تثير رواية "الغلس" الأولى للقاص السوري ماجد رشيد العويد، إشكالية اتصال الأدب بالواقع: تعبيره أو انبثاقه عن البيئة الاجتماعية وتفاعلاتها السياسية، التي تدفع بالكاتب لإنجاز نص أدبي، يتاخم فيه القول حدود الفعل المتخيل على الأرض، وفي حياة الناس واليوم والأزمة السورية الدامية التي تطحن المتَصوّر، والواقع على حدٍّ سواء، تعيدنا بإشكالياتها المعقدة إلى مربع السؤال الدائم، عما إذا كان الأدب -حقاً- معبراً عن الواقع أو متصلاً به

رواية ماجد العويد – في اعتقادنا- ذات صلة بالحدث القائم اليوم ، من حيث فكرتها وأحداثها وشخوصها.فهو يتناول حياة مجتمع البداوة والريف، منذ بدايات القرن العشرين، ويمضي معه في مراحل نموه وتطوره، والرقة تلك الغافية على كتف الفرات، هي المدينة التي تشكل المادة الخصبة للنص الروائي، انعكاساً للمجتمع السوري، وخاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فيما تشكل شخصيته الرئيسة التي تتمحور فكرة النص على إبراز طبيعتها: ” المسبوت ” عبر الشخصية الموازية ، الأكثر اهمية في الرواية ” هلال ” .

ما يحدث في سورية هو نتيجة طبيعية، لتراكمات الخمسين عاماً الماضية، التي اتسمت بالاستبداد والقهر والظلم، وهو عينه استبداد المسبوت في الرواية الذي يحكم المدينة، ويبقى حاكماً لها وهو في حالة ” موت سريري “ باسمه تقام الصلوات، وتمنح البركات للناس الذين لا يستطيعون الفكاك من خوفٍ زرعه المسبوت حمود في حياتهم، وطبع به المجتمع الذي يحكمه !

يقص علينا العويد حكاية حمود وهلال، ومجتمع المدينة المقموع، بلغة راقية وجميلة في تناوله أحداث الرواية، حتى لتكاد تشعر أو تتلمس ظل الحروف الهادئة التي يصوغ بها أحداثاً مرّة .. مرعبة ومهلكة، ويرتقي بإسلوبه الممتع والمميز لملامسة المشاعر الانسانية، الفياضة بالتوق الى الحياة والإنعتاق، والحسّ الإنساني بالحرية، لا يختلف في نص العويد عن درجة الإحساس ذاته بالجنس، او التمرد، أو الرغبة بمواجهة الريح العاتية المحملة بالغبار المميت، حيث تسمو الأنسنة فوق كل اعتبار، حتى لدى حمود المسبوت، الذي يخرج هلال من إسار سطوته، بانفلاته في الريح التي تقوده دائماً الى ما يعتقد أنه يمثله أو يعبر عنه، أو أنه غايته ومسعاه.

يبني ماجد العويد روايته على الزمن بدءاً، كناظم رئيس للنص، تدور في أفقه مكوناته من أحداث وشخصيات.. يظهر ذلك جلياً في العنوان الذي اختاره العويد اسماً للرواية "الغلس" وهي لحظة ولادة النور من الظلمة، وهي اللحظة التي تقود هلال للإنتقال من الجهل الى البحث عن المعرفة، ومن الشبق إلى ذروة اللذة، ومن البراري إلى السجن السياسي بلا موجبات، ومن السجن إلى الحرية..حيث تتكرر الإشارة الى الغلس كحالة، ومفردة في النص الذي قسمه الكاتب زمنياً تبعاً لسيرة المسبوت، الطاغية الذي لايريد للغلس أن يحقق وثبة النور.

هكذا تتحدد الرواية بزمن المسبوت: السنة الأولى من السبات، السنوات العشرون، الثلاثون،الأربعون، وإذ يلمح الى الخواء بالتوازي مع الزمن المهدور، فان العويد يبرز المرحلة التاريخية، التي يتناولها في النص، وكذلك الأحداث التي وسمتها، بكل مافيها من حروب وهزائم وانكسارات، دون ان يكون للمسبوت إنجازٌ ما، يتصل بالناس، بما يشعرهم بآدميتهم، وحقهم في العيش والنماء.

وإذا كانت شخصية المسبوت حمود نموذجاً لأي طاغية، يحكم مجتمعه بالقوة والخوف، فإنها أيضاً شخصية ملوثة، وأن الدهاء لديه هو واحدٌ من تجليات الجهل والضعف الكامن في الروح، في الذات البشريةن التي يريد لها المسبوت واعوانه الارتقاء بها الى مستوى من القداسة، لا غشكالية في نسبته الى الألوهية. تلك هي حال مسبوت العويد، وهي انموذج لحالات شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، في مدن ومجتمعات عدة. والمثال ينطبق تماماً على سورية، لكن النص الأدبي يترك للقارئ الخيار في الإشارة للمسبوت، وهو على أي حال، متعدد الهوية ، موحد الطبائع التي وجدت فيه، وأوجدها عبر مسلكه التسلطي في الحكم وإدارة المجتمع.

أما الشخصية التي تنبني الرواية على حركتها وافكارها في الحياة : الآراء والأفكار التي يطرحها العويد، محملاً إياها عبء البوح بها، فهي شخصية هلال..الفريدة والممتعة والمشبعة بالظرافة. تجعل من القارئ مشدوداً الى هذا الانسان الملتصق بالحياة وبالنور، الى حدّ الهلاك، وتماهيه بالغرائبية والإدهاش، داخل مجتمعه الصغير الذي يكبر شيئاً فشيئاً، في ظل المسبوت : وهو الخارج عن ظل ذاته، من خلال علاقاته مع الجنية، والغبار والريح وجسر الفرات، والنساء اللواتي جعلن لحياته معنى من البهاء، ينضاف الى سماته التي نضحت بغناها رواية الغلس.

على أهمية النص الروائي، الذي تناول فيه الكاتب الصراع المسلح على السلطة في سورية، خلال فترة الثمانينات، وتصالها بالظروف الاقليمية والدولية، والقهر والقمع اللذين مورسا بوسائل وصور بشعة، فإن الرواية تأخذ اهمية خاصة في سياق ما يحدث اليوم من نزاع دموي، فالمسبوت لايكفّ عن مواصلة حربه ضد شعبه، في محاولة إخضاعه بقوة إراقة الدم، وتمسكه بقداسةٍ واهيةٍ ابتدعها، كي يسوس المجتمع بالقهر والإذلال.

رواية ماجد رشيد العويد في آفاقها الحكائية، هي نصٌ ينزع للكشف عما يتاح من عورات الطغاة وهي ايضاً دعوة لفعل المزيد من ذلك، نحو كسر الصمت، وتبديد الخوف.

الغلس – ماجد رشيد العويد – الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت – الطبعة الأولى  2010

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم