يميل بوتور أو كما يلفظ اسمه بالفرنسية "بيتور" إلى التجريبية في الأدب. إنه يقول: إن الكتابة هي الإطاحة بالحواجز. وهذا ما يجعل تصنيف أعماله صعباً. وقد كان بيتور قد لفت الأنظار إليها من خلال رواية "التعديل" أو "التحول" والتي نسف فيها البنى السردية التقليدية للرواية.. وحاز بفضلها على جائزة رينودو الأدبية عام 1958. ميشال بوتور 1926 – 2016 الأديب والشاعر الفرنسي والذي يعد، بالإضافة إلى ألان روب جرييه، من أهم رواد الرواية الجديدة في فرنسا ولربما العالم.. وقد حصل على العديد من الجوائز المحلية والعالمية منها؛ أبولو، فينيون، رينودو الأدبية. هذا الكتاب "بحوث في الرواية الجديدة" هو مجموعة من المقالات التي كتبها بيتور على فترات متباعدة.. وهو في محتوياته يذكرنا بكتاب زميله وشريكه في الحركة التجديدية للرواية الفرنسية ألان روب جرييه "نحو رواية جديدة". ولا يخفى أنه يمكننا، ومن خلال قراءة متمحصة للكتابين، أن نجدهما مكملين لبعضهما؛ فبينما تحدث جرييه في كتابه عن أركان الرواية ومدى ضرورة التغيير وتطوير المفاهيم التقليدية لهذه الأركان.. نجد اهتمام بيتور في التفاصيل واضح أكثر.. فهو يتحدث عن شكل الرواية وشاعريتها، وفلسفة الأثاث، واستخدام الضمير.. ثم ينتقل للحديث عن تقنية الرواية وما يمكن أن يقال على هامشها ثم كان الكلام عن الناقد.. وأخيراً كان الختام بذلك الحديث الذي أجراه لمجلة تيل كيل. يبدأ بيتور كتابه هذا بمحاولة تعريف أو تقديم لماهية الرواية.. فالرواية لدى بيتور هي شكل خاص من أشكال القصة. والقصة ظاهرة تتجاوز حقل الأدب تجاوزاً كبيراً؛ فهي إحدى المقومات الأساسية لإدراكنا الحقيقة. إذن، الرواية هي شكل من أشكال الحقيقة وعليه فإن بيتور يبرر للروائي تقديمه لنظرته الشخصية حتى عن شخصيات تاريخية بشكل قد يبدو مليئاً بالمغالطات للقارئ.. فهو هنا يشير إلى لو أن شخصاً ما كان معاصراً للأب غوريو فعلاً.. وجاء ليخبرنا بأن غوريو لم يكن كما صوره لنا بلزاك.. فإن ذلك لن يعني لنا شيئاً.. فغوريو هو بالضبط كما وصف بلزاك في روايته.. وهذا كل شيء. وفي الواقع، هذا أمر يدل على مدى الخطورة التي قد تصلها الرواية من قوة تؤثر على وعي القراء. وهذا بالفعل ما جعل بيتور ذاته يتحول من الشعر إلى الرواية. فهو يحدثنا عن كونه وقف حائراً في فترة شبابه يبحث عن نقطة الوصل ما بين الشعر والفلسفة. فبيتور كان قد درس الفلسفة وكتب الشعر والذي كان كحال رواياته يصعب تصنيفه.. فقد كان يعرض في شعره بعض اللمحات الفلسفية. فلم يكن له من بد إلا أن يصبح روائياً. ومن الملفت أن نجد هذا هو مبرر بيتور لدخول عالم الرواية في الوقت الذي كان النقاد فيه يعلنون عن احتضار الرواية. وهذا ما جعل زميله جرييه يدافع عنها وعن محاولات تجديد الرواية الفرنسية كما رأينا في كتابه "نحو رواية جديدة". من المهم هنا أن نلاحظ اهتمام بيتور في الصورة الشعرية للرواية. وهو هنا يذكرنا في إصرار فلوبير على أن مدام بوفاري هي قصيدة لا رواية. بل إنه كان يفهم الرواية على أنها قصيدة لها غايتها في نفسها، على نحو مستقل عن القصة التي هي حجتها. وعلى أنها خلق فني مجاني مستقل؛ وحلمه هو أن يؤلف كتاباً لا يتناول شيئاً، كتاباً من دون قيد خارجي، كتاباً يدعم نفسه بنفسه بقوة أسلوبه الداخلية... كتاباً لا يكاد له موضوع. ويؤكد لنا بيتور على هذا المفهوم فيما يؤكد لنا أيضاً أهمية الوصف الشاعري.. ويضرب لنا ذلك المثال من دوستويفسكي في الجريمة والعقاب. ويلفت نظرنا إلى نقد أندريه بريتون للجريمة والعقاب فهو ينقل على لسان بريتون: إن كسل وتعب الأخرين لا يثيران اهتمامي، فلي من استمرار الحياة مفهوم كثير التقلب لأساوي مع الأفضل ساعات وهني وضعفي. أريد أن يلوذوا بالصمت عندما ينقطعون عن الإحساس. وافهموا جيداً أنني لا أدين النقص في الإبتكار حباً بالإدانة، وما أريد قوله هو أنني لا أهتم بالدقائق التافهة من حياتي، وإنه لا يليق بأي إنسان أن يبلور الدقائق التي تبدو له تافهة. فاسمحوا لي أن أتجاوز وصف الغرفة هذا مع كثيرين غيري. ويعلق بيتور على ذلك قائلاً: إن الروائي يمتنع عن كل هذا، ولا يجوز أن نسمح لأي قارئ بتجاوز هذا الوصف، إذ أننا لدى قراءة أولى سريعة، وهذا ما يكتفي به -ويا للأسف- كثيرون من النقاد، لا بد أن تهمل قراءة كثير من الكلمات، والعبارات، والصفحات، مما يدعو إلى العودة إليها. فإذا كان الوصف قد وضع هنا، فذلك أنه لا غنى عنه. ثم نجد بيتور يعزو نقد بريتون هذا لكونه قرأ ترجمة رديئة للجريمة والعقاب.. بينما أشار إلى النص الأصلي بالكمال والضرورة الفنية الذي يجعل من وصف الغرفة بهذا الشكل مهماً برأيه في الرواية. من السهولة علينا أن نرى في مثال دوستويفسكي أعلاه تجسيداً لفلسفة الأثاث. فالأثاث لدى بيتور ليس مجرد حشو أو إضافة لا معنى لها. بل هي ضرورة تكشف لنا عن معلومات مهمة عن شخوص الرواية. فلا يحتاج الكاتب مثلاً أن يخبرنا بأن البطل فقير.. بل يكفيه أن يصف لنا ثيابه الرثة وأثاث بيته المتهالك لتصل لنا الصورة كما فعل بلزاك في الأب غوريو. وبالعودة مرة أخرى للحركة التجديدية الفرنسية التي تزعمها كلاً من بيتور وجرييه نجد جرييه يقارب كافكا في رواية "في التيه" وهي رواية أوحت بالعبثية فهي تتحدث عن جندي يهرب من الجبهة منسحباً.. وإذا به يقتل في قرية يملؤها الثلج من ضربات رشاش عشوائية لا نعرف لها أصلاً.. وهذه الرواية المغرقة في التفاصيل الوصفية والتي كما أشرنا قادت الكثير من النقاد للقول بأن جرييه لم يأتِ بأي جديد وأنه ليس إلا تابعاً لكافكا. ومن جهة أخرى نجد رواية بيتور "التحول" أو "التعديل" التي تمثل نموذجاً لما يمكن للرواية أن تكون عليه حين يطغى الوصف على الأحداث. ورجوعاً إلى مقولة بيتور "الكتابة هي الإطاحة بالحواجز" نجد أن بيتور قد أطاح بالحواجز كلها في هذه الرواية التي تعد أحد أهم أعمال القرن العشرين في الرواية الجديدة. وقد لا يسعني هذا المقال للحديث عنها كما يجب ولذلك سأخصص لها مقالاً خاصاً بها. عن نفسي، أنا أرى، بل أنا مؤمن في تلك التوليفة ما بين السكون والحركة. فالسكون متمثل في الوصف.. بينما تكون الحركة في السرد. ومن البديهي طبعاً أن يقودنا السكون إلى الملل كقراء.. بينما يحركنا السرد لنندمج مع الحكاية. إذن، فالرواية الناجحة هي كقصيدة الشعر من ناحية عروضية حيث أنه لا بد من مزج الحركة مع السكون بميزان معين كي نصل إلى البحر الذي يستطيع فيه القارئ السباحة.. دون أن يمتصه السكون في دوامات تغرقه في الملل.. ولا أن تجرفه الحركة فلا يستمتع بالمشاهد التي لا يمكن له رؤيتها إلا في البحر. أحترم التجديد دون شك، وأرى أنه يستحق نصيبه من الاهتمام النقدي.. وكل حركة تجديدية لها دور في دفع الأدب خطوة واحدة إلى الأمام.. وسيظل ميشال بوتور نموذجاً مهماً كأحد أهم رواد الحركة التجديدية الفرنسية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم