عند زيارة مكتبة غنية بالكتب، ربّما نقرأ بعض العناوين، ونهمل أخرى، وإذا شدّ انتباهنا عنوان ما ربّما نطّلع على المحتوى، لكن أن نقرأ كتاباً أشبه بمكتبة غنية بأفضل العناوين، ولمحات عن شخصياتها، فهو من النوادر، خاصة إذا كان بنكهة التجربة الشخصية العميقة، والأكثر خصوصية إذا كان كاتبها الروائيّ الأمريكي هنري ميلر(1891- 1980) .

في مؤّلفه "الكتب في حياتي"، الصادر عن دار التكوين السوريّة، بترجمة أسامة إسبر، يتساءل ميلر: "كيف تصنع الكتب الكاتب؟ أو بمعنى آخر: كيف تشكّل القراءة نبع المؤثرات الذي يرتوي منه الكاتب فيما يقوم بإبداع أعماله؟"

يحاول ميلر أن يجيب عن هذا السؤال عبر سيرة ذاتية ثقافية يتحدث فيها عن علاقته الحميمة بالقراءة منذ أن كان طفلاً، وعلاقته مع مؤلفين معاصرين أثّروا في تجربته، وأشخاص آخرين يسمّيهم "الكتب الحيّة" ممن قدّموا له حيواتهم وأفكارهم وأفعالهم، بعد أن جرّبوا الحياة بشكل كامل .

في هذا العمل لايطمح ميلر إلى أن يخرج من حدود مهنته ككاتب، ولهذا يقول إنه يهدف من وراء هذا الكتاب أن يروي سيرة حياته، ويرى أنه إذا كان المرء ينشد المعرفة أو الحكمة، فمن الأفضل له أن يعود إلى الينبوع، قاصداً بذلك التجربة المباشرة في الحياة، ويصحّ الأمر نفسه هنا على الأدب، فلكي نبدع يجب علينا أن نتحرّر من "المعلّمين" على حدّ قوله .

ويشير إلى أن أعظم درس ينبغي تعلّمه في هذا العصر، الذي يؤمن بأن هناك طريقاً مختصراً إلى كل شيء، هو أن الطريق الأصعب يعدّ الأسهل، على المدى الطويل، فكل ما هو مذكور في الكتب، وكلّ ما يبدو حيوياً ورائعاً بصورة مخيفة، هو ذرّة فحسب من ذلك الذي ينبع منه، والذي بمقدور الجميع الوصول إليه .

ويرى المؤلّف أن إحدى الجوائز القليلة التي يحصل عليها الكاتب من أجل أعماله هي تحويل القارئ إلى صديق شخصيّ حميم، وإحدى المتع النادرة التي يعيشها هي أن يتلقى الهدية التي كان ينتظرها من قارئ مجهول، قائلاً: "هناك كتّاب يغنوننا، وآخرون يفقروننا، ومهما كان الأمر، يوجد شيء أكثر أهمّيّة يحدث، وطول الوقت، سواء أغنيننا أم أفقرنا، نحن الذين نمارس الكتابة، نحن المؤلفين، نحن رجال الأدب، نحن الناسخين، يدعمنا ويحمينا ويغنينا ويهبنا عدداً كبيراً من الأشخاص المجهولين، الرجال والنساء، الذين يراقبون ويصلّون، كي نكشف الحقيقة الكامنة فينا .

يتحدّث ميلر عن الصراع الذي خاضه من أجل الحصول على بعض المؤلفات، ويجد أن الكتب هي أحد الأشياء التي يحتفي بها البشر بعمق، وكلّما كان الإنسان أفضل، شارك الآخرين بسهولة في أملاكه الأكثر أهمّيّة، وفي رأيه، لابدّ أن تكون الكتب كالنقود في حالة انتشار دائم تصل إلى يد الجميع، ولايعتبرها مجرّد صديق، بل وسيلة لصناعة الأصدقاء .

وعن تأثير الكتب وإعجابه ببعضها يتحدث عن تجربته، إذ كان يكتب رسائل إلى أصدقائه، وأحياناً إلى المؤلف، أو إلى الناشر، حيث تصبح تجربة قراءة الكتاب جزءاً من حديثه اليومي، تدخل في الطعام والشراب .

ويرى أن القراءة في عمقها عمل إبداعيّ، حيث من دون القارئ المتحمّس يموت الكتاب . ونجده يمجّد الكتابة الجيّدة عندما يقول: "الشخص الذي ينشر الكلمة الجيدة لا يطيل حياة الكتاب المعني فحسب، وإنما فعل الإبداع نفسه أيضاً . ويمنح قرّاء آخرين الفرصة، ويغذّي الروح الإبداعيّة في جميع الأمكنة ."

يتحدّث ميلر عن سيكولوجيّة الكتب التي همّشت في معظم الدراسات، إذ يجد أن هناك كثيراً من الكتب التي يعيش معها المرء في ذهنه، وهي كتب لم يقرأها أبداً، وأحياناً تكتسب أهمية مذهلة، إذ يجد ثلاث فئات لهذا الترتيب: الأولى هي التي ينوي المرء قراءتها ذات يوم، لكنه لن يفعل ذلك أبداً على الأرجح، وهي الأعمال الكلاسيكية لمؤلفين مثل: هوميروس، وأرسطو، وفرانسيس بيكون، وهيغل، وروسو، وروبرت براوننغ، سانيتا . والثانية هي التي يشعر أنه ينبغي أن يكون قرأها، والتي سيقرأ بعضها على الأقل، قبل أن يموت، ومن بعضها التي يذكرها مؤلفات عن الصحراء العربية، وتدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية، وأيام سدوم المائة والعشرون، ومذكرات كازانوفا، ومذكرات نابليون، وتاريخ الثورة الفرنسية . والثالثة تشمل الكتب التي يسمع عنها المرء، ويتحدّث عنها، ويقرأ عنها، لكنه لن يقرأها أبداً بسبب ما بني حولها من جدار لا يمكن تحطيمه بسهولة . مثل: "يوميات لبيبي"، و"ترسترام شاند"، و"فلهلم مايستر"، و"تشريح الكآبة"، و"الأحمر والأسود"، و"ماريوس الأبيقوري"، و"تربية هنري آدامز" .

يبرز أهمية نوعيّة الكتابات بحيث تكون ملامسة لنبض القرّاء، غير بعيدة عن الواقع، ويقول: "إنّ مؤلّفين معيّنين، من المفترض أنّهم عماد ثقافتنا الغربيّة، غريبون في روحهم بالنسبة إليّ أكثر ممّا هم الصينيّون والعرب"، ويشدّد على التعامل مع الكتب بذوق عال، كما التعامل مع الطعام والرياضة، ولاشكّ، في منظوره إن القارئ الجيّد ينجذب إلى الكتب الجيّدة . هناك جملة مواضيع جعلت ميلر ينشد المؤلفين الذين يحبّهم، وسمحت له بالتأثّر، وشكّلت أسلوبه وشخصيته ومقاربته للحياة منها: حبّ الحياة، والبحث عن الحقيقة، الحكمة والفهم، واللغز، وقوّة اللغة، وقدم وعظمة الإنسان، وهدف الوجود، والتحرّر الذاتي، وإخوّة الإنسان، معنى الحبّ، وحسّ الفكاهة، والسفر، والمغامرة، والاعترافات، والتصوّف والمدهش في كلّ شيء .

يعدّ هذا الكتاب رحلة في الكتب وعوالمها، وفي شخصيات المؤلفين والمقرّبين منهم، ومن عوالمهم، لذلك يشكّل دليلاً للدخول في عالم القراءة والكتابة، لكن من منظور كاتب استثنائي .

عن صحيفة الخليج

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم