من السطور الأولى لروايتها تعدّنا زينب شرف الدين لنترقّب انتقال بطلتها نورهان سلمان، زمانا ومكانا. أعدّتنا لذلك تلك المكالمة الهاتفية المفاجئة، ثم قولها، ردّا على ما سمعته، "واصلة". ثم سطور قليلة لتُدخل ما سمعته إلى رأسها ولتتفاعل به. هي هنا في باريس من اثنتي عشر سنة عادت خلالها مرّة واحدة إلى لبنان، وكان ذلك من سبع سنوات. ما سمعته الآن أجبرها على أن تسرع في التحضير لزيارتها الثانية إليه. لقد مات والدها، منصور، ألوسيم والفارس والمفعم بالود والجاذبية الشخصية. في صبيحة اليوم التالي نتابعها في المطار الذي أوصلها إليه صديقها، أو حبيبها الفرنسي غي. ثم طائرة الميدل إيست، ثم الغيوم التي تحجب باريس حتى لا يعود يُرى من معالمها شيء.

لا تفاصيل سبقت عن عيشها في باريس سوى ذكرها لعنوان سكنها: في الطابق الأرضي من بناية La Rosiere في الباستيل، ثم الوصف الأكثر إيجازا لعيشها فيها: "كانت حياة نورهان سلمان متماسكة كبساط السوماك الإيراني"، "فكل ما نسجته وحاكته حولها لا يشي إلا بذلك. شقتها، حديقتها، عملها، خزانتها، وحتى أحذيتها".

لكن هذا القليل الذي عُرّفنا به يكفينا لإقامة المقارنة المستمرّة بين حياتها هناك وما ستلقاه وتتذكّره هنا في بيروت كما في ضيعتها الجنوبية. لم تجد الكاتبة داعيا لأن تسرد لنا عن حياتها الباريسية ما نحسن تخيّله بأنفسنا. ذاك أننا، فيما نحن نتابع قراءة الصفحات، نظل نشاهد البيئة المستعادة بعين نورهان نفسها. إننا نقرأ حكايتها الشخصية ولسنا إزاء انطباعات عامّة عن تغيّر الأمكنة وبشرها. "قبل صلاة الفجر" هي حكاية عائلية بالمعنى الكامل التام. لقد جرى استقبالها هنا في مطار بيروت، ومن هناك حُملت إلى المنزل المفجوع بالموت.

الأم والعمتان والجدتان والقريبات والأقرباء والأصحاب القدامى من أيام الطفولة، وهم في نطاق القرابة أيضا. الكثيرون من بين هؤلاء لم تلحظ الروايةُ التغيّرَ الذي لا بدّ أصابهم، باستثناء سعيد إبن الناطور الذي كبر الآن وصار شابّا. أما الآخرون فما زالوا جميعا في سماتهم وهيئاتهم ذاتها. كأنّ هؤلاء يُستدعون من الماضي وليس أنهم يأتون بعد غياب طويل. فها هي الجدة لجهة الأم ما زالت قوية مدبّرة مثلما كانت، وكذلك الجدة الثانية، وكذلك الآخرون. البيت الجنوبي ما زال كما كان أيضا، باقيا على حاله: "أابراد، فرن الغاز، الطناجر اللامعة (ما تزال) مختلفة الأحجام مرصوفة على الرفوف الرخامية البيضاء، نملية المؤونة القديمة بدرفها المصنوعة من المنخل..." ولنضف إلى ذلك العادات القديمة في ما خصّ النحيب والولولة على الميّت. كأن زيارة نورهان إلى بلدها نزولٌ إلى صورة فوتوغرافية قديمة اجتمعت لها العائلة بأركانها وأطرافها.

لكن على الرغم من مغافلة الجميع للزمن يحصل ذلك التغيّر من رحم الماضي نفسه. ذلك الأب، منصور، الموصوف بأكثر العبارات دلالة على الإعجاب والتعلّق والودّ، ها هو، في خضم هذا العالم المكرّر نفسه، يقلب، هو الميّت لتوّه، تاريخه الشخصي رأسا على عقب. ذلك الفارس الأب أردته كلمة واحدة ذكرتها زوجته، والدة نورهان، كلمة سريعة ملتبسة لكن مشحونة بالألم. لم تفصح الأم، لكن سعيد الشاب، أو الذي أصبح شابا، كان قد قال إنه في طفولته تعرّض للإغتصاب، من دون أن يفصح هو أيضا عمّن كان مغتصبه. فهمت نورهان على الفور أن أخاها، فجيعة العائلة، الذي أماته مرض في طفولته، كان قد تعرّض للإغتصاب أيضا، من الرجل نفسه، والدها منصور.

كلمة واحدة بدت ملغمة لهذا السكون العائلي، ولمشاعر نورهان نحو والدها الباقية منذ طفولتها الأولى. ذلك العالم الساكن نخرته سوسة خبيثة من داخله، فلتعد نورهان إذن إلى شقّتها هناك في الباستيل، فهناك لم يظهر بعد شيء مما قد ينذر بالتداعي.

(*) "قبل صلاة الفجر" رواية زينب شرف الدين صدرت عن دار الساقي وكانت قد كتبت بدعم من "آفاق" وقدمت لها نجوى بركات عن "كيف تكتب رواية"، 2016. عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم