يتخذ اللبناني الفرنكفوني شريف مجدلاني في روايته "سيد المرصد الأخير" المخيلة سبيلا لتجسير الفجوات التاريخية التي خلفتها الحروب والنزاعات والصراعات في لبنان، وتكون الحكاية حاملة تاريخ حي المرصد وأهله، ورافعة راياتهم وكاشفة أسرارهم. يسرد الكاتب في روايته الصادرة عن (دار نوفل، بيروت، ترجمة دانيال صالح 2015) تاريخ عائلة لبنانية ثرية تقيم في حي المرصد، يتتبع أثرها عبر أربعة أجيال، ينبش أسرار استحواذها على كثير من الأراضي والعقارات، وكنز الأموال، كيف أن ذلك كله كان على حساب البسطاء والفقراء، وكانت إستراتيجية التحالف مع الأقوى بادية ومهيمنة في تاريخ العائلة التي تمثل نموذجا لبنانيا على امتداد القرن العشرين بامتياز.

يحاول مجدلاني -الذي حازت روايته الأخيرة "فيلا النساء"- جائزة جان جيونو للرواية أن يضفي على روايته سطوة المرويات التاريخية وقوتها، يسردها على لسان راوٍ محتجب قريب من الشخصيات، محتك بها، يكبر معها من دون أن يتحدث عن نفسه سوى أنه ينقم على شكيب، وأنه كان سببا في مآسيه، ومن هناك تكون رواية الضحية عن ظلم السيد، وتحمل شيئا من التشفي، وإن كان مواربا ومشوبا بفجائعية معينة.

يتقصى مجدلاني أثر الاحتلالات المتعاقبة للبنان بدءا من العهد العثماني مرورا بالانتداب الفرنسي ثم مرحلة الاستقلال والحروب الأهلية وصولا لاحتلال النظام السوري له، ويكون جزء غير مؤرخ من تاريخ لبنان متجسدا في أسرة آل خطار نفسها، فالجد شكيب خطار يؤسس إمبراطوريته العائلية على أنقاض تهلهل السلطنة العثمانية، وتكون الحروب خير ميسر له في أعماله المشبوهة وعملياته التجارية. ثغرات التاريخ بطريقة الاسترجاع التاريخي يبدأ مجدلاني سرده، يمسك بمفصل زماني ومكاني يعود إلى سنة 1964 في حي المرصد ببيروت ليوسع دوائره في مختلف الاتجاهات، زمانيا ومكانيا، يعود إلى الماضي في محاولة لسد ثغرات في تاريخ الأسرة المتناقل شفويا وكأنه يستعيض عن فقر الوثائق التاريخية بالمراجع البشرية، والحكايات المتوارثة، تلك التي تكون إرث الناس عن بعضهم بعضا، وعن بلدهم، والنافذين المتسلطين المؤثرين فيه. تكون حادثة خطيفة سيمون من قبل حميد شاهين -وهو ابن عبد الله وكيل أعمال آل خطار في قرية كفر عيسى- هي الشرارة التي تضرم النيران في واقع أسرة آل خطار فتبدأ معها خطوط السرد وأسرار الحكايات تنفرط، يكشف التجاء حميد إلى عمته المتزوجة بأحد غرماء آل خطار التاريخيين ممن بينهم هدنة تعود لعقود عن لعنة الاستعداء التي تعم، وحالة العجز السائدة، سواء على صعيد الأسر أو المذاهب. يلفت الروائي إلى أنه عدا عن آل خطار غدا للمرصد أسياد آخرون متجددون بمرور السنوات وتغير الأحوال فكانت كل حرب تفرز قادة جددا، وعصابات تتفوق على سابقاتها في الإجرام والبلطجة، وكانت المعارك تكتسي بأردية مذهبية دينية، وتكتسب صفة قداسة من كل طرف ضد الآخر، في الوقت الذي كانت المحسوبيات والمصالح هي التي تقود وتتحكم بالمصائر وتوزع النفوذ والامتيازات.

تاريخ متخيل يفصح مجدلاني عن جانب من التجارة السائدة على هامش الحروب وفي طياتها، وكيف كان أمراء الحروب وزعماء العصابات وقادة الطوائف يتعاطون بمنطق الانتهازية والتواطؤ في ما بينهم، ويسعى كل طرف للهيمنة على أموال الآخر، وتبديد حياته، وشيطنته من أجل مكتسبات صغيرة، أو انطلاقا من أحقاد شخصية، أو ضغائن متأصلة تعود لبؤر تاريخية منسية الأسباب والجذور، لكن امتدادية التأثيرات ومستطيلة الشرور. يمثل شكيب خطار مثال الرجل المكابر، يرفض الإقرار بالوقائع، ولا يسمح لتجبره بأن يتأثر بالأحداث التي يتعرض لها، ويكون ذلك سببا في تنكيد عيشه وأسرته وحياته، يفقد أبناءه الذين يتوهون في متاهاتهم الشخصية، أبناؤه يضيعون في زحام رغباتهم وملذاتهم، يختطون لأنفسهم مسارات مختلفة عن تلك التي كان يخططها ويرسمها لهم، يتوزعون على الفصائل المتناحرة والطبقات المتصارعة، يتخللونها ويفقدون ملامحهم، ينقلون تشوهات الواقع ويظهرون من خلالها بصورهم المتغيرة. يعكس مجدلاني من خلال تاريخ آل خطار صورة لبنان المفكك، المفتئت بعضه على بعض، المنقسم على ماضيه وحاضره ومستقبله، المتشرذم في جغرافيته المحاصرة بالولاءات والضغائن قبل الاستقلال وبعده طوال الحروب التي اجتاحته، ودمرت بناه، وأفقدته استقلاليته، ويكون استحضار عدد من رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء وزعماء الطوائف اللبنانية بأسمائهم الصريحة إشراكا لهم في الوقائع وأحداث الرواية من جهة التاريخ السياسي والاقتصادي للبلد، لرسم تاريخ روائي متخيل يستند إلى الوثائقي ويتحرر منه عبر الخيال في الوقت نفسه. المصدر : الجزيرة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم