اعتمد الكاتب الأميركي بول أوستر، في روايته «مستر فِرْتَيْجو» (صدرت الترجمة العربية عن المركز القومي المصري للترجمة بتوقيع عبدالمقصود عبدالكريم) على عشوائية المصادفة، فجعل منها الحاكم الرئيس لتطوّر الفعل الدرامي في النص، بدءاً من الصفحات الأولى التي يلتقي فيها الراوي «والت» بأستاذه «يهودي» الذي اكتشف قدراته على الطيران عام 1927، حتى الصفحات الأخيرة من النص التي يلتقي فيها بطفل يشبهه في الموهبة والقدرة على التحليق، لكنه بعدم سرد ما مرَّ به من آلام وعذابات يقرر أن يترك موهبة الطفل للطبيعة وحدها كي تنمّيها، موقناً أن للمواهب طرقها الخاصة في الظهور والنمو من دون الحاجة إلى تدريبات لا معنى لها سوى تعذيب الروح والجسد.

لجأ أوستر في هذا النص، إلى حيلة خيالية ليضع من خلالها فلسفته عن الدين وعشوائية الحياة، فنجد رجلاً يهودياً - يدعى «يهودي» - يرى في وجه الصبي «والت» أمارات موهبة التحليق في الهواء والمشي على الماء، ومن ثم يختطفه ويبدأ بتدريبه وفقاً لمجموعة من المبادئ المتوارثة من عصور قديمة، وهي في غالبيتها مبادئ وقواعد معذبة إن لم تكن قاتلة. كأن يقوم بدفن الصبي تحت التراب لمدة ثلاثة أيام، وقطع جزء من إصبع له ووضعه في زجاجة تتدلى من عنقه، ولا نعرف هل نجحت التدريبات في جعل «والت» يتعلّم الطيران أم أن عذاباته الروحية هي التي دفعته الى تحقيق تلك المعجزة خلاصاً من الآلام. فقد نام باكياً على أرضية المطبخ ليفتح عينيه فيجد نفسه مرتفعاً عن الأرض، ليبدأ مع أستاذه «يهودي» في مشروعهما الكبير لإبهار العالم، عبر سلسلة من العروض في القرى والمدن والمسارح والنوادي الكبرى، وما إن يلمع نجم الصبي وتكتب عنه الصحافة حتى نفاجأ بأنه يصاب بالصداع والدوار فور الانتهاء من كل عرض، لنكتشف أن أصحاب موهبة الطيران يفقدونها حين يبلغون الحُلُم.

هكذا صنع بول أوستر أسطورته من فرض بسيط، لكننا نتصوّر أنه لم يستطع مدَّه على استقامته حتى منتهاه، ومن ثم لجأ إلى قانون المصادفة وعشوائيتها في تنمية الخط الدرامي في النص، فقتل الفرض الذي بدأ منه وعاد إلى الواقع القائم على سوء الاختيار. لنجد أنفسنا أمام سيرة ذاتية مكوّنة من مراحل عدة، أولها حين يموت أستاذه منتحراً أمام عينيه بعدما سرق خاله «سليمان» أموالهما وأطلق النيران عليهما، فيصاب «يهودي» برصاصة في كتفه ويطلب من «والت» أن يطلق النيران عليه لأنه مصاب بالسرطان ولن ينجو منه. وحين رفض «والت» فعلها بيديه ليستريح، يصبح عليه أن يبحث عن «سليمان» ليقتله ويعمل في وظيفته مع رجال المافيا، ويؤهله ذكاؤه لصعود كبير حتى أنه يقرر أن يفتتح ملهى ليلياً خاصاً به. غير أن المصادفة تلقي في طريقه بأحد نجوم البيسبول، هذا البطل الذي طالما أحبَّه وافتتن بقدراته وعروضه الرائعة. لكنه منذ أن كسرت ذراعه من أربع سنوات وهو لا يقدم عروضاً جيدة، ومن ثم يقترح عليه «والت» الطريقة المناسبة لاستعادة مجده واسمه الكبير، وهي أن يطلق الرصاص على رأسه، ومن ثم سيتعاطف الجميع معه ولن يتذكروا سوى أنه كان لاعباً أسطورياً. لكن زوجة اللاعب تدخل عليهما لتنقذ زوجها وتطلب الشرطة، وهنا تبدأ مرحلة جديدة يخسر فيها «والت» ملهاه الليلي ويدخل الجيش كمجند أثناء الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم أنه من أكثر الباحثين عن الموت، ومن أكثر الناس غير المؤهلين للحرب، فإننا نجده الوحيد من بين أصدقائه الذي ينجو من الموت، وحين تضع الحرب أوزارها ويخرج من الجندية، فإن أمره ينتهي بالزواج من امرأة بدينة ويعمل في مصنع لا يسمع به أحد.

بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الزواج، تلعب المصادفة دورها مجدداً، فالسرطان يصيب زوجته ويجهز عليها، ومن ثم يقرر «والت» ترك الولاية بحثاً عن عمل جديد، وفي الطريق إليه يقرر الذهاب إلى بيت أستاذه «يهودي» لزيارة المكان، وهناك يجد السيدة «ويذرسبون» في البيت الذي تركته منذ سنوات، فيقرر أن يرافقها ما بقي من عمرها، وحين تموت تترك له ثروة كبيرة، فيظل في البيت مع خادمتها التي يكتشف مصادفة أن ابن شقيقتها لديه مواهبه نفسها في الطيران. لكنه يرفض أن يدرِّبه وفقاً لقواعد «يهودي»، لأنه كان تدريباً قاسياً وبلا معنى، ومن ثم قرر أن يترك الصبي لحاله، موقناً أن الطبيعة ستدعمه وتعلمه كيفية الطيران. في هذه الرواية، نجد معادلات فنية للفكرة المسيحية، فالطيران الذي قدمه بول أوستر لا يزيد عن الارتفاع عن الأرض بضع أقدام، والسير في الهواء كما لو أننا نصعد سلماً أو ندور في حلقة... ولا ندري إن كان أوستر أراد أن يقدم معادلة فنية لفكرة المسيح في العصر الحالي، أم أنه فقط أراد الاستفادة من طرح الثقافة المسيحية لفكرة السير على الماء والتحليق في الهواء. لكن الفرض الأول يجد في النصف الأول من النص كثيراً من الإشارات التي تعضده، كما أن الرواية في مجملها تنتصر لفكرة المصادفة وقانونها في الاختيار، فضلاً عن تولد الحياة من العدم في كل مرة. ففي كل مرحلة، يصل «والت» إلى أن ليس أمامه سوى أن ينتحر، وفي كل مرة تنجيه المصادفة ليبدأ مجدداً. ويمكن القول أنه الشخص الوحيد الذي نجا من الموت مبكراً هو والسيدة «ويذرسبون»، تلك التي تكفلت به في صغره، فتكفل بها في كبرها، كما أنها ظلّت في مثابة الخيط الرابط بينه وبين أستاذه، ذلك الذي تراجع عن الزواج بها حين علم أنه مصاب بالسرطان. فظلت من دون زواج حتى أتى «والت» ليعيش معها أحد عشر عاماً كأنهما زوجان، حتى أنه ورث عنها كل شيء، فجلس يربي ابن أخت الخادمة ويكتب هذه الرواية التي حملت عنوان «مستر فيرتيجو»، وهو الاسم الذي أطلقه عليه أستاذه لأنه كان يصاب بالدوار كلما قدم عرضاً أمام الجمهور.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم