تَدخُل رواية «حارس التبغ» .. للروائي والصحافي العراقي «علي بدر»، بتصور مسبق ينسجم مع ديوان الشاعر البرتغالي «فرناندو بيسوا» .. «دكان التبغ» بشخصياته الثلاث التي يشتق منها العمل الثيمة الرئيسة .. لكنك مع تجذرك فيها فصلاً بعد آخر ترى أنك تتوه .. وذلك بالمعنى الإيجابي للتوهان نوعاً ما .. توهان الدهشة والسؤال عما بعد معاً .. فأنت تدخل العمل، من بوابة الصحافي الباحث عن مادة للكتابة .. تظن أنك أمام مقدمة يصوغها «علي بدر» نفسه، حول الشخصية المحورية للعمل «كمال مدحت»، لتدرك بعد أن تقطع شوطاً لا بأس به من القراءة، أنك أمام حبكة ذكية جداً ورطتك في العمل، وأنك في أول فصول الرواية، من دون أن تحس بذلك فعلياً .. فالتمهيد هو حكاية أولى بطلها الصحافي الذي يتحضر من أجل الدخول إلى عالم بطل «حارس التبغ» .. الملغز والمرعب في آن .. لتستكشفان معاً، أنتَ وهوَ، لماذا كان هناك «سامي صالح» ثم «حيدر سلمان» وأخيراً «كمال مدحت»، الموسيقار العراقي الذي قتل أخيراً في ظروف غامضة .. وكيف انفجرت تلك الشخصية الأولى «سامي» لتفرز ثلاث شخصيات مختلفة .. وعلى عكس مرضى الفصام، الذين تجهل كل شخصية فيهم وجود شخصية جديدة بحياة كاملة .. فإن بطل «حارس التبغ» كان مدركاً لكل شخصياته التي تتناقض جذرياً فيما يميزها من صفات، إلا شغفها العميق بالموسيقى وما حولها. هل تكون «الهوية» مجرد واقعة سردية؟ .. مجرد حكاية؟ يسأل «علي بدر»..؟ وكيف لا يكون ذلك وسط واقع هش ملتبس باستمرار؟ .. ما الذي يحفظ للكائن الحي كيانه الكامل المتصل بماضيه والذي يتماهى مع حقوقه وكرامته، في ظل واقع يتم فيه التلاعب بكل شيء وفق مقتضيات مزاجية تخضع لمتنفذ وحيد؟ .. فسامي اليهودي أو حيدر المسلم الشيعي أو كمال المسلم السني، هو امتداد سردي لتاريخ العراق وما يحيط به في الفترة الممتدة بين 1922 ـ 2006، كل الهويات فيها مجرد حالة استكمال لما تتطلبه المرحلة السياسية التي توظف كل ما حولها كمجرد «إكسسوارات» لمواكبة الحالة .. وحيث الكائن الحي بكل ما ابتدعه من فنون، هو مجرد قطعة أخرى من قطع الإكسسوار .. وحيث كل هوية تفتت ما قبلها لتصنع هوية منفلتة طارئة .. تحول الشعوب معها إلى مجرد مُسوخ آدمية منفصلة عن كل شيء، إلا رغبة التدمير لتحقيق البقاء اللحظي فقط .. في شيء يشبه العودة إلى عالم الغاب الأول. العمل أيضاً يشبه معزوفة موسيقية جديدة .. فحقيقة أن البطل في شخصياته الثلاث كان موسيقياً شغوفاً .. جعلتني أشعر أن هناك دائماً نغمات موسيقى خفية في خلفية كل صفحة .. تتصاعد بجنون أحياناً حتى تكاد تأكل ما حولها من كلمات، وتذوي في أحيان برتم موغل في الوحشة .. محولةً المشهد السردي إلى حالة أسى متكاملة، تستولي على حواس القارئ معها، مهما كان الوسط الخارجي الذي يقرأ فيه العمل .. كل ذلك بالكلمات فقط .. بتلاعب علي بدر باللغة، مؤكداً فكرة الكلمة التي تأتي في البدء .. ثم محاولات مجاراتها الأخرى من معزوفات وسينما ومسرح وغيرها. «حارس التبغ» بشكل عام هو «حيلة العاجز» .. قدرته على إيجاد عبارات محكمة وتحليلات شديدة العقلانية، لا تنفصل عن الإنسان الذي يتشارك وإياه ذات الحيرة، تلخص له واقعاً ملتبساً، حول الهوية العربية بالمجمل، بما لا يخص بذلك العراق وحده .. إنه وخزة تحذير دقيقة لكل السائرين في الطريق ذاته، الذي وصل بمكان الحضارة البكر إلى مكان همجي مروّع .. فكلما احترت أمام ظاهرة ما .. لك أن تعود إلى تلك الحكاية لكأنها مرجع للمعرفة .. متأملاً في فرضيات الحشود المدمرة والهويات الهشة، وما يتولد عن الهدر الدائم، للقيم .. وحق الإنسان في اختبار أسئلة الإيمان الحقيقي وطرق الوصول للمعرفة الصافية والإبداع غير المشروط.

s.obaid@alroeya.com عن صحيقة الرؤية الإماراتية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم