تحب جوخة الحارثي الذهاب، عند الغسق، إلى منطقة السيب، وهي شريط رملي طويل يمتد غرب مسقط، عاصمة عمان. 

لا تمل جوخة أبداً من التفكير في المشهد الهادئ للمنتزه القديم، حيث تلتف أمواج المحيط الهندي على الشاطئ، ويسبح الأطفال ويركضون في مجموعات صغيرة بالقرب من رغوة البحر. تخبرني الكاتبة العمانية البالغة من العمر 44 عاماً قائلةً، بينما نقود السيارة ببطء على طول الشاطئ في نهاية يوم حار من شهر يونيو، "أنا أستمتع بالهدوء في هذه اللحظات، وبالناس العاديين الذين يأتون إلى هنا لقضاء بعض الوقت مع عائلاتهم". 

كنا نأمل أن نذهب للتنزه على الأقدام، لكن الطقس الرطب الوحشي جعلنا نحتمي داخل سيارتها المكيفة.

تعمل الرافعات بسرعة، مثلما هو الحال في أي مكان آخر في شبه الجزيرة العربية، على إعادة تشكيل المناظر الطبيعية للواجهة البحرية في مسقط، بإنشاء مشاريع تجارية وسكنية جديدة تحاكي دبي أو ميامي. 

نجت منطقة السيب، في الوقت الحالي، من شهية المطورين النهمة. تعتز جوخة الحارثي بأصالة السيب، فكتاباتها الخاصة تروي الصدام بين القديم والجديد في عمان، حيث تغير المشهد الطبيعي المادي والاجتماعي بشكل كبير منذ اكتشاف أول رواسب بترولية قابلة للاستغلال في عام 1960م.

شهدت الحارثي هذه الصدامات في قرية طفولتها التي تدعى الشرقية، وهي عبارة عن واحة تبعد ساعتين بالسيارة عن مسقط وتقع عند تقاطع الساحل والصحراء. كان نخيل التمر كل شيء في الشرقية في فترة ما قبل البترول. كانت العائلات تقيس ثروتها بعدد الأشجار التي تمتلكها. اليوم، كما تقول جوخة، "ثمة مدارس ومستشفيات، وحصلت القرية على قنوات فضائية في عام 1990م والإنترنت في بداية عام 2000م. وبالرغم من ذلك، استمرت تقاليد القرية". صراع القيم والجروح التي أصابت النسيج الاجتماعي، الناتجان عن التغيرات المفاجئة، نجدهما في قلب رواية "سيدات القمر" التي فازت بجائزة بوكر الدولية في عام 2019م. تتبع الرواية ثلاثة أجيال من عائلة واحدة في سعيهم لفهم موجات الأحداث المتتالية التي غيرت عمان على مدى العقود العديدة الماضية.

تشير جوخة الحارثي، بينما نسير معاً على طول ممشى الشاطئ، إلى عدد قليل من المنازل القديمة المبنية للصيادين. 

هذه المباني الصغيرة تقف كآخر شهود على ماض غير بعيد، تم بيع معظمها من قبل أصحابها السابقين وبدأ السكان الأكثر ثراء يتحركون ببطء نحوها. 

تقول جوخة "ما زلت أتذكر عندما كان بإمكانك رؤية رجال ونساء يجلسون معاً ويشربون القهوة ويأكلون الفاكهة عند غروب الشمس، كان المشهد نفسه في كل مكان على الواجهة البحرية، حتى خارج مسقط، على طول ساحل الباطنة"، وتضيف: "حتى الرجال والنساء الذين ينتمون لعائلات مختلفة يمكنهم التسكع معاً، حيث كانت الأعراف الاجتماعية في المستوطنات الساحلية أقل تشدداً مما كانت عليه في المناطق النائية". 

ذهب هذا الماضي في الغالب، ومع ذلك يقف رجل عجوز أمام أحد المنازل، من الواضح أن مشهد غروب الشمس قد سلبه، "أنظر؟ إنه منظر لطيف للغاية". 

تملك جوخة الحارثي حنان واضح لكبار السن، فقد كان لجدتها شخصية قوية في تربيتها. "كانت ما نسميه اليوم شخصية عامة، امرأة قوية جداً ومحترمة، تجلس في منزلها وهي تعرف كل شيء عن الجميع، وتتحكم في كل شيء، وفي أبنائها، وبناتها، وخدمها. 

اعتاد الناس، ليس فقط النساء ولكن الرجال أيضاً، القدوم إلى منزلها لشرب القهوة. كنت أتسلل مع أختي لنستمع إلى قصصهم، وكانت قصص مذهلة. كانت الحياة صعبة في ذلك الوقت، حتى بالنسبة للرجال. على الرغم من أن لديهم المزيد من الخيارات، إلا أنهم لم يتمكنوا من السفر دون الحصول على إذن السلطان، فالسلطان يقرر من يستحق الحصول على جواز سفر، وكان الحصول عليه شيئاً مثل المعروف". 

لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئا أن شخصيات أمومية لا تنسى تحتشد بها قصص جوخة الحارثي، بنت عامر مثال على ذلك، وهي الشخصية الرئيسية في رواية "نارنجة"، الرواية الثالثة لجوخة والثانية لها التي تظهر باللغة الإنجليزية. تحولت بنت عامر، وهي ابنة مدرب خيول بدوي طردها من المنزل بعد زواجها مرة أخرى، إلى صنع الفحم للبقاء على قيد الحياة، وتفصل الرواية العديد من المصاعب التي تواجهها.

راوي الرواية هي زهور حفيدة بنت عامر. تدرس زهور في الخارج في بريطانيا، كما فعلت جوخة (التي تخرجت عام 2011م بحصولها على درجة الدكتوراه في الأدب العربي الكلاسيكي من جامعة إدنبرة). تتميز تجربة زهور في هذه الجزيرة البعيدة، مثل جوخة، بمشاعر القطيعة والشوق. تبدأ رواية "نارنجة "بعلمها بوفاة بنت عامر، لتتأمل بحزن حلم جدتها الذي لم يتحقق، حتى وفاتها، بامتلاك" قطعة أرض صغيرة، لتعيش على عائداتها". 

تقول جوخة الحارثي لنيو لاين: "حينما نتحدث عن حقوق المرأة، تندهش ابنتي عندما تعلم أنه لم تكن للمرأة أبداً حقوق". "يمكن للمرأة اليوم التفكير في الحصول على التعليم، والحصول على وظائف. بالطبع لا يمكن للنساء أن يقررن كل شيء، لكن لديهن خيارات أكثر من النساء من جيل جدتي. 

من المهم بالنسبة لي أن أفهم هذا وأتذكره". إن مصير النساء اللواتي يحاولن التصالح مع المواقف التي لا يختارنها يحركها بشكل خاص. تقول جوخة: "بالطبع، أنا مهتمة بالنساء لأنهن الأقل حظاً، لكنني لن أكون صادقة إذا لم أقل بأن الرجال يواجهون أيضا العديد من القيود"، وتضيف: "الحرية هي أيضا مسألة عرق ومكانة في التسلسل الهرمي الاجتماعي، ولا تزال عمان ترزح بعمق في القواعد الاجتماعية غير المرئية". 

"في رأيي، هذه القواعد أقوى من الضغط القادم من السلطات الدينية أو السياسية. إنها بالتأكيد تحد مما يمكن أن يفعله الناس في حياتهم، ما لم تختار بالطبع تحديهم. خذ الزواج، على سبيل المثال، من المتوقع أن يتزوج الإنسان من شخص من نفس الوضع الاجتماعي، هذا هو أهم شيء هنا. لا يهم إذا كان الرجل غنياً أو فقيراً، ما يهم هو الأسرة. إذا كان الجد عبداً أو عبداً سابقاً فالزواج من نسله غير وارد بالنسبة لشخص كانت عائلته دائماً حرة. الضغط الاجتماعي موجود، وأعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي تجعل الأمور أسوأ، فبدلا من إعطاء المزيد من الخيارات، إلا إنها تعزز السيطرة". تراقب جوخة الحارثي هذا الأمر مباشرة مع طلابها؛ فهي تُدرس الأدب العربي الكلاسيكي وأدب الرحلات في جامعة السلطان قابوس. 

تعمل جوخة الحارثي في قصصها على أن تعكس تعقيد بلدها، إنها لا تحب أن يتم رسم الأشياء بضربات فرشاة واسعة للغاية، كما هو الحال غالبا في الخطاب الغربي حول النساء في الخليج. لم تكن تجربتها الخاصة مع وسائل الإعلام إيجابية دائما، كما تعترف. وهي تأسف لاتجاه الإثارة السهلة، في حين أن الواقع، في بلدها ربما أكثر من أي مكان آخر، هو دائما متعدد الأشكال. "انظر ببساطة إلى الفرق بين شمال وجنوب عمان عندما يتعلق الأمر بالعادات والتقاليد. في الجنوب، إذا طُلقت المرأة، فهذا سبب للاحتفال، ستذبح عائلتها عنزة أو جمل لأنها ستعود إليهم. في الشمال، العكس هو الصحيح: الحصول على الطلاق أمر مخجل". وتتابع جوخة "أو خذ هذه القصة التي أخبرني بها صديق تونسي والتي أحبها كثيرا. عندما انتقل إلى عمان، تم تحذيره من التحدث إلى أي امرأة. لكن في أحد الأيام، ذهب في نزهة في الصحراء مع عائلته وعلقت سيارته. مرت عدة سيارات ولم تتوقف له، حتى وصلت امرأة بدوية تقود سيارتها الجيب. كان صديقي خائف من التحدث معها، لكنها ساعدته في إصلاح السيارة بنفسها ثم علقت بسخرية "في المرة القادمة، كن حذرا لأن النساء لا يأتين إلى هنا كثيراً"". 

كانت نزهتنا أكثر سلاسة، تبطئ جوخة من السرعة، بينما نجتاز سوق السيب، للنظر إلى المتاجر الصغيرة. ينظر إلينا الباعة الباكستانيون الذين يبيعون الدواجن واللحوم الأخرى بنظرة فضولية. في روايتها الأخيرة المنشورة باللغة العربية، "حرير غزالة"، تتجه الحارثي نحو هؤلاء العمال المهاجرين الذين يشكلون حوالي 30% من سكان عمان. "أحاول تحدي الطريقة التي يتم بها تصويرهم، من خلال منحهم الكرامة والفاعلية الإنسانية. لقد شعرت دائما أنهم قريبون جداً مني". 

تحكي الرواية قصة فتاة صغيرة نشأت في منزل مليء بالخدم من بنغلاديش والهند والفلبين. "هؤلاء الناس هم في الواقع الذين يعتنون بها، لأن الأم غائبة نوعاً ما. أوضح كيف أن العلاقة بين الفتاة والطباخ البنغلاديشي تشبه العلاقة بين الأب وابنته. كانت تذهب إلى غرفته في الصباح لأن الجميع ما زالوا نائمين في الساعة الخامسة صباحاً باستثنائه. كانت تجلس في غرفته حتى يستعد لإعداد وجبة الإفطار لها. أخبرني بعض القراء أنهم كانوا متوترين للغاية لأنهم كانوا يخشون أن يعتدي عليها جنسياً، لكن هذا أمر مبتذل!".

تغرق الشمس ببطء في المحيط ونقرر أخيراً أن ننطلق في نزهة على الأقدام. الرطوبة لا تطاق، ويصيبنا الذهول من رؤية مجموعات من الأولاد الصغار يلعبون كرة السلة بينما نحن نتعرق في طريقنا على طول الشاطئ. نستسلم بسرعة فنلجأ إلى مقهى عبارة مبنى مربع صغير يواجه البحر. تطلب جوخة العصائر والفطائر العمانية المفضلة في طفولتها. "كانت أمي تطبخها للإفطار، واليوم، عندما يضايقني الوقت، أفعل الشيء نفسه لأطفالي، لأنه من السهل صنعها"، تشرح ذلك أثناء سكب العسل على الفطيرة المستديرة، فيتحول حديثنا إلى قصص الطعام؛ كان والدها يرفض تناول أي شيء آخر غير الأرز واللحوم والسلطة على الغداء، كما تقول. الأرز، إلى جانب أي شيء آخر، كان طعامه الأساسي، فالأرز أساسي في النظام الغذائي العماني، كما هو الحال في العديد من الثقافات عبر المحيط الهندي. 

أوجه التشابه بين تقاليد الطهي العمانية والهندية كثيرة بشكل خاص، "حتى لو كان طعامنا أقل توابلاً"، كما تقول جوخة. روابط الطهي هذه قديمة، مثلما كان الناس والسلع تعبر بحر العرب جيئةً وذهاباً لآلاف السنين. قبل بضع سنوات، سافرت جوخة الحارثي إلى ولاية كيرالا، وقد صدمها أن الأبواب الخشبية المنحوتة التي رأتها تشبه العمارة العمانية التقليدية. 

تشكل الهويات الطبقية لعمان، وهي أرض عربية تشكلت من خلال صلاتها بالهند وبلوشستان وشرق إفريقيا وبريطانيا، جزءا مهما من استكشافاتها الأدبية. وبقدر ما تتكشف هذه الصلات عبر الزمن، بقدر ما تتوسع روايات جوخة أيضا عبر الفضاء. لقرون، كانت عمان إمبراطورية بحرية مزدهرة سيطرت على الساحل السواحيلي لشرق إفريقيا ابتداءً مما تعرف اليوم بالصومال في الشمال إلى قناة موزمبيق في الجنوب. 

في عام 1840م، نقل الحاكم العماني سعيد بن سلطان بلاطه من مسقط إلى زنجبار. حكم السلاطين العمانيون الجزيرة رسمياً حتى عام 1964م. ولدت بنت عامر، الجدة في رواية "نارنجة"، بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، وهي اللحظة التي لجأ فيها العديد من العمانيين إلى شرق إفريقيا. تقول جوخة:" لم أستطع تجنب الحديث عن هذا الاتصال القديم جدا". "اليوم، في عمان، لا يزال الكثير من الناس يتحدثون السواحيلية كلغة أولى". كانت عمان أيضا مركزا لتجارة الرقيق، وهو موضوع حساس لا تخجل منه الكاتبة جوخة الحارثي. على سبيل المثال، واحدة من أقوى الشخصيات في رواية "سيدات القمر" هي ظريفة، العبدة اللامعة، وهي أيضاً العاشقة السرية لسيد المنزل.

يختفي البحر تماما في الليل، مما يشير إلى أن محادثتنا تقترب ببطء من نهايتها. قبل أن نغادر، أسأل جوخة الحارثي ما إذا كانت تعلم، وهي تكبر، أنها ستصبح كاتبة. تضحك: "الشيء الوحيد الذي عرفته هو أنني أحب القراءة والكتابة. كنت طالبة متميزة واعتقد الجميع أنني سأدرس الطب أو الهندسة، كانت دراسة العلوم الإنسانية تخصص للأشخاص الذين يحصلون على الدرجات الدنيا". 

لكنها كانت مدمنة على الأدب. أمضت ساعات لا تحصى عندما كانت طفلة في مكتبة والديها الواسعة. قرأت كل شيء من أجاثا كريستي إلى الشاعر البغدادي أبو الفرج الأصفهاني "كتاب الأغاني". كانت محاطة بأفكار جدتها وجدها الشاعر المشهور الذي كان يحدث فقط قوافي وألغاز. كان عمها محمد الحارثي، الذي وافته المنية بشكل غير متوقع والذي لا تزال جوخة في حداد عليه، شاعراً وكاتباً معروفاً، كتب أدب رحلات عن تايلاند وفيتنام والأندلس، وكتاب واحد تتبع فيه خطوات ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) في صحراء الربع الخالي. 

حاز كتابه في أدب الرحلات "عين وجناح" على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي. أخبرتني جوخة أن آخر كتاب لعمها كان عن سريلانكا عمل عليه لمدة خمس سنوات لكنه لم يعش ليراه مطبوعاً. بعد وفاته، ساعدت جوخة ابنته، أي ابنة عمها، على نشره. كما اعتنت بمجموعة قصائد جدها الواسعة، والتي جمعتها وحررتها بعناية على مدار 10 سنوات. 

اليوم جوخة الحارثي أم لثلاثة أطفال وتشتهي وقتاً لكتاباتها الخاصة. كانت روايتها "سيدات القمر" أول رواية عربية تفوز بجائزة بوكر. ويسعد جوخة أن تسلط هذه الجائزة الضوء على الأدب العماني والأدب العربي بشكل عام. تتشرب كتاباتها الخاصة بإيقاعات وتراث الادب العربي الغني، "لكن ككاتبة، أعتز أيضا بخصوصيتي وعزلتي. هذه هي الطريقة الوحيدة لكتابة الأشياء الجميلة". حتى لو كانت جوخة حريصة على تصوير المجتمع العماني بفارق بسيط وعمق، فلا ينبغي قراءة رواياتها كوثائق اثنوجرافية، كما تصر هي على ذلك. "يجب ألا يعكس الأدب الواقع؛ بل يجب أن يخلق عالماً متقارباً أو متوازياً".

*الحوار أجرته الصحفية أميلي موتون لصالح (New Lines Magazine) 

ترجمة: عاطف الحاج سعيد  



0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم