يقدّم رامي طويل شهادة أليمة عن الحرب في مجموعته «قبل أن تبرد القهوة» (دار الساقي، بيروت) الغارقة في فضاءات عدمية، عبثية، مغلقة، سامّة، قاتلة وإن تركت ضحاياها أحياء. أربع عشرة قصة تجمعها الخسارة، التهديد الدائم، فقدان الأمل والأمان والقرار، وعودة الفرد الى وضعه الأصلي، مخلوقاً هشاً عاجزاً تقف لحظة سريعة بين حياته وموته اللذين يقررهما الآخر. معظم القصص عن الحرب التي تتشوّش فيها الطبيعة البشرية المعقدة، والخيط الرفيع بين الوجود والعدم، ورؤية الفرد لمكانه ودوره في جماعته. الراعي اليوم قد يكون جلاداً في الماضي، والجلاد قد يتحوّل ضحية إذا اختلفت أدوات رؤياه. يستخدم الكاتب السوري ما يحتاجه من اللغة بلا زيادة أو نقصان، متفادياً استدرار العاطفة وإغراء الخطابة، فيعمّق حياده الظاهر شهادته المضادة للعنف وأهله، ويكثّف حالة شخصياته وأثر مواقفها في لعبة فنية متقنة. غلاف المجموعة الجميلة لوحة «تناغم بالأزرق والفضي» للفنان الأميركي جيمس وسلر التي يناقض الأصفر فيها قتام المحتوى. في «الطريق الى البيت» تستعد أم شابة لإعداد قالب حلوى لعيد ميلاد طفلها الثامن، لكن قوى الأمن تقتلها مع شقيقها المعارض المختبئ في بيتها. يهرب الأب بطفله في شاحنة مع أنسباء معارضين آخرين واجهوا المصير نفسه. تسقط قذيفة على الشاحنة فيُقتل الجميع وبينهم الطفل الممسك بدميته المبتورة الذراع، إشارة الى الطفولة المنقوصة. يدفع أطفال في «القناص» شاباً بساق واحدة ويفرحون بوقوعه، فينقذه العم ابراهيم، بائع الفول، كالعادة. أعطاه يوماً صحن فول ليسدّ جوعه، وسمح له بالنوم ليلاً قرب عربته، فأحب وجهه الطيب. اليوم، بعد أعوام على لقائهما وصحون الفول المجانية، يسأله العم ابراهيم عن سبب فقدانه ساقه، فيلتقي ماضيهما. قتلت قذيفة والدته في المطبخ وهي تعدّ له اليانسون علّها تسكّن خوفه من القصف. حمله والده وهرب به لكن قناصاً قتله، ثم تسبّبت رصاصته الثانية ببتر ساقه. «الهاربان» عن كاتب يترك قلق المدينة وضوضاءها الى القرية علّه يكمل روايته فيها. يحس أن المكان سيُثري عمله ويسرّع وتيرته، ويُفاجَأ حين يمشي في طريق جبلية مقفرة ببائع يانصيب عجوز فيشتري منه ثلاث ورقات. كان هذا الموت الذي لحقه الى القرية البعيدة، وترك دمه يسيل قانياً على الثلج. في «روماتيزم» تستعمل الجدة المصابة بداء المفاصل ممسّد الشعر وهي تظنه الدواء الذي طلبته من حفيدتها. يزول ألمها وتتمكّن من السير فتكافئ الحفيدة بحياكة وشاح صوف. بعد خمسة وأربعين عاماً تجلس هذه وحيدة في سريرها وهي تضع الوشاح. تسمع هدير القتال، وتتذكّر ابتسامة ابنها وهو بلباسه العسكري قبل أن يغادر البيت. تنسى أنه قتل في المعركة ودُفن على أرضها لتعذّر نقل جثته. «عيون مغمضة» عن أربعيني اعتاد في طفولته أن يغمض عينيه في الطريق الى المدرسة ليتسلى. يحس الآن أنه سيفقد نظره في الحرب، ويتدرّب على حياته المقبلة بالمشي في المدينة مغمض العينين. يدمّر القصف بلدته وبيته، ويقتل أبا محمود، صاحب الدكان، وسهيلة التي كان يتلصّص عليها بشعرها المبلول ولباس النوم الشفاف. يمشي في المدينة التي لجأ اليها وهو يغلق عينيه، وتستمر حياته السابقة خلف جفنيه المغمضين. يرى أبا محمود ينقل صناديق الخضر، وسهيلة التي بدأ الشيب يتسلّل الى شعرها، لكنه لا يشاهد الكثيرين الذين يسيرون مثله بأعين مغمضة. استخدام العيون المغمضة تجاهلاً لبشاعات الحرب ورفضاً لقبولها أو التواطؤ معها ليس جديداً في الأدب العربي، وأعتقد أن الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس استعمله في العقد الماضي. في «منشور سرّي» ترمي طائرة هليكوبتر أوراقاً دعائية ملونة في الذكرى الخمسين لقيام الحزب الحاكم، ويجمع فريد الكثير منها بفرح. يشاهد فيلماً تلفزيونياً قديماً عن معلّم حزبي يصارع الإقطاع ويدافع عن فقراء القرية. يخيب الفتى ببطله حين يهاجمه رجال الاستخبارات ويضربونه ويرفسونه، فيبقى ذليلاً على الأرض قرب حقيبته التي تحمل أعداداً من صحيفة حزب البعث. يبدأ بشراء الصحيفة وهو يجهل أن الحزب يتولى السلطة، ويحلم بوراثة بطله وهزم أعدائه خلافاً له. يستخدم طويل النظارة مجازاً سياسياً في قصة يضع فيها كاتب معروف نظارة ليل نهار، فيسخر منه رجل أمن ويستولي عليها. يزور الكاتب الرجل حين يكتشف أنه سُجن لانتقاده النظام وشتمه رئيس الجمهورية علناً، ويجده شبه شبح من التعذيب. وضع النظارة ليل نهار كالكاتب، فأصيب برؤيته المعارضة وعوقب. قصة «دوبلاج» تلهو بالعبيثة والإيحاء اللذين يسيطران على رجل يسمع شابّة تقول لرفيقتها إنها ماتت وتنتظر الآن فرصة ثانية. يقلق ويتساءل ما إذا كان هو أيضاً ميت حتى حين يرغب في زوجته. يشك في كونها من الأموات رغم تأكيدها أنهما حيّين وينتظران طفلاً. حين تمر الفتاتان به ثانية وهو متكئ على الجدار، نعرف أن «الراحلة» ممثلة تبحث عن دور جديد بعد موت شخصيتها، وتكتمل اللعبة الفنية بقولها إنه ينام كالميت. في «امرأتان» حب وانتظار وإسقاط لخبرتنا على الآخرين. تقرّر سيدة خمسينية في المقهى أن الشابة المرتبكة تنتظر حبيباً لن يأتي وتنصحها بتفادي الوهم لأنه كان وافاها لو أحبّها. لكن قلق الشابة نجم عن انتظارها اتصالاً في يومها الأول في الوظيفة، والخمسينية هي التي انتظرت صديقها الجديد ساعتين ونصف ساعة. تبرهن أنها أكثر حكمة حين يتعلّق الأمر بالآخرين، وتطلب فنجان قهوة سادساً علّه يأتي. قصة المجموعة عن الحب والانتظار أيضاً، والأمل الذي لا يذبل كالورود فيها. في «بائع الورود» يهتم الطفل بنظافته وأناقته ويتبادل أحاديث لطيفة مع رواد المطاعم والمقاهي، فيصادقونه ويشترون وروده. يغار زملاؤه منه لكنهم يفشلون في بيع ورودهم حين يقلّدونه ويهتمون بمظهرهم، على أن الصداقة تنعكس سلباً على الطفل لاحقاً. القصتان الكوميديتان في المجموعة عن اللطف غير العادي الذي يبديه موظف نحو زميلين يوم قراره تقديم استقالته. لن يسمح لحاجته أن تكون سبباً لتلقّيه الإهانات، يقول حين ينصحانه بالتريّث، ثم يحطم الأدوات على المكتب أمامه حين يسبقه المدير ويطرده. في «اللثغة» يعاني معلّم يلثغ بحرف الراء من سخرية التلامذة، ثم يستعيد ثقته بنفسه وسلطته حين يستخدم مفردات تخلو من الحرف المزعج، ويخيفهم بعصاه التي بات يستخدمها بلا تردّد. يكلّف إلقاء خطبة يجب أن تنتهي طبعاً بشعار الحزب، ويعود ضحية لتلامذته حين يلفظ الحرف ويشعر بأنه عارٍ على المنبر.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم