تحاول الكاتبة رجاء نعمة في روايتها «شيطان في نيو قرطاج» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) أن تبني مدينة فاضلة بمقاييس جديدة، تقوم أعمدتها الأساس على حجارة الأساطير. فتُعيد روائياً سطوة الماضي الأسطوري وتصوّرات المستقبل البعيد، وما لذلك من تأثير عميق في تأسيس الدول والمجتمعات المثالية في التاريخ. وليس بعيدًا أو توهّمًا أن تكون الأسباب التي دفعت فيلسوفَي المدن الفاضلة إلى رسم حدود مدينتيهما، هي نفسها أسباب تأسيس مدينة نيو قرطاج. فالحالة التي نعيشها اليوم من حروب دائرة، ودماء جارية، وتفتّت في جسد هذه الأمة، تقترب بطبيعتها من الأسباب التي دفعت أفلاطون للبحث عن حلول قد تنتشل الواقع مما سقط فيه. فلم تكن فلسفته المثالية في بناء جمهوريته الفاضلة سوى رد فعل على أزمات عنيفة توالت على أثينا، فهزّت المدينة وأهلها. بل إنّ عالمه اليوتوبي ذاك ليس إلاّ عصارة تلك المرحلة العصيبة من تاريخ مدينته، والمقصود هنا مرحلة حرب أثينا وأسبرطة، التي طاولت نيرانُها مدنًا أخرى فمزّقت البلاد وقطعت جسور أوصالها، ولم يبق سوى الظلام والفوضى. فجاءت المثالية أو الخيال خياراً فلسفياً إزاء العجز عن التحكّم بظروف تتجاوز قدراته... وكذلك فعل الفيلسوف المسلم الفارابي، حين دفعته الظروف المشابهة الى رسم مدينته الفاضلة، حيث المحيط الزاخر بالحروب والتفرقة بين الدويلات والطغيان والظلم والفتن. وتأتي هذه المقاربة بديهية عند قراءة رواية نعمة. فهل لمست الكاتبة استحالة تحسين الأوضاع الحالية؟ وهل شكّلت مدينتها الافتراضية ملاذًا لها على الأقل في ظلّ حياة قائمة على الموت والعنف وإقصاء الآخر؟

الهاربون في روايتها الجديدة، تقدّم الكاتبة صورة مدينة تغدو مهربًا لكل من تراوده فكرة الحياة والإنسانية. مدينة تُبنى في زمن مستقبلي (بعد خمسين عامًا)، يلوذ بها كل من يسعى الى التخلّص من تاريخه الدمويّ. شخصيات بماضٍ شرير، تصنع مدينة خيرة فتقع في عشقها. ويغدو من الصعب الانفصال عنها. فهل الخير والجمال أقوى من قيم الشرّ والعنف؟ تتسع نيو قرطاج للهاربين من حيواتهم السابقة إذاً. تهافت عليها فنانون وعلماء وزعماء أرادوا التخلص من تاريخهم المؤلم... هكذا يُمثّل سكّان هذه المدينة شخصيات روائية مركّبة، بحيث يحمل البطل في داخله ضدّه. وعبثًا حاولت تلك الشخصيات الانسلاخ عن ذكرياتها، هي المتناسلة من مركّبات تناقضية. أسماء تتوالد من أسماء، فتحيلنا إلى رمزية أصحاب تلك الأسماء... كارلوس، الذي وجد نفسه في مستشفى بلا ذاكرة، يحاول لملمة ما تشظى من حياته في البلقان حيث الحروب المتجددة... فتُحيلنا الكاتبة إلى شخصية «كارلوس» الفنزويلي، المناضل والإرهابي، مما يكرّس ازدواجية الشخوص. وهذا ما تقوله في نصّها: «بعضهم يرى في هذا مناضلاً حرّاً والآخرون إرهابياً مدمراً» (ص69). في الرواية، تتشكّل حياة جديدة لكارلوس - الذي ورث حكماً ممن بنى المدينة- على يد الطبيب «شندلنر»، الحامل كغيره، سراً لم يستطع إخفاءه كثيراً، فهو المرتكب جريمة بحقّ أحد أبنائه «لودفيغ» الذي أصبح في ما بعد علماً من أعلام المدينة فنياً، قبل أن يختفي بطريقة ملتبسة لتتوجّه أصابع الاتهام إلى أكثر من شخصية في ظروف مختلفة، من دون الإشارة إلى كارلوس الحاكم الأكثر استفادة من اختفائه نظراً إلى ما يكنّه لـ«أليسار»، الإعلامية الشهيرة التي أحبّت لودفيغ. علماً أنّ أليسار هذه، وهي الآتية من لبنان، تحمل اسماً يحيلنا إلى أسطورة أليسار «الصورية» (من مدينة صور الساحلية) والتي بنت قرطاجة التاريخية... أمّا هذا التناقض المتحارب داخل الأبطال فتجسّده مسلّة ميدان المدينة لحظة نصبها، لكونها تشير إلى النقيضين معاً «ذلك أن شروط الجمال والتناسق هي ذاتها شروط الخداع» (ص9). إنها مدينة مبنية على فعل شندلنر الآثم ذي النفسية الازدواجية التناقضية، وهي تشكّل شاهداً من الشّاهدين على وجوده: «فهذا الآثم ترك في الدنيا شاهدين على ذلك: ابنه آدم ونيو قرطاج» (ص462). وعلى رغم أنّ الرواية تتصف بملامح الخيال العلمي، غير أنّ الكاتبة تسلّحت بمخزون اسطوري أكّدت من خلاله أنّ تجاوز الحاضر الفوضوي الدموي، يحتاج إلى ارتداد نحو الوراء والقفز بمقوّماته الإنسانية نحو الأمام. وليس هذا بجديد على تاريخنا القريب والبعيد، فالأوروبي دخل باب الحضارة الحديثة عبر فلسفة تاريخه ونقده، وعبر تنقيته من شوائبه، مستعينًا بما يدفع إلى مسيرة التقدّم، باترًا بمقصّ نقديّ عقليّ كل ما يمكن أن يعيق طرق التغيير.

أزمات نفسية وقد مارست الكاتبة نقدها الموضوعي في رسم حدود مدينتها، على رغم مثالية التصوّر، فكانت أكثر موضوعية من فلاسفة المدن الفاضلة الآخرين، مشيرة إلى عثرات وعراقيل تحول دون تحقّق هذه المدينة. فتقدّم نعمة شخصياتٍ ترزح تحت ثقل أزمات نفسيّة، وكأنّ الهارب من تاريخه نحو تاريخ جديد، ينبغي أن يجلس على أريكة اعتراف تصنعها الكاتبة التي أثرت نصها بمصطلحات علم النفس، مستفيدة من خبرتها في التحليل النفسي للأدب، بحيث يُعد كتابها الشهير «صراع المقهور مع السلطة» خير شاهد على ذلك... وأكثر ما يؤكّد واقعيتها، أنّها جعلت مدينتها التي تحاول أن تتخلّص من الجهل عبر استنساخات علمية تعمل على غربلة الأجيال الآتية، قد تبقى عرضة لأصحاب الفكر الظلامي. فيأتي من يهاجم المدينة الفائضة بالمظاهر العلمية من سلاح وطبابة وتجارب، محاولاً إرجاع الحياة إلى الوراء، شكلًا ومضمونًا، بحجّة أنّ ما توصّل اليه العلماء يعدّ تطاولاً على الخالق: «المستنسخون هؤلاء يحملون بالتأكيد روح القوى الشريرة التي ساهمت في وجودهم الآثم. وجود من شأنه تدنيس الأرض وهلاك البشر... (ص310). وبهذا تحذّر الكاتبة من تقديس الماضي وتكريس ثوابته بدلاً من احترامه والاستفادة منه فقط: «في التاريخ تلازمت التغيرات العلمية الكبرى وإدانات وصل بعضها حد الحكم بالموت على المجددين... وبهذه المناسبة يدعو مركزنا الناس إلى إعادة التفكير بثوابت قديمة تعرقل الابتكارات التي من شأنها تحسين النوع» (ص277). وليس هذا التطوّر بالنوع وغربلته بأمر جديد، وهذا يؤكّد أن الكاتب ليس سوى متلقّ أوّل يعرف كيف يصوغ ما يتلقاه. وترى الكاتبة أن الغاية من الاستنساخ هي تحسين النوع وتصفيته وتطويره. تقدّم الكاتبة هذه القضايا والرؤى عبر لعبة زمنية تقوم على الاستباق المعلن عنه منذ البدايات. وتجعل المتلقي مشدودًا متشوّقًا، إلى معرفة طبيعة الحكم، وكيف ستقوم ركائز أعمدته. فهل سيكون الحكم للأب بعد قتله ابنه وتحقيق اسطورة ايديمنيوس؟ أم الحكم لأوديب بعد قتله أباه وتحقيق اسطورة سوفوكل؟ وفي كلتا الحالين فإن الحكم سيكون قوامه حدثًا تراجيديًّا والمأساة سيدة الموقف: «وضبطت نفسي أهتف: عفوك أيّها المعلم... فالأب سيقتل ابنه... كما قتل أوديب أباه على غفلة بلا رحمة ولا مقايضة» (ص165)... وبطريقة رمزية، تشير الكاتبة إلى أنّ الحياة لكي تستقيم بعد فساد وفجور، لا بدّ من طوفان ينتشل الأرض من براثن الرجس وأنفاس الشرّ.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم