهنا يرى جداراً مكسوّاً بالكتب. يعرض عليه ودود مجموعة من أعمال الشعراء العراقيين.

ولكنّ ما يلفت انتباه نُمير العائد إلى بغداد مع فريق عمل أميركي لإعداد فيلم وثائقي مجموعةُ ملفات قد بَرزت على حافتها قصاصات مقطوعة من الجرائد، وعندما يسأله عمّا أثار فضوله، يقول ودود بأنّه مشروع عمل غير تقليدي.

قبل أن يغادر نمير بغداد بيوم واحد، يمرّ عليه ودود في الفندق الذي نزل فيه من دون أن يصادفه موجوداً، لذلك يطلب من موظف الاستعلامات تسليمَ الأمانة إلى نمير، وهي ديوان لعبود الكرخي مع مخطوطة مشروعه. هنا يتحوّل هذا المشروع إلى بطل الرواية. لا يوجد ما يَشغل نمير مثلما يَشغله فهرس بحيث يكاد أن يهمل مشروع عمل الدكتوراه عن الشاعر أبي نوّاس.

وتصارحه صديقتُه بأنّ لقاءَه بهذا الشخص قد أثّر عليه نفسياً. وهو مِن جانبه لا يمانع مراجعة الطبيبة النفسية التي يستعيد على أريكتها الاستجوابية جزءاً من سنوات طفولته والظروف التي كشف فيها إصابة أمّه بمرض السرطان وتركِه البيتَ بعد خلافاته مع أبيه. وبذلك، تتقاطع فقرات من كتاب فهرس ودود مع ما يَسرده عن تفاصيل حياته الموزّعة بين جغرافيتَين، جغرافيا بغداد وجغرافيا مدن أميركية: فرجينيا، نيوهامشير، نيوريوك.

أنسَنة الأشياء

ما يُضفي عنصر التشويق على «فهرس» هو السحر الذي يستدرجك للإصغاء إلى منطوق أشياء تسرد ما شاهدته من التحوّلات وما رافقته من الأجيال. لأنَّ كتابة الرواية تقومُ كما يقول ميشال بوتور على الجمع بين أشياء مرتبطة بأشخاص ارتباطاً بعيداً أو قريباً.

«كاشان» إحدى شخصيات «فهرس» تختزن ذاكرةَ تاريخ أسرة عراقية نشأ أبناؤها فى كنفه، نتعرّف إلى المرأة التي نسجته داخل سجن النساء في العصر الملكي ومن ثُمَّ يأتي التنوّر لكي يدلي بشهادته وآلة العود وألبوم الصوَر، والشرائط، والجدار والصوَر مع شجرة السدرة والطير.

هكذا يوزّع الكاتب سيرة الأشياء على مساحة نصّه، وذلك يوفّر نافذة للإطلالة على تاريخ العراق المثخَن بالجراح والندوب التي خلّفتها الحرب على جسد هذا البلد. نجح سنان أنطون في دمج أحاديث الأشياء بحياة أشخاص طوَتهم الأيام.

كما يتجاور كلّ ذلك بحكاية من كان على حافة التأريخ مثل حسن الأسير صاحب الصوت العذب الذي لا يترك وراءه أثراً إلّا أسطوانة سُجِّلَ عليها بعض الأغاني. لكن مع تعاقب الأيام واختلاف المذاقات تُركَنُ الأسطوانة على الرفوف إلى أن تطمرَها غبار الحرب. كما تقع عين السارد على الخليفة الذي يتجوّل في شارع الرشيد ويعترض على مَن يمشي بهذا الشارع دون إذنه، وهو رجل مجنون يحاكي شخصية هارون الرشيد.

تتوالى سيرة شخصيات أخرى مثل أسيل المشغوفة بالموسيقى، والنباش وهو من يَجد الراوي نظيراً له في مانهاتن والجنين الذي لم يولدْ. هذه الفقرات هي جزء من مخطوطة ودود يتضمّنها النص الروائي، ولكلّ فقرة تحمل عنوانَها المسبوق بكلمة المنطق على منوال كتاب (منطق الطير) لفريد الدين العطار. ويضيف الراوي في ختام الرواية منطقَه المعنوَن بـ«منطق ودود». هذه الفقرات بأكملها تَضعك أمام لوحة بانورامية كأنّها مأخوذة من مشاهد القيامة.

مُغامرة التجريب

سادت آراء حول نهاية الرواية واستنفاد هذا الجنس الأدبي لكلّ الموضوعات والثيمات. لذلك اقترَح بعضُ الروائيين أن تكون إشكالية كتابة الرواية موضوعاً للأعمال المقبلة. حيث يكون القارئ مصاحباً للروائي في حيثيات كتابة عمله.

يكشف الكاتب فيما يقرّره عن طرائق يَسلكها لبناء عمله. وهذا الأسلوب هو ما يتبنّاه سنان أنطون في عمله الأخير، إذ تصبح كتابة الرواية قضية تَشغل الراوي بعد رؤيته لودود، فالأوّل يصرّح بأنه سيكتب رواية عن صاحب المخطوطة. كما يُلمّح المؤلف الضمني إلى رغبته فى عدوله عن نهاية مقرّرة لعمله واختيار نهاية أُخرى، من دون أن تصل هذه المحاولات بالرواية إلى حقل نصوص مُجرّدة.

يُذكر أنّ الكاتب يضفر أخبار الصحف بمتن الرواية وينقل مقابلةً أجريَت مع غسيل الموتي إلى فضاء سردِه وهو يحترف هذه المهنة منذ أن كان عمره 13 سنة، ولكن لا يرغب بأن يُورِثَ أبناءَه هذه المهنة. كما يأخذ مقالاً من حوار المتمدّن ينعى فيه كاتبَه ودود الذى راح ضحية تفجيرات شارع المتنبي.

سبقَ لنمير أن تلقّى خبر موت ودود من ابن عمّه مدحت الذي كان حلقة وصلٍ بينهما. يفاجئ الموت صاحب فهرس قبل أن يحرق نفسَه مع كتبه، كما أخبر نمير بذلك في رسالته الأخيرة. هذا العمل الثري الذي لا يخلو من نفحات رومانسية هادئة سيكون إضافةً مهمّة في مشروع أنطوان سنان الإبداعي، وهو يُثبت مع كلّ عمل قدرته على التطوّر واجتراح أساليب جديدة.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم