منذ أن نشر علي بدر روايته الأولى «بابا سارتر» وألحقها بـ «صخب ونساء» و «كاتب مغمور»، وهو يصرّ بتواطؤ مريب على تعقب الخفّة، كأن نصّه تحالف معها بعرى فولاذية وتواشج خلاب، واتفقا على أن تؤدي الأفكار في رواياته كل ما لا تؤديه اللغة، بحيث تُحملْ جميع الأسئلة الوجودية الثقيلة، على أجنحة روايات خفيفية، منعشة، منشغلة بالحداثة ومصطرعة معها، فالروائي العراقي تجاهل، بكل ما أوتي من وعي، نخيل بغداد النائح وهدهدات موج دجلة، والتراب الأحمر للأرض المشربة قتلى ودماء، تجاهل الإرث السردي العراقي «البكّاء النوستالجي» ليتيح لبغداد أن تزهو ببهائها في الستينيات، بحيث ترك الشخصية العراقية لتتخلى عن جهامة مفتعلة كرّستها الظلامية الصدامية، وسنين من عقوبات اقتصادية واحتلال أميركي وتخبط في مستنقع الطائفية والانقسامات. أتاح علي بدر لبغداد أن تتنفس بحرية وغنج، أتاح لها ولأفاقيها، وضاحكيها، والدجالين من مثقفيها أن يعيشوا ملء أنفسهم، أن يكونوا هم الحكايات الضاحكة المعيشة على حواف القمع والكراهية والتطرف والخوف، ليقهر النص بالضحك، والضحك وحده، رهاب السلطات المحمولة على سواطير وحرائق.

ترحاله الروائي في روايات على بدر تنقّل جغرافي، هو حيناً في اسطنبول، وحينا في القدس ونيويورك والقاهرة يتمشى مع إدوارد سعيد، قد يغادر إلى افريقيا متتبعاً الشيوعيين العراقيين هناك وأيدولوجيتهم الهزلية، قد يصل إلى الشام، الأديرة والقرى وبيوت العائلات، ليحط أخيراً في بلجيكا، البلد الذي يقيم فيه فعلياً منذ اشتعال منطقتنا بالغضب والفوضى والأحلام. في «عازف الغيوم» روايته التي صدرت مؤخراً، ومنذ النبضة الحكائية الأولى، وبعين مقتضبة متمرسة سينمائيا على دقة اللون والحجم والمسافة، يلتقط بدر الشخصية العراقية بكل هوامشها ومسننات تطرفاتها الجارحة، الشخصية الملتاعة/المعذبة بأوروبا، المرهقة بثقافة فرنسا وألمانيا وروسيا وأدبها وفلسفتها، الشخصية التي تحتفي بشوبنهاور ونيتشه وهيدغر وانجلز وماركس وكتّاب العدم والعبث، الشخصية التي لا تتلقى أدب نجيب محفوظ الذي تعرّش على طاولات المقاهي في الأحياء الشعبية القاهرية، بحفاوة كبرى أو انبهار كلي، كما تتلقى نتاج الكتاب والفلاسفة الأوربيين! في «عازف الغيوم»، يخلط علي بدر معارفه وقناعاته، ليصنع مزيجاً، يلتقط عبره كل المتناقضات والضحك في ثنايا تلك الشخصية التي يشكل ذاته واحداً منها، ليحكي عن المثقف العراقي المتعب من ثقافته الموسوعية، الكوزموبوليتانية، التي لا يعرف أين يصّرفها ضمن المأزق العراقي، المحكوم جغرافيا وزمانياً بالقهر السياسي والديني والفكري، المعزول عن التفاعل مع آداب هذا العالم، في بلد نافٍ للفن، وللفلسفة وللبيرة الباردة والويسكي الفاخر الممزوج بقطع الثلج، وبعربدة الفكر عالي الوجودية للسكيرين، ولعازفي الموسيقا الكلاسيكية. في «عازف الغيوم»، البطل هنا نبيل، يبدو كأنها مثلث في بلاد المربعات، أو دائري في بلاد الزوايا الضيقة، بيده يحمل آلته الموسيقية التشيلوـ عابراً الأزقة الزنخة بالغبار والفقر والتطرف الديني للمدينة المتحللة، التي لم يهترئ فيها سوى الأخلاق بالمعنى الجمالي للمدينة الفاضلة، يسير نبيل بتلك الآلة الفضائحية الحجم، لتضيف «التشيلو» لنبيل غربة على غربة في محيط بغدادي فظ، بذيء، شعبي، محيط يطالب البطل بالصلاة واللحاق بصوت الله، بالتبرع لجامع، محيط يطرد صاحب صوت الموسيقى «الكلاسيكية» الناشز، عن ضجيج باعة الخضار، وزعيق أبواق السيارات، وسائقي التاكسي وشتائمهم. التناقض يحكم الرواية في كل مفاهيمها، والضحك الصافي المعافى مثل عذوبة الماء وسلاستها تلاحقك في كل حدث، يعقد معك علي بدر صفقة عادلة، بروايته «الكونديرية» التامة، دائرية الحبكة، والمتواترة حتى الدوخة، فسوء الفهم والعقدة الملتوية والتكرار المدوخ لذات الحدث الذي يمنح في كل مرة معنى مغاير لقراءة التناقضات، يجعلك تشترك معه برسم شكل الحركة الثانية لقطعة الدومينو التي تتحرك فوق حياة نبيل، منهارة في انهداد لا عودة عنه.

تهويمات الانسجام هو نبيل الهارب من بغداد إلى بلجيكا، الباحث عن معنى لحياته كموسيقي، وهو يلاحق الهارموني، ويشعر بالنفور عن محيطه، خاصة بعد أن ضربه متشددو الحي وكسروا له آلة التشيلو، يصل بلجيكا ليجد بغداد مصغرة بكوارثها في الحي البلجيكي للمهاجرين، حيث سيضُرب مجددا من المهاجر التركي الذي سيكسر له آلة التشيلو الموازية، التي اشتراها بمال صديقته البلجيكية الثرية البيضاء. لكي يخلص نبيل من وصمة الهجرة، فإنه يخترع نظرية تريحه وتنفيه خارج هويته كمهاجر ليختار هوية فكرية تكون هي جنسيته وبطاقته المعرّفة، فيخرج في مظاهرة لليمين المتطرف البلجيكي الذي يعادي القادمين الجدد وقيمهم الاسلاموية، ليجد ذاته وسمرته، وملامحه «المهاجرة» تلعنه من جديد، عندما يهجم عليه اليمينيون المتطرفون، ويخلصه المتشددون الاسلاميون الذين هرب منهم، وطالب بطردهم خارج بلجيكا، ليكتشف أن الاختلاف هو الذي أتى به إلى بلجيكا، والاختلاف، وقيم الاختلاف هي التي ستحميه في غربته من جميع التطرفات. في عازف الغيوم موعد مؤكد مع المتعة، والضحك الأصلي، في رواية مشذبة الحجم، ولا تنسى.

(]) صدرت عن «دار المتوسط» (إيطاليا)

عن صحيفة السفير

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم