حينما‮ ‬يتحول الدين من علاقة شديدة الخصوصية بين الإنسان وربه،‮ ‬إلي أيديولوجيا ظاهرها ديني وباطنها سياسي،‮ ‬يعتقد صاحبها أنه المالك الوحيد للحقيقة المطلقة،‮ ‬وما دونه كفار جزاؤهم التعذيب والقتل،‮ ‬لا تسأل عن الأوطان التي تتحول وقتها لكعكة هشة،‮ ‬يتكالب عليها بائعو الضمائر،‮ ‬ثم‮ ‬يتفرغون بعدها لالتهام بعضهم البعض‮.‬ ‮"‬ما بال سدودك اليوم واهية تأكلها الفئران‮. ‬تكشف عن قوم‮ ‬يقتاتون علي كل شيء فيك،‮ ‬حتي إذا فرغوا منك،‮ ‬صار واحدهم‮ ‬يقتات علي الآخر‮". ‬العبارة الافتتاحية لرواية‮ (‬فئران أمي حصة‮) ‬لسعود السنعوسي،‮ ‬والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون بالاشتراك مع منشورات ضفاف،‮ ‬وهي الرواية الثالثة له بعد‮ (‬سجين المرايا‮) ‬2010،‮ ‬و(ساق البامبو‮) ‬2012،‮ ‬والتي فازت بالبوكر العربية‮ ‬2013‭.‬ إنها صرخة تحذير،‮ ‬حيث تصور أبطالها في أكثر لحظات الانسحاق والانهزام الإنساني في زمن قادم،‮ ‬وهو عام‮ ‬2020‭.‬‮ ‬أعتقد أن اختيار ذاك العام الافتراضي بناء علي تصريح لسفيرة أمريكية بأنه في ذلك العام لن‮ ‬يكون للكويت وجود‮.‬ تدور أحداث الرواية ما بين عام‮ ‬1985‮ ‬وحتي ذلك العام الإفتراضي،‮ ‬ليقدم لنا‮ ‬35‮ ‬عاماً‮ ‬من إرث الكراهية في الكويت،‮ ‬معاصراً‮ ‬الحرب العراقية الإيرانية‮ (‬1980‮ - ‬1988‮)‬،‮ ‬وما تبعها من تفجيرات المقاهي الشعبية عام‮ ‬1985،‮ ‬والتي قام بها الشيعة عقاباً‮ ‬للكويت علي دعمها العراق في حربها ضد إيران،‮ ‬ثم احتلال العراق للكويت‮ ‬1990‮ ‬والذي تحول فيه الكويتي من عربي لأمريكي الهوي،‮ ‬ثم الغزو الأمريكي للعراق‮ ‬2003،‮ ‬وصولاً‮ ‬إلي الحرب الأهلية بين السنة والشيعة كما‮ ‬يتوقع أو‮ ‬يتخيل أو‮ ‬يتنبأ الروائي‮.‬ هناك ثلاثة أجيال رئيسية نمر بها عبر الرواية،‮ ‬فيقدم لنا الروائي الجيل الأول والمتمثل في الجدة حصة،‮ ‬المتسامحة،‮ ‬الضاحكة،‮ ‬حيث لا وجود لأي فتنة من أي نوع،‮ ‬فهي السنية المتقبلة للشيعة،‮ ‬والتي تعيش في حي السرة،‮ ‬حيث السكن الآمن للجنسيات مختلفة‮ (‬مصري،‮ ‬سوري،‮ ‬سيريلانكي،‮ ‬فلبيني،‮ ...)‬،‮ ‬ثم الجيل الثاني والمتمثل في عباس،‮ ‬صالح،‮ ‬عائشة،‮ ‬والذين‮ ‬يعاصرون الاختلافات التي تطرأ علي المجتمع بفعل لعبة السياسة،‮ ‬فيبدأ التحفز والشحن والضغائن،‮ ‬يعايشون إرهاصات الفتنة الطائفية،‮ ‬ثم اشتعالها،‮ ‬فتاريخ تلك التفجيرات السابق ذكرها،‮ ‬كانت تقريباً‮ ‬بداية النهاية،‮ ‬أو فلنقل بداية الصراع السني الشيعي،‮ ‬وبداية تغير تركيبة المجتمع الكويتي المتعايش والمتقبل للآخر،‮ ‬فتترك أثرها علي الشخصيات التي تتحول للأسوأ بفعل التحولات السياسية والاجتماعية،‮ "‬ماعادت الفئران تحوم حول قفص الدجاجات أسفل السدرة وحسب،‮ ‬تسللت إلي البيوت‮. ‬كنت أشم رائحة ترابية حامضة،‮ ‬لا أعرف مصدرها،‮ ‬إذا ما استلقيت علي أرائك‮ ‬غرفة الجلوس‮. ‬ورغم أني لم أشاهد فأراً‮ ‬داخل البيت قط،‮ ‬فإن أمي حصة تؤكد كلما أزاحت مساند الأرائك تكشف عن فضلات بنية داكنة تقارب حبات الرز حجماً،‮ ‬تقول إنها الفئران‮.. ‬ليس ضرورياً‮ ‬أن تراها لكي تعرف أنها بيننا‮."‬ وأخيراً‮ ‬الجيل الثالث،‮ ‬الذي‮ ‬يعاني ويلات الفتنة الطائفية،‮ ‬ويحاول منعها،‮ ‬والمتمثل هنا في الراوي،‮ ‬فهد،‮ ‬صادق،‮ ‬ضاوي،‮ ‬والذين كونوا جماعة‮ (‬أبناء فؤادة‮) ‬التي تدعو إلي وحدة الصف ووقف القتال،‮ ‬الذين‮ "‬بحت حناجرهم‮ ‬ينادون بكلمة سواء‮". ‬لكن لسخرية القدر تجتمع ضدهم الطائفتان المتناحرتان‮!‬ علي مدار الأعوام وتبدل الحال،‮ ‬لم تتبدل فقط الشخصيات لتتحول الإيجابية منها إلي سلبية،‮ ‬والمتسامحة إلي عنيفة،‮ ‬والمعتدلة إلي متشددة دينياً،‮ ‬ولكن تبدلت أيضاً‮ ‬اسماء الأماكن،‮ ‬فبعد احتلال العراق للكويت،‮ ‬أصبحت الأخيرة المحافظة العراقية التاسعة عشرة،‮ ‬ثم بعد التحرير،‮ ‬تبدل اسم‮ (‬ابن اسير‮) ‬لـ‮ (‬ابن شهيد‮)‬،‮ ‬علي اعتبار الشهداء الذين سقطوا خلال ذلك الغزو‮.‬ الرواية منقسمة إلي فصول،‮ ‬لكن تكوينها الأساسي عبارة عن جزأين متداخلين،‮ ‬الأول هو الرواية نفسها بزمنها الممتد إلي‮ ‬12‮ ‬ساعة كاملة‮ (‬من‮ ‬12‮ ‬ظهراً‮ ‬وحتي‮ ‬12‮ ‬منتصف الليل‮)‬،‮ ‬والتي‮ ‬يبدأ كل فصل فيها بـ‮ "‬يحدث الآن‮" ‬ثم بيان للساعة والدقيقة،‮ ‬وفيها‮ ‬يتقاطع الزمن الآني بالماضي المرتكز علي ذكريات طفولة سعيدة وبريئة تخللتها بطبيعة الحال أوقات سيئة لكن لم‮ ‬يفطن إليها الراوي البطل في حينها،‮ ‬والثاني هو رواية‮ ‬يكتبها الراوي باسم‮ (‬إرث النار‮) ‬والمُقسمة فصولها لأربعة فئران لحصة‮ (‬شرر،‮ ‬لظي،‮ ‬جمر،‮ ‬رماد‮)‬،‮ ‬وكل فأر‮ ‬ينقسم بدوره لعدة فصول،‮ ‬وللأسماء دلالة لا‮ ‬يمكن إغفالها،‮ ‬فهي تصوير لتطور نار الفتنة الطائفية،‮ ‬من شرر صغير،‮ ‬إلي لهب مشتعل،‮ ‬فنار خمد لهيبها،‮ ‬وأخيراً‮ ‬رماد،‮ ‬علي اعتبار أن نهايتها محتومة بالخمود،‮ ‬لكنها ربما ستأتي بعد حقبات دموية تلحق بالكويت الخراب‮. ‬لكن ظهور فتاة صغيرة في آخر الرواية،‮ ‬ممثِلة للجيل الرابع،‮ ‬حاملة اسم حصة،‮ ‬هي إشارة لغد سيأتي باعثاً‮ ‬الأمل،‮ ‬معيداً‮ ‬للكويت ما سُلب منها من حب وسلام‮.‬ يقول الراوي‮: "‬لسنا في وقت‮ ‬يسمح لنا بترف الحنين إلي زمن طفولة في ماض كان،‮ ‬ولكنه حنين إلي زمن،‮ ‬رغم الخيبات فيه،‮ ‬عشناه بأفضل ما‮ ‬يكون‮"‬،‮ ‬ولذا فهو لا‮ ‬ينفك‮ ‬يتذكر حصة،‮ ‬التي جسدت زمنا انتهي عنده معني التعايش،‮ ‬يبكيها الراوي بتذكر كلامها ومواقفها،‮ "‬أنتم لا تبكون موتاكم،‮ ‬أنتم تبكونكم بعدهم‮. ‬تبكون ما أخذوه برحيلهم‮. ‬يخلفونكم بلا جدار تتكئون عليه،‮ ‬وأمك حصة جدار،‮ ‬رغم تصدعاته،‮ ‬كان متكئكم الآمن‮. ‬ترك‮ ‬غيابهم‮ ‬غصة في حلوقكم،‮ ‬لا أنتم قادرون علي لفظها ولا علي ابتلاعها‮".‬ سمح قلب وعقل‮ (‬هوسيه‮) ‬أو‮ (‬عيسي‮)‬،‮ ‬الفلبيني،‮ ‬أن‮ ‬يتعايش مع الآخر ويتقبله،‮ ‬فحفظ النشيدين القوميين للكويت والفلبين،‮ ‬لكن لم‮ ‬يتعايش أبناء الوطن الواحد في الكويت مع بعضهم البعض،‮ ‬حتي إن الجسر الواصل بين السرة والجابرية أضحي الحد الفاصل بين فصيلين‮ ‬يستعد كل منهما للانقضاض علي الآخر ونحره‮: ‬إنهما النواصب‮ (‬السنة‮)‬،‮ ‬والروافض‮ (‬الشيعة‮). ‬وليس أدل علي ذلك من المشهد المؤلم للراوي وهو‮ ‬ينتقل من نقطة أمنية لأخري متخطياً‮ ‬ذلك الجسر الفاصل،‮ ‬فيضطر لإظهار سنيته باستعراض منشوراتهم الدعائية،‮ ‬ويستمع لإذاعتهم حتي‮ ‬يُسمعها إياهم،‮ ‬فيَدَعوه‮ ‬يمر،‮ ‬ثم‮ ‬يمر علي المعسكر الآخر فيدير أناشيد الحسين،‮ ‬متظاهراً‮ ‬باللهاث تعباً‮ ‬وخوفاً‮ ‬من الكمين السابق‮!‬ تصوير الراوي للفتنة الطائفية علي أنها تلوث هوائي أو رائحة عفنة تحاصرك ولا فكاك منها‮: "‬كان الجو ملوثاً،‮ ‬نتنشق الهواء الفاسد دونما انتباه،‮ ‬يكفي واحدنا فتح البلوتوث في هاتفه ليعي إلي أي حد نعيش في مكان موبوء،‮ ‬رجال دين وخطب دينية وفتاوي ومعجزات مفتعلة،‮ ‬اضحك مع المعممين،‮ ‬مناظرة بين الشيخ والسيد،‮ ‬شاهد جهل النواصب،‮ ‬مؤامرات الروافض،‮ ‬كنا نتنشق كراهيتنا كما الهواء،‮ ‬لا مفر منها‮"‬،‮ "‬الرائحة النتنة تزداد كلما اقتربت من الجسر‮"‬،‮ ‬ومن الطبيعي حينئذ أن تكون نتيجة الفتنة حرباً‮ ‬أهلية تخلف دماراً‮ ‬مادياً‮: "‬لا‮ ‬يخلف الهدم إلا حجارة لا تصلح للبناء‮"‬،‮ ‬وآخر إنسانياً،‮ ‬يجعل المرء‮ "‬ينضج كحبة التمر،‮ ‬ظاهرها لين ونواتها أقسي من أن تلين‮".‬ ‮"‬أنا التاريخ كله،‮ ‬وأحذركم من الآن،‮ ‬الفئران آتية،‮ ‬احموا الناس من الطاعون‮".‬ هل‮ ‬يجدي التحذير من الطاعون بعد أن أصابنا جميعاً؟‮!‬ الطاعون مستشرٍ‮ ‬بالفعل،‮ ‬وربما سوف‮ ‬يزيد،‮ ‬تمهيداً‮ ‬لانقشاعه في نهاية الأمر،‮ ‬لكن بعد أن‮ ‬يأكل الأخضر واليابس،‮ ‬وبعد أن نعي الدرس كاملاً،‮ ‬لا سبيل للفرار أو الفكاك من قبضته الدموية،‮ ‬فـ‮ "‬بعض الأورام لا‮ ‬يكف نمواً‮ ‬إلا بموت الجسد‮". ‬ الرواية مرآة تنعكس علي صفحتها وجوهنا القبيحة بوضوح مرعب،‮ ‬فكانت الحقيقة أقسي من سياط الجلاد،‮ ‬وربما لذلك تم سحب نسخ الرواية من المكتبات،‮ ‬ثم منعها من قبل رقابة الإعلام في مارس الماضي‮. ‬مستندة علي مسلسل كويتي شهير اسمه‮ (‬علي الدنيا السلام‮)‬،‮ ‬حيث كانت فؤادة،‮ ‬مدرسة التاريخ،‮ ‬نزيلة مستشفي الأمراض العقلية تحذر دائماً‮ ‬من الفئران والطاعون القادم،‮ ‬لكننا أبينا إلا أن ندفن رؤوسنا في الرمال،‮ ‬وكيف التعلم من التاريخ ونحن لا نقرؤه؟‮!‬ في هذه الرواية نسج الكاتب شخصياته النابضة بالحقيقة الموجعة،‮ ‬من واقع حالي‮ ‬يعيشه ليس فقط في الكويت،‮ ‬لكن في المنطقة العربية بأكملها،‮ ‬والتي باتت صريعة تلك الآفة الطاعونية المميتة‮.‬ الراوي مجهول الاسم لأنه من الممكن أن‮ ‬يكون أنا أو أنت أو أياً‮ ‬من كان‮.‬ الرواية مكتوبة بحرفية عالية تنم عن روائي موهوب بالفطرة‮. ‬هناك انتقال بين ضمير المتكلم وبين ضمير من‮ ‬يخاطب نفسه والآخر‮.‬ هناك مباشرة في توصيل الفكرة وبشكل مكرر،‮ ‬وهنا تجدي فضيلة الحذف‮.‬ فضل الكاتب أن‮ ‬يكتب إهداءً‮ ‬غير تقليدي وإن لم‮ ‬يعنونه صراحة بكلمة‮ (‬إهداء‮): "‬هأنا اليوم أكتبك خوفاً‮ ‬منك عليك،‮ ‬لا أجيد شيئاً‮ ‬بكتابتي إلا فراراً‮ ‬منك إليك،‮ ‬لأن لا مكان لي سواك،‮ ‬ولأنني رغم كل الخيبات فيك،‮ ‬لا أنوي إلا أن أموت فيك‮" .. ‬و ما كان الإهداء سوي لبلده الذي‮ ‬يدعوه‮ "‬للقيامة التي أزف أوانها‮"‬،‮ ‬يدعوه ليستفيق من‮ ‬غفوته،‮ ‬غير‮ ‬مسموح بالتأخير،‮ ‬فإما الآن وإما لا شيء‮.‬ المصدر: أخبار الأدب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم