«الصائد صفر» رواية لكاتبة فرنسية اسمها باسكال روز، ولدت في فيتنام عام 1954، وقد بدأت مسيرتها الأدبية متأخرة في سن الأربعين، ورصيدها الأدبي خمس روايات وأربع مجموعات قصصية. والرواية التي نحن بصدد الحديث عنها صدرت في طبعتها الأولى عام 1996، ولفتت انتباه الجمهور والنقاد على حد سواء، ووزع منها ما يقرب من 350 ألف نسخة. ثم صدرت منها طبعات متعددة وترجمات كانت آخرها هذه التي بين أيدينا، والصادرة عن سلسلة «الجوائز» في الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة بترجمة أيمن عبدالهادي. من السمات اللافتة في هذه الرواية قلة عدد شخصياتها التي لا تزيد على ست شخصيات، وكذلك ندرة أماكن أحداث الرواية، وأيضاً قد يظن المتلقي من الوهلة الأولى أنه بإزاء رواية ذاتية، إلا أنه سرعان ما يكتشف أن كاتبتها قد انطلقت من هذه القاعدة الذاتية، إلى الهم العام الخارجي، هذا الهم الذي يتمثل في الحرب وما تخلفه من أضرار سلبية في نفوس البشر. لورا كارلسون، بطلة الرواية هي فتاة مات والدها في الحرب العالمية الثانية من دون أن تراه، كان يعمل في البحرية الأميركية، وقد قتله أحد الانتحاريين اليابانيين، ليترك موت الأب بهذه الصورة البشعة رعباً مستديماً في قلب الابنة الصغيرة، هذا الرعب الذي امتد معها إلى حين تخرجها في الجامعة وحصولها على درجة الماجستير في الرياضيات. تمثل الخوف في تلك الطائرة التي تفجَّرت في جسد الأب، والتي أطلق عليها الصائد صفر، هذا الشبح الذي كان يزورها كل ليلة فيفسد عليها نومها، ويتسبب في تعب أذنيها وازدياد الطنين فيها، ما يستدعي أن تضع عليهما سدادات لتحمي نفسها من هذا الصوت المخيف، لكن الصوت يجهز عليها ويسد عليها كل المسالك، ويطاردها في كل الأماكن التي تذهب إليها فيقتنص منها لحظات السعادة القليلة الموجودة في حياتها والمتمثلة في برونو حبيبها ذلك الموسيقي البارع الذي سرعان ما تخلى عنها ليرتمي في أحضان امرأة أخرى تساعده على تحقيق النجاح الفني المنشود. الشخصية الثانية هي شخصية الأم، وهي أقرب إلى الجنون، وقد وقعت في الخطيئة من خلال بحثها عن بديل لهذا الزوج الذي فقدته فجأة. ومعها في البيت نفسه يعيش الجد والجدة البائسان وهما يهرولان سريعاً إلى نهايتهما الأبدية. أما الصديقة ناتالي، فهي شخصية مؤثرة في حياة لورا، فقد جعلتها من حيث لا تدري تكتشف وجودها الذي غاب عنها في ظل تلك العائلة المنهارة، لتبدأ في طرح الأسئلة حول موت والدها، وعن أسباب الحروب بين الشعوب. هذه إطلالة مختصرة على شخصيات وأحداث الرواية كما قدمتها لنا باسكال روز، والتي تسعى فيها وفي روايات أخرى لها لمناقشة مواضيع ذات طابع وجودي، لذا نجد أن قضية الموت تشغلها دائماً، وتأخذ حيزاً كبيراً من تفكيرها. لقد نجحت باسكال روز، وفق تعبير الناقد الفرنسي فرنسوا فورسييه، في الانتقال من مرحلة إلى أخرى في حياة البطلة المراهقة، الطالبة، العاشقة، ثم النجاح في التعبير عن حضور الموت والجنون، والمزج بين الأحوال العادية والتمثيل الرمزي، لذا نجد أن كل كلمة ذات فائدة، وكل عبارة تزيد من عقدة الحبكة، تشدها وتزيد غموضها، إنها تخبرنا بالكثير من دون أن تقول كل شيء. تبدأ الرواية بإعطاء صورة تفصيلية عن حياة البطلة الصغيرة وطفولتها البائسة، وشقتها الكئيبة، وجِدها وجِدتها المخيفين أيضاً، وأمها التي راحت في صمت مخيف، وكانت تجد سلواها ومتعتها في قصص الجِنيَّات، وحكايات يوم الاثنين، وقصص عنزة السيد سيجن التي كتبها ألفونس دوديه. الغريب في الأمر أن هذه القصص كانت تقصها عليها جِدتها، لكنها كانت دائماً ما تتساءل: لماذا لم تقص جِدتها أو يقص جِدها عليها حكايات الحرب وأحوالها، وكيف اشترك أبي فيها وكيف مات؟ في الثانية عشرة من عمرها أصابها طنين الأذن، وهو ما سبَّب لها آلاماً مبرحة، لم تستطع التخلص منها، هذه الآلام التي نغصت عليها عيشتها إلى أن التقت صديقتها ناتالي في الفصل الدراسي، هذه الفتاة المتحررة المنطلقة، والتي تتشابه معها في أن أباها أيضاً قد مات في الحرب وقد راحت لورا تقلدها في كل شيء، فقد قرأت رواية «الفرسان الثلاثة» لألكسندر دوماس لأن ناتالي كانت تقرأها، كما أنها أصبحت نحيفة كي تشبهها، لقد أرادت أن تنسى نفسها في نشوة الشبه معها، بل لقد شجعتها ناتالي لتسأل جدها وجدتها عن أبيها وأين مات؟ وقد شجعتها في الوقت نفسه على شراء الكتب التي تتناول الحرب وتداعياتها وسير أبطالها، بالإضافة إلى جمع المعلومات عن تلك المقاتلة اليابانية التي يركبها طيار واحد والتي تسمي «الصائد صفر». من هنا بدأت تنتقد الحرب، ومن يتسببون في اشتعالها، وتستنكر أن يتدرب الجندي على الموت سنوات وسنوات بدلاً من أن يصبح جغرافياً أو فيزيائياً أو فيلسوفاً يستفيد منه مجتمعه والعالم أجمع. في هذا التوقيت يظهر برونو حبيبها الموسيقي البارع، هذا الشاب الوسيم الذي انجذبت إليه، وحاولت أن تكافح معه، هو في مجال الموسيقى وهي في مجال الرياضيات التي حصلت فيها على درجة الماجستير كما ذكرنا آنفاً. ورغم أنها سلمت نفسها لبرونو عن طيب خاطر عقب غيبة طويلة في التجنيد إلا أنه خذلها ليرتمي في أحضان امرأة ناضجة وجذابة يظن أنها ستساعده في تحقيق مجده الفني. وبناء عليه، ينتصر «الصائد صفر» على العاشق برونو، ليصبح هو محور حياة لورا تنتظره في موعده، وتستغرب عندما يغيب عنها، فقد أصبح جزءاً حيوياً في حياتها لا يمكن أن تنفضل عنه، لكن ثمة انتكاسة تحدث لها تدخل على أثرها المستشفى وتروح في غيبوبة وهذيان لبضعة أيام لدرجة أنها نادت على «تسوروكار» الذي هو نفسه الصائد صفر، في هذه الحال يختلط عليها الأمر فراحت تتساءل من هو أبوها هل هو أندروكارلسون أم تسوروكار؟ لقد ضمهما الموت متشابكين، الواحد منهما يتشبث بالآخر، وفي قاع المحيط الهادي تمزقت جثتاهما في شكل مماثل، وكانت هي وسطهما، طفلتها، لقد كانت دوماً تناديهما لتلحق بهما، لكنها لم تمت، وفي الوقت نفسه لم تعش. إننا أمام رواية الحرب بكل تداعياتها وإشكالياتها، ومآسيها ومدى تأثيراتها النفسية والاجتماعية والسياسية على الفرد والمجتمع.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم