بعد أقل من عام على رحيل أديب ألمانيا الأشهر جونتر جراس، صدر في القاهرة كتاب يؤكد إننا لم نكن نعرف عنه إلا أقل القليل؛ فبعد الانتهاء من قراءة كتاب "جونتر جراس ومواجهة ماض لا يمضى" (الصادر عن دار "الكتب خان")، للكاتب والمترجم سمير جريس، يمكن القول إن معرفتنا بجراس وعالمه ضئيلة للغاية، أو ربما لم نكن نعرفه!

خلال أحاديثه مع بعض المثقفين في لبنان العام 2003، لاحظ الروائي الألماني ميشائيل كليبرغ أن جونتر جراس يمثل لهم رمزا، لا كاتباً يقرأونه. وفى المرة الوحيدة التي جلس فيها جراس مع كتّاب عرب في اليمن، كانوا ينظرون نظرة تقدير إلى جراس اليساري الداعم للعالم الثالث وحقوق الإنسان، والمندد بالسياسات الأميركية، من دون أن يكونوا قد قرأوا أعماله، وبعضهم كان شجاعا واعترف لغريس بأنه بدأ قراءة "طبل الصفيح" لكن لم يستطيع إكمالها.

المعرفة الضئيلة لم تكن فقط بسبب قلة ما تٌرجم من أعماله الضخمة، لكن لأن ما وصلنا -على قلته- لم يكن دقيقا في الترجمة، كما يوضح مؤلف الكتاب الذي خصص فصلاً كاملاً لتناول بعض الترجمات العربية لأعمال جراس وتبيان ما فيها من كوارث، مع اعترافه في البداية بصعوبة ترجمة أعماله لما تحمله من ألعاب لغوية وجُمله الطويلة المفعمة بالتفاصيل، وصوره البلاغية الكثيرة، لكن تلك الصعوبات جعلت بعض الأعمال تخرج كالنكتة المصحوبة بالشروحات... فهل يضحك عليها أحد؟!

الكتاب على صغر حجمه -إذا لا يتجاوز 250 صفحة- يقدم وجوهاً متعددة لحامل نوبل، بعضها قد يكون معروفاً. لكن الملفت في الكتاب، والذي يزيد من أهميته، أنه يقدم السياق التاريخي لأعمال جراس وللأحداث التي عاشها أو علق عليها، لذا فهو ليس فقط كما يصفه مؤلفه "نافذة صغيرة على عالم كاتب كبير"، بل إنه يكاد يكون الوحيد بالعربية الذي قدم سجلاً حافلاً لعالم جونتر جراس، بشكل يجعله مدخلاً مهماً لا غني عنه، لم ينو خوض تجربة قراءة أعمال جراس. الجميل في الكتاب أيضاً أنه لا يتورط في التسجيل الجاف للأحداث بل تبدو المقالات كما لو كانت قصه طويلة تكشف في كل فصل عن وجه جديد لشخصية بالغة الثراء.

البداية مع جراس الطفل الذي انتهت طفولته فجأة بالهجوم على مبنى البريد البولندي في المدينة القديمة في دانتسج، وبداية الحرب العالمية الثانية، ثم الشاب الذي وجد نفسه منذ صباه في قلب أحداث أعادت تشكيل العالم بأسره. انساق وراء النازية صبياً، وخبر ضعف الفرد أمام غواية الشر، ثم شارك في حرب مدمرة، وظل يؤمن حتى اللحظة الأخيرة بالنصر النهائي لقوات هتلر. والسياسي الذي أدرك أنه يعيش بالصدفة، بعدما انتهت الحرب التي فتكت بزملاء له أمام عينيه، وكان شاهدا على أحداث وجرائم بشعة، بل ومشاركا فيها، فحاول التكفير عن ذلك وضمان عدم تكراره، ثم الكتابة.. سبيله الوحيد لمواجهة ماضية.

كثير من أحداث الكتاب على تماس مع قضايا أدبية وسياسية ما زالت جارية حتى اليوم، ففي العام 1962 تقدم كاتب مجهول يدعى كورت تسيزل ببلاغ إلى النيابة، يتهم فيه جونتر جراس بنشر مؤلفات إباحية، وهو ما كان يعاقب عليه القانون آنذاك. قال تسيزل في بلاغه إنه قرأ الرواية واكتشف فيها "قذارات لن يجرؤ إنسان عادى على كتابتها حتى على حائط مرحاض". لكن نيابة مدينة كوبلتنس حفظت القضية.

أكدت النيابة أن رواية "قط وفأر" تحتوى بالفعل على "أوصاف عديدة قصيرة لأفعال جنسية إذا نظرنا إليها على حدة، فسيتضح لنا أنها لا تمثل خطورة جسيمة على الشباب فحسب، بل إنها أيضا يمكن –من الناحية الجنسية- أن تخدش حياء الإنسان العادي وتفسد الأخلاق الحميدة" غير أن النيابة أشارت في الجملة التالية إلى التقدير الملائم للظواهر الأدبية يستلزم فهما أدبيا وفنيا، وأن هذا هو المعيار.

وتوصلت النيابة إلى الحكم التالي: "إن القارئ المتوسط لا يستسيغ الأدب الحديث، ولذلك لا ينبغي اعتبار الإنسان العادي هو المقياس. إن المعيار الوحيد الموثوق به في هذه الحالات هو الإنسان المهتم بالفنون والأدب الحديث. إذا اعتمدنا هذا المعيار، فلا شك في أن كتاب "قط وفأر" لا يمكن اعتباره إباحياً.. فالفقرات الواردة في الكتاب التي تثير استياءكم لا يمكن النظر إليها منفصلة عن السياق العام. والفيصل هنا هو التأمل الموضوعي النزيه لهذه الفقرات، وهو يبين أنها جزء طبيعي من الإطار العام للأحداث، وأنها تتوارى إلى الخلفية بفضل المهارة الفنية والقدرة الإبداعية للكاتب".

يعلق جريس: "نيابة واعية متبصرة تفهم خصوصيات الأدب والفن رفضت هذه الوشاية التي قدمت في صورة بلاغ". غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، كما يوضح المؤلف، فتسيزل لم يرضخ ولم يستسلم، بل نشر رداً في الصحف كرر فيه اتهاماته لجراس، واستخدم فيه عبارات مثل: "دناءات بورنوغرافية"، و"أفظع القذارات الإباحية"، و"عمل دنيء يطفح بالبورنوغرافيا والتجديف على الذات الإلهية"، و"أفعال خنازير"، و"كلام بالوعات"، و"شطح جنسي"، و"استهزاء بدولة القانون المسيحية التي نعيش فيها"، و"تدمير للأخلاق والتقاليد الحميدة".

وهي تقريبا القضية نفسها التي تثار كل حين وآخر في منطقتنا العربية، وآخرها ما واجهه الكاتب أحمد ناجي وروايته "استخدام الحياة"، وللمفارقة تتكرر العبارات بنصها مع القضية التي واجهها جراس من قبل.

العبارات تكررت أيضا في قضايا أخرى، كما يشير المؤلف، منها أزمة الكاتب السوري حيدر حيدر وروايته "وليمة لأعشاب البحر"، آنذاك شن ممثلوا التيار الإسلامي في مصر حملة عنيفة على المسؤولين عن نشر الكتاب، معتبرين أن الرواية تمثل إساءة وتطاولاً على الله ورسوله، وأنها تدعو إلى الإلحاد. وخرجت وقتها مظاهرات بالقرب من جامعة الأزهر ضمن آلاف الطلبة، وحدثت مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، وانتهت الأزمة بسحب نسخ الكتاب من السوق "وهكذا تم إغلاق ملف "الوليمة" بإجراءات سلطوية بحتة –أي بسحب نسخ الرواية من الأسواق وإغلاق الجريدة التي نشرت مقالا تحريضيا ضد الرواية- من دون أن يجرى نقاش مجتمعي حول المسموح والممنوع في الأدب والفن، ومن دون أن يستطيع المثقفون، أو من دون أن يتاح لهم الدفاع دفاعا حقيقيا عن حرية الرأي".

وما طالب به المؤلف هو ما حدث فعلا في قضية جراس مع الفارق طبعا، إذ لم يطالب أحد في ألمانيا بمنع الرواية، ولم تسحب أي نسخ من الأسواق، غير أن حكومة إحدى الولايات (هسن) تقدمت بطلب إلى مصلحة حماية الشبيبة لوضع الرواية على قائمة الكتب التي تمثل خطرا على الشباب، وهو ما كان مقدمة لحملة قادها المثقفون للدفاع عن جراس وحريته الفنية، حتى حفظت القضية في نهاية العام 1962. غير أن الجدل تجدد مرة أخرى حينما مُنح جائزة "جيورج بوشنر" التي تعتبر أعلى وسام أدبي في ألمانيا، فخرج المئات من المحافظين إلى الشوارع متظاهرين ورافعين لافتات كتب عليها: "عشرة آلاف مارك من نقود دافعي الضرائب لتكريم الفن أم الأدب الداعر؟".

الطريف إنه عندما خاض جراس في ما بعد، المعركة الانتخابية لصالح الحزب الاشتراكي الديموقراطي، انتهز أعداؤه من معسكر اليمين الفرصة مرة أخرى لوصفه بأنه "مؤلف أبشع القذارات البورنوغرافية، ومؤلف أسوأ الإهانات الموجهة إلى الكنيسة الكاثوليكية" مما دفع جراس لرفع قضية على الكاتب كورت تسيزل الذي اعتاد وصفه بهذه العبارات في عدة مناسبات إلا أن الحكم في النهاية لم يكن لصالحه، وهكذا انتهى الصراع السياسي دون حسم وأصبح جراس "كاتب بورنوغرافي" بحكم محكمة!

على أعتاب الثمانين قرر جراس البوح بأهم أسراره على الإطلاق، وكتب في سيرته الذاتية "أثناء تقشير البصلة"، وهو عنوان دال جدا كما يوضح جريس إذ يبين معاناة جراس أثناء الكتابة، ويوضح هدفه منها: تعرية الذات شيئا فشيئا، ونزع القشور والطبقات للوصول إلى اللب المختفي عن الأنظار، وذرف الدموع التطهرية خلال ذلك. وكان من اللائق أن يحمل سر جراس الأشهر واعترافه بأنه جٌند في إحدى أكثر الفرق دموية ووحشية، وهي سلاح "ss" ويعني قوات الحراسة التي كانت مختصة بحماية هتلر، وهو السلاح الذي ارتكب قائمة طويلة من جرائم الحرب والمذبح التي أبادت قرى بأكملها.

يتساءل جريس: هل هو اعتراف متأخر يخفف مشاعر الذنب التي ظلت تعذبه طوال ستين عاما؟ ولماذا صمت طوال تلك العقود؟ هل كان السبب هو الخوف من فقدان مكانته الأدبية أو الأخلاقية؟ أم السعي وراء جائزة نوبل والرغبة في الحفاظ على نظافة صفحته البيضاء؟ لماذا أراد تناسي انتماءه إلى هذا السلاح وهو الأديب الذي لم يدع فرصة إلا وهاجم فيها صمت الأكثرية ورغبتها في تناسى الماضي النازي؟

هذا هو التناقض الرئيسي في حياة جراس إنسانا وكاتبا، ولعله كان أحد دوافعه إلى الكتابة طيلة هذه السنين، هو ما يؤكده جريس نفسه في الكتاب إذ يقول في الفصول الأولى إن شعورا عميقا بالذنب كان يحرك جراس في كل كتاباته "ولعل جراس لم يتغلب على الخوف الذي تملكه إلا بالكتابة، الكتابة التي تحترم الخوف، وتستدعى من أهوال الماضي ما يحدد التزامات الحاضر. تحرير الذات بالكتابة، كان هو أيضا الطريق الذي سار عليه أبطال جراس في ما بعد، لا سيما "أوسكار ماتسرات" في "طبل الصفيح" و"بيلنتس" في "قط وفأر".

الضجة الواسعة وصلت العالم العربي وأعلن عدد من المثقفين تضامنهم مع جراس في قضيته، وحسب تعليق سمير جريس فإن القضية لم تكن واضحة لهم رغم ذلك، حيث ظنوا أن الهجوم الشرس على جراس سببه انتقاد إسرائيل، فسارعوا إلى التضامن مع الكاتب اليساري الشجاع، لكن القضية كما يفسر لم تكن كذلك، وإسرائيل لم تكن هي الموضوع الأساسي، لأن جراس ظل يؤكد منذ الستينيات أنه "صديق إسرائيل"، وحتى عندما وجه النقد لها في قصيدته "ما ينبغي أن يقال" –التي وصفها جريس بالمباشرة والساذجة والتافهة- كان يحركه المنطق نفسه، يقول جريس: "لم تكن إسرائيل في رأيي هي السبب الرئيسي وراء تلك الحملة. لقد كان السبب صمت جراس عن ماضيه طيلة ستة عقود، وعدم تورعه في الوقت نفسه عن مهاجمة الآخرين لأنهم لم يواجهوا ماضيهم بشجاعة. لقد تناسى الموقعون أن الضجة التي أثيرت في ألمانيا كانت حول رجل تحول برواياته ومقالاته ومواقفه السياسية إلى مؤسسة أخلاقية وضمير ألمانيا بعد الحرب، فإذا بالقراء يكتشفون أن "واعظ" ألمانيا منافق، صمت ستين عاما عندما تعلق الأمر بشخصه".

*درس سمير جريس الألمانية وآدابها في القاهرة، ونال درجة الماجستير من جامعة ماينتس بألمانيا برسالة عن "إشكاليات ترجمة الأدب الألماني إلى العربية". ونقل إلى العربية مجموعة من الأعمال الأدبية المهمة. عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم