حاورته: هيفي الملا

أنهيت قراءة رواية "كأنني لم أكن" للشاعر والروائي الكردي السوري هوشنك أوسي. هذه هي الرواية الرابعة التي أقرؤها له، بعد "وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال"، و"حفلة أوهام مفتوحة" و"الأفغاني: سماوات قلقة". ولأن لدي سابق معرفة بالكاتب، وسبق أن التقينا في كردستان العراق، على هامش ندوة، أدرتها، ضمن ندوات "بيت المدى الثقافي" في هولير، عاصمة كردستان العراق. خرجت من قراءة "كأنني لم أكن" بالأسئلة التالية، وددت تقاسمها وأجوبتها مع القرّاء الأعزاء.

1 ــ لا تعليق على أسلوبك الرشيق في الكتابة وحضور المعلومات والتواريخ والأحداث في رواياتك والتي تفصح عن اطلاع دقيق فتتحول روايتك بالنسبة للقارئ إلى مادة ممتعة ووثيقة فكرية أيضاً. لكن لا أعرف في رواياتك السابقة التي قرأتها، كان هناك شيء درامي حدثي أكثر تشَويقاً والشخصيات نفسها كانت أكثر حرارة واندفاعاً في التعبير عن نفسها، شعرت في هذه الرواية أن الشخصيات لم تكن مشبعة في التعبير عن نفسها والتعريف عن هويتها، وهو إحساس، لا أعتبره قراءة نقدية جادة بقدر ما أناقشه معك؟

ــ أشكركِ على وقتكِ الذي صرفته في قراءة "كأنني لم أكن". أثقُ بجدّيتكِ في القراءة والكتابة وإبداء الرّأي. والاختلاف معك، يساعدني على فهم مستويات تلقّي القارئ/ة الحاذق، المثقّف، الممتلك لذائقة أدبيّة، وذاكرة متّقدة. سؤالكِ، ينطوي على محمول نقدي تحليلي، حاول إجراء مقاربة بين بناء الشّخصيّات في الرّوايات السّابقة، والشّخصيّات في الرّواية الأخرى. ورجّح كفّة الأولى، على الأخيرة. هذا حقّك على النّصّ وكاتبه. لماذا؟ لأنكِ قرأت له نصوص روائيّة سابقة، يفترض به أن تكون شخصيّاته الرّوائيّة الجديدة، إن لم تكن بنفس وهج وحيويّة الشّخصيّات السّابقة، أقلّه، أن تحافظ على نفس المستوى، وألاّ تعود القهقرى إلى الوراء.

يمكنك اعتبار تعدد الهويّات، الثقافات... داخل البناء الرّوائي الواحد، جزءًا من استراتيجيّتي في الكتابة الرّوائيّة. كذلك الحال كانت مع "كأنني لم أكن": كردستان العراق، كردستان إيران، الاتحاد السّوفياتي السّابق، العراق، سوريا، فرنسا، وأماكن أخرى، مرّت بها أحداث الرواية. بالانسجام مع تلك الاستراتيجيّة، هناك شخصيّات روائيّة كثيرة، مختلفة المشارب والانتماءات، الهويّات والثقافات في رواياتي. لكن، دائمًا هناك، شخصيّة محوريّة، هي البؤرة أو المركز. على سبيل الذّكر، شخصيّة "شالاو حمه عبدالمقصود الكسنزاني القادري". ذلك الشّاب الكردي المراهق، الرّاعي، وكيف ترك أسرته وقطيع خرافه وأغنامه، تحت تأثير الشّعارات، والتحق بقافلة المقاتلين الذين ينشدون الحريّة وقتال العدو. لحظات الترقّب والتحوّط والحذر والاستعداد لملاقاة العدو، وتماسه مع الواقع الجديد في جمهورية مهاباد، وكيف أن سؤال "أين العدو؟" وشكله، ومتى سيظهر، كان يؤرّقه. ثم مغادرته مع زعيمه ورفاقه مهاباد (كردستان إيران) وعبوره الحدود، وصوله إلى "طشقند"، وتعرّفه على الفتاة أولغا، وكيف غيّرت حياته. ثم دخوله المدرسة، واكتسابه اللغة الروسيّة والعلوم والمعارف، وحدوث الانقلاب المعرفي، والنفسي لديه، بعد مرور عقدٍ ونيّف. ثم دراما العودة، ومنولوجات البقاء هناك، أم الرحيل إلى الوطن. وتفاصيل الرحلة على متن السفينة "غروزيا"، والرسو في ميناء البصرة، ثم السفر عبر القطار من البصرة إلى بغداد، ثم كركوك، ومنها إلى "حاجي عمران" بالسيّارة. والوصول إلى القرية، وصدمات اللقاء. فالعودة إلى هولير، وبدأ المعارك، والانخراط فيها، والاشتراك في ثورة أيلول، ثم الفكاك منها، بعد صراع الأخوة الأعداء ـ الكرد. وترك كردستان واللجوء إلى دمشق، وصولاً إلى مقتله بشكل عشوائي في صراع، لم يكن فيه لا ناقة ولا جمل. كل هذه التفاصيل والتحوّلات ومرور الشخصيّة في محطات ملتهبة على الصعيد الشّخصي والعام، العاطفي والسّياسي والمعرفي، وتطوّرها نفسيّاً وعقليًّا ومعرفيًّا، ألم يكن فيه قبس من الوهج، يضاهي شخصيّات رواياتي السّابقة، وجعل الفتور يتسرب إليها؟ ربّما.

وما ينسحب على حياة شالاو الكسنزاني، ينسحب على حياة ابنه هوازن، الفنان التشكيلي، الذي تسرّبت إليه تجربة أبيه، وصارت جزءًا أصيلاً من تجربته. وفقد حياته خارج بلده، سوريا، ليقتل في الهجمات الإرهابيّة التي شهدتها باريس. مرحلة الإبصار، والتحضير لمعرضه التّشكيلي الشّخصي، وتجاهله الثّورة والمظاهرات في سوريا. مرحلة العمى، والتغيّرات التي طرأت على علاقته مع حالته، أسرته ومحيطه، في تلك الفترة الملتهبة. جلسات العلاج النفسي، واستحضارات الذاكرة فيها. مرحلة الإبصار، والإصابة بالصّمم، ومغادرة دمشق، مرحلة باريس، ولقائه بشخص غريب. ثم المجزرة التي جرح فيها، ومغادرته باريس إلى العالم الآخر. عدا عن شخصيّة، أولغا، وتحوّلاتها، وكذلك شخصيّات، متفاوتة الحجم، لكنها مفصليّة وهامّة، في موضعها. أو هكذا أعتقد، وأظنّ أنني حاولت أن يكون بناء الشخصيّات متماسًا ومنسجمًا مع سير الأحداث. بالنتيجة، حاولت تقديم رواية، نفسيّة، اجتماعيّة، ذات محمول سياسي، قدّمت فكرة مفادها؛ إن الإنسان لا يمكنه الهرب من قدره. ومهما تنصّل من مسؤوليّاته الجمعيّة، الوطنيّة والثقافيّة، سيدفع نفس الثمن الذي يدفعه الآخرون. فإذا اقترف، ربّما يندم. وإذا لم يقترف، ربّما يندم. وهكذا تمضي الحياة، بين ندَمين؛ ندم اقتراف الشيء، وندم عدم اقترافه.

2ــ كما في رواياتك السابقة، في "كأنني لم أكن" أيضاً هناك كم من المعلومات على أكثر من صعيد، سياسي، ثقافي، تاريخي...، ألاّ تخشى أن يطالب القرّاء والنقّاد بالتوثيق، وربّما اتهامك بالاختلاس؟

ــ لا أقدّم للقارئ دراسة أو مجموعة دراسات وبحوث، تستوجب التوثيق الصّارم لكل معلومة واردة في المتون، وذكر المراجع والمصادر والإحالات، بل أقدّم نصًّا، هو خليط من الوقائع والأحداث، مضافًا إليها، المتخيّل الروائي. كلّ ذلك في إطار رواية، ليست بالرّواية التّاريخيّة الصّرفة، بالرغم من ورد ذكر أسماء وأحداث تاريخيّة، ولا الرّواية الوثائقيّة المحضة، بل رواية، حضور المتخيّل فيها، يتجاوز الحضور الواقعي. وعليه، لا تنطبق عليها معايير وأسس ومبادئ البحوث والدراسات، العلميّة، الأدبيّة، الفلسفيّة، التاريخيّة، على صعيد المنهج وتوخّي التوثيق. ولو قمتُ بتوثيق كلّ معلومة واردة في السّرد، أو الحوارات، أو المنولوجات الداخليّة، سواء على لسان الراوي العليم، أو الرواة الآخرين داخل البناء الرّوائي، فأنني سأحتاج إلى ما لا يقلّ عن 50 صفحة، تزيد من حجم الرواية، وتشتت ذهن القارئ. هكذا طريقة في الكتابة الروائيّة لا أميل إليها. كل روائي أو روائيّة في حاجة إلى ذكر معلومات ضمن النص. وتلك المعلومات، أكيد لها مصادرها ومراجعها. يحقّ للروائي، استقاء المعلومة، كمعلومة، وإعادة تحريرها، ودمجها في النصّ، بما يناسب وينسجم ويتسق، وليس أخذ المعلومة وملاحقها النصيّة من الكلام، واستيرادها من المصدر، وتصديرها إلى نصّه الروائي، وفق تقنيّة "نسخ – لصق"، والتعامل مع تلك المعلومة ككتلة نصيّة صلبة، غير قابلة لإعادة التحرير، هكذا طريقة، مسيئة، وتنم عن ضعف، وتعويل على احتمال جهل القارئ أو الناقد.

الذي يودّه اتهامي بالاختلاس، فالباب أمامه مفتوح، على صعيد بناء العمل وفكرته، هيكلته، الأحداث، الشخصيّات، الأقوال...، وهل حاولت استيرادها من عمل أو مجموعة أعمال أخرى، ونسبها إلى نفسي ونصّي، هذا الاتهام، مرحّب به، إذا كان مقرونًا، بالأدلّة الكافيّة الواضحة الصريحة التي لا لبس فيها أو تأويل.

العزيزة هيفي، باختصار، التناصّ بيّن، والتلاص بيّن. التناص، التماهي، المطارحة الأدبيّة ــ الردّ، التأثّر، كل هذه التقنيّات، جائزة، وربّما مستحبّة في الكتابة الرّوائيّة. أمّا التلاص، والاختلاس والسرقة الأدبيّة، فهذا جرم، يعاقب عليه النقد، والضمير الثقافي، قبل أن يعاقب عليه القانون. وهل تظنين بيّ أنني لا أخاف النقد والضمير، ووعي القارئ، ولا أحسب له ألف حساب، حتّى اقترف جرم الاختلاس؟! أبدًا.

سأضرب لك أمثلة تطبيقيّة، من باب الاستئناس: قصّة "الشّيخ الصنعاني"، وردت في نص "منطق الطير" لفريد الدين العطار، ويقال إنها وردت في نصوص جلال الدين الرومي أيضًا، لحين وصولها إلى الشّاعر المُلاّ الجزري. فهل الأخير اختلسها؟ طبعًا لا. لكل شاعر طريقته ولغته في التعبير عن قصّة الحبّ تلك شعريًّا. حتّى العطّار نفسه، ربّما لا يكون مؤلّف حكاية "الشّيخ الصّنعاني". نحن هنا إزاء نصّ مجهول الكاتب، لكنه منسوب إلى التراث الإنساني. إعادة كتابته بطرائق مختلفة، كل طريقة، تضيف إلى سابقتها شيئًا، لا اعتبره اختلاسًا. هذا هو التّناص والتأثّر، ومحاولة التماهي والتجاوز.

ولئن الشّيء بالشّيء يذكر، ضمن ديوان "العقد الجوهري" للمُلا الجزري، هناك أبيات شعريّة أو أجزاء منها، لشعراء آخرين، ضمن قصائد المُلا الجزري. كبيت "ألا يا أيّها السّاقي، أدرْ كأسًا وناولها" لحافظ الشّيرازي. هل كان المُلا الجزري (الكردي) يعوّل على عدم اطلاع أبناء عصره على أن ذلك البيت ليس للشّيرازي؟ طبعًا لا. نفس الحال بالنسبة لفكرة قصيدة "الشّيخ الصنعاني"، الجزري يعلم أنه لم يختلق الفكرة، بل إعادة معالجتها بقصيدة تختلف عن المعالجات السّابقة.

العديد من البحوث والدراسات النقديّة تشير إلى أن "الكوميديا الإلهيّة" لدانتي، متأثّرة بـ"برسالة الغفران" للمعرّي. زيدي على هذا وذاك، قصّة التكوين الموجودة في الكتب المقدّسة، وفي أساطير الأوّلين، متشابهة، وفيها تناصات كثيرة. في أيّامنا هذه الأمور تختلف. هناك من يختلس اختلاسًا، بيّناً واضحًا، وحين اكتشافه، يُصار إلى تبريره على أنه تأثّر أو تناص أو توارد أفكار. أبعد من ذلك، هناك من يشتطّ به الخيال النقدي الذرائعي التعسّفي، وكي يغطي على اختلاس أحدهم، لسبب ما، يتهمُ كلّ المبدعين والفنانين، الحاليين والسابقين، على أنهم مختلسون، بطريقة أو أخرى. أنا ضدّ الاختلاس، وشرعنتهِ، واعتباره فنًّا، والتنظير لمفهوم الفنّ على اختلاس، وأن الفنان محضُ مُختلس. النقد تطوّر، وبتطوّره، تقدّمت وسائل كشف الاختلاسات والسّرقات الأدبيّة، وكذلك تطوّرت طرائق التبرير والتغطية على الاختلاس وتمريره على أن الضرورات الإبداعيّة تبيح المحظورات القانونيّة ـ النقديّة.

هل إذا استخدمت هذه الآية "لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليلُ سابقُ النّهار وكلٌّ في فلكٍ يسبحون" في أيّ نصّ سردي أو روائي، يجب عليَّ أن أكتب في الهامش أو الحاشية: "القرآن الكريم، سورة يس، الآية 40" للتوثيق؟ ذلك أن القارئ يعرف أن الكلام ليس لي، وفي مقدورهِ وضع كله أو جزء منه في محركات البحث، حتّى يعرف المصدر. بمعنى، أحيانًا، أوظّف بعض المعلومات في نصوصي الروائيّة، مع تقديم المفاتيح للقارئ بهدف التحرّي والتقصّي، إن أراد ذلك، أو وجد الأمر ضروريًّ له.

ختامًا، هناك تنويه في نهاية روايتي "كأنني لم أكن"، أوضّح فيه أن عنوانها مستوحى من قصيدة "تنسى كأنّك لم تكن". وبمقارنة بسيطة بين محتوى نصّ القصيدة ونصّ الرّواية، ستعرفين أن الرّواية في واد، والقصيدة في وادٍ آخر تمامًا، وأن الرّواية ليست إعادة إنتاج للقصيدة، إطلاقًا.

3ــ هل أردت القول إنك ضد أن يكون للمرء شرف المشاركة في الثورات التي يشعر أنها جالبة الحرية والكرامة، بصرف النظر إن كانت ثورة مهاباد، أم ثورة البارزاني، أو أية ثورة في العالم، من حيث الاقتداء به كرمز؟

ــ لا طبعًا. لأنني، نفسي، شاركت في الحركات السياسيّة التي زعمت الثورة من أجل الحريّة، على الصّعيد القومي الكردي؛ كمنتمٍ لحزب، وعلى الصّعيد الوطني السّوري؛ ككاتب مستقلّ. شاركت وساهمت، وندمت، بعد جلاء الصّورة لي. في مقالات قديمة لي، ذكرت، بما معناه؛ لو أن جان جاك روسو (1712-1778)، عرف أن كتابه "العقد الاجتماعي" سيساهم في اندلاع الثورة الفرنسيّة، وأن تلك الثّورة ستفضي إلى المجازر والمذابح، وتدخل فرنسا في حرب أهليّة طاحنة (1789-1799) هل كان سيكتب كتابه ذاك؟ ومعلوم أنه مات قبل تلك الثورة بما يزيد عن العقد من الزمن. مقصدي، روسو شارك وساهم في تلك الثّورة التي أفضت إلى تلك المذابح والحروب، بكتابه "العقد الاجتماعي"!

في روايتي الأولى "وطأة اليقين" وقفت مع الثّورة السّورية، وكان فيها استشراف لما ستنزلق إليه من حرب وتمزّقات أهليّة وطائفيّة. في تلك الرّواية، جعلت أشخاص أجانب يتفاعلون مع الثّورة السّوريّة. وذكرت الكثير من المقولات والأفكار دعمًا لذلك، ليس فقط الثّورة في سوريا، بل في تونس ومصر وليبيا أيضًا. على سبيل الذكر لا الحصر: "أن البوعزيزي لن يشهد امتطاء الانتهازيين والوصوليين للثورة والسلطة، كما جرت العادة في كل ثورات العالم، لئلا ينتابهُ الندم على ما فعله بنفسه" (رواية وطأة اليقين. ص39). كذلك تحدّثت في رواية "حفلة أوهام مفتوحة" عن الثّورتين؛ الكرديّة والفلسطينيّة، وقلت على لسان مقاتلة كرديّة سابقة: " استشرى وباء بين أبناء قريتنا والقرى المحيطة اسمه الالتحاق بالثورة. وصار الدم يستدرّ ويستجرّ دماً آخر. حين يسقط شهيد، يتمُّ تحريضُ أهله على ضرورة عدم ترك سلاحه على الأرض، ووجوب حملِ هذا السلاح، حتى آخر قطرة من الدم، دفاعاً عن الشرف، وفي سبيل تحرير الوطن من الأعداء الأتراك، وتحقيق أهداف الشهداء في الحرية والاستقلال! وهكذا، اتسعت المقابر، وتقلّص حجم الوطن. هكذا تحوّلت الثورة إلى طاحونةٍ تطحننا، وكي تبقى تدور، لا مناص من استمرار تدفق دمائنا في ساقيتها. هذا الوباء أو هذه الهستيريا أصابتني أيضاً." (ص173)، صاحبة المقولة اشتركت في ما يفترض أنها كانت ثورة، بقيادة العمال الكردستاني. وفي رواية "الأفغاني: سماوات قلقة" ذكرت على لسان أحد الشخصيات: "ما مِن ثورةٍ إلاّ وينهشها السّرطان" (ص81) لكن والد صاحب المقولة وإخوته اشتركوا في الثورة الكرديّة بقيادة الزعيم مصطفى بارزاني، وفي الأحزاب الكرديّة الأخرى.

في رواية "كأنني لم أكن" محاولة جديدة لتقديم صورة منطقيّة، غير حالمة للثورات. صورة تبعدها على النمطيّة الرومانسيّة المتداولة على أن كل الذين يعلنون الثّورات ويشتركون فيها هم الأبرار، الأطهار، الأخيار، ومن ينتقدهم، هم مع العدو، الخونة، المرتزقة...الخ! الأمر ليس على هذا النحو. الثّورة، لا يعلنها ملائكة أو شياطين، بل بشر. وعليه، يمكنها أن تحوّل شخصًا شريرًا إلى إنسان نبيل مضحٍّ وكريم، وشخصًا نبيلاً إلى قاتل، مجرم، لصّ، وطاغية. ولأن الظّلم والجور والقمع والاضطهاد، سلوكيّات في منتهى القبح والبشاعة، هذا لا يعني أن سلوكيّات وممارسات أيّة ثورة ستكون في منتهى الجمال والرّوعة والطّهرانيّة والنُّبل والوفاء. وتاريخ الثّورات، خزانة عامرة بالأدلّة على تلك الحقيقة والصّورة غير المبالغ فيها. يعني؛ "كأنّني لم أكن" ليست محاولة لشيطنة وأبلسة الثّورات، بل محاولة رفع القداسة والطهرانيّة والرومانسيّة والحصانة عنها.

الموضوع يتعلّق بالنّدم على اقتراف فعل، والنّدم على عدم اقترافه. وأقصد هنا، الاشتراك في الثّورات. في كلتا الحالتين هناك ندم. هل الحياد، أيضًا تورّط وضلوع من نوع آخر؟ هل يمكن للمرء التهرّب من دفع أكلاف ثورة أو صراع، حتّى لو لم يشترك فيهما؟ وإذا كانت الإجابة نعم، لماذا وقف على الحياد إذن؟ بمعنى آخر، الرواية، تحاول طرح أسئلة، والسعي نحو البحث عن أجوبة لها.

4ــ في الصفحة ٩٢ هل شككت في صوابية ذهاب الجنود لمساندة جمهورية مهاباد؟ أم هو تعميم على العمى العاطفي وعاطفية المشاركة في الثورات التي تترك فجوات داخل المقاتل الذي بعيش تناقضات وصراعات كثيرة في داخله؟

ــ لا، لم أشكك. حاولت أن أطرح وجهة نظر. وإذا أعدت النظر في الدردشة بين "شالاو" (أحد مقاتلي الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني) وسائق التاكسي (أحد الجنود القدامى في الجيش العثماني)، ستتأكّدين من ذلك:

{- لم أزعم أنّني مقاتل من أجل حريّة واستقلال كردستان، ولا أعرف شيئًا عن مدن وقرى كردستان؟! كنتُ مجرّد جندي في الجيش العثماني، اقتيد جبرًا وكرهًا إلى حرب لم تكن حربه. بينما أنتَ، ذهبت بمحض إرادتك إلى حرب، كانت حربكَ، ولأجل وطنك، ومقارعة عدوّ شعبكَ! صحيح؟ أما أنا مخطئ؟

- لست مخطئًا. ربّما لم أكن أيضاً مخطئًا أيضًا، أو أنني لم أكن في السنّ والوعي الذي يجعلني أفصل بين الخطأ والصّواب. جَيَشَان المشاعر وهيجانها، الرّأس الحامية، رفضُ الظلم، والتأثّر بالكلام الحماسي، جعلني لا أفصل بين الأمور، وأن أرى الوطن وكردستان والعدو، خلفَ الحدود، وليس داخلها!}. (ص 92. كأنني لم أكن).

وهنا، المقاتل الكردي السّابق، يشرح موقفه في تلك الفترة. بمعنى، الحديث دائر بين كرديين، مقاتلين سابقين. أحدهما في الجيش العثماني، والثّاني في الجيش الكردستاني. الأوّل ذهب للقتال جبرًا، والثّاني ذهب طوعًا. كلاهما، يتناقشان أثناء الطّريق إلى كردستان، وتحديدًا، إلى "حاجي عمران"، ولماذا كلاهما لا يعرفان تفاصيل ومدن بلديهما. كلّ واحد منهما يشرح أسبابه. الأفكار التي ذكرها شالاو، هَهنا، تعبّر عن الحالة النفسيّة والعقليّة لدى الشّباب المراهق، حين قرر الالتحاق بالثورة والقتال ومقارعة العدو، وأن ذلك القرار، غلبَ عليه العاطفة، وليس العقل. بمعنى آخر، أنه على الكردي الاهتمام بمشاكل بيته، بدلاً من تجاهلها، والتركيز على حلّ مشاكل بيت شقيقه، وراء الحدود. فلا هو حلّ مشاكل شقيقه، بتلك الطرّيقة، وبقيت مشاكل بيته الداخليّة عاقلة من دون حلّ.

5ــ في كل رواياتك هناك ملمح إلى ذلك حيث الصغار المندفعون، هم وقود ثورة هوجاء يضيعون في معمعتها.

ــ صحيح. نقد الثّورات، وليس رفضها. وذلك عبر الحديث عن الجوانب والتبعات السلبيّة لها، سواء على البشر، والحجر والشّجر.

6ــ الصدفة التي لعبت دورًا كبيرًا في الرواية جعلتها نوعًا ما بعيدة عن الواقعية التي ينتظرها ذهن القارئ؟

ــ في تقديري، أن أسّ الأدب، في جلّه، إن لم يكن كلُّه، هو الإمتاع، وليس للإقناع. ضالّته "الإمتاع والمؤانسة" على حدّ تعبير أبو حيّان التوحيدي.

أوليست الحياة، سِفرٌ لا ينتهي من المصادفات؟ ألا تلعب الصّدف دورًا بارزًا في تقرير مصائر الأشخاص، وأحيانًا الشّعوب أحيانًا؟ كم من الأحداث التي نعيشها وعشناها، لو حدّثنا عنها أحدهم، قبل عشر سنوات، لقلنا عن كلامه؛ غير مقنع. الحياة، كفيلة بتحويل الأشياء غير المقنعة اليوم، إلى أشياء وأحوال مقنعة، في الغد. في هذه الرواية، لا أقدّم نظريّة سياسيّة، أدبيّة، فلسفيّة، رياضيّة، حتّى أنشد الإقناع. عدم وجود الإقناع، لا يقلقني، بل عدم وجود الإمتاع هو المقلق. زيدي على هذا وذاك، من الأفكار التي أردت قولها في هذه الرواية، إن هناك الكثير من الحالات، الأمراض والمشاكل، يقف العِلم (الطبّ العادي والنفسي) عاجزًا أمام تفسيرها، وإيجاد الحلول لها. علاوة على كلّ ما سلف ذكره؛ الرواية عنوانها "كأنني لم أكن". وهو يفضي إلى شبهة وجود الكائن ــ الكينونة ـ الأنا، من عدمها. عنوان مفتوح على المساءلة الذاتيّة، المراجعة، والتأمّل في الذات والحياة، بطريقة بسيطة، بعيدة من المزاعم والادعاءات الكبرى.

7ــ فقدان العمى وثم الشفاء، ثم فقدان السمع. بعدها لماذا هذه الحواس المغيبة؟ وهل في ذلك دفع للتركيز على عمل حواس أخرى، أحب ان أدرك تأويل ذلك؟

ــ في هذه الرواية، الحواسّ موجودة، تغيب، ثم تعود. يعني ليست مغيّبة. بغياب أحدها، لا تنتهي الحياة. إذا غابت حاسّة، تحلُّ محلّها حاسّة أخرى، تحاول القيام بدورها. إذا غاب البصّر، ترتفع حساسيّة السمع، اللمسّ، وربّما الشمّ. إذا غاب السّمع، يحاول البصر قراء حركة الشفاء، وتحلّ الكتابة محلّ السّمع. بيتهوفن فقد سمعه، واستمرّ في التأليف الموسيقي. الحواس مصادر الوعي السمعي، البصري، المعرفي، الذائقة. حاولت تحريك سؤال التحوّلات التي تطرأ على نفسيّة ووعي الإنسان، في حال فقدانه إحدى حواسّه. عبر هذه التقنيّة، سعيت أن أقدّم رواية نفسيّة.

8ــ الأب الذي يموت بمعركة غير معركته؛ في حرب الإخوان المسلمين ونظام الأسد الأب. والابن ومقتله في باريس، أثناء الهجمات التي استهدفت العاصمة الفرنسية. هل تقصّدت ذلك الموت القائم على الصدفة؟

ــ نعم. الموت الذي لا يمكن الهروب منه. في هذه الرّواية، حاولت التّضامن مع كلّ الضّحايا التي لا علاقة لهم بالصّراعات والحروب، الّذين لقوا حتفهم في المعارك أو الهجمات، بسبب تواجدهم أو مرورهم العارض، في المكان والزّمان الخطأ.

 9ــ شدّني أدبيًا وأرضى ذائقتي؛ مشهد الطفل وهو يراقب الفتاة العمياء. أحسست أنه جد واقعي، وقد أبدعت تصويره. والأم العمياء وحالة لقائها بابنها، والصراع النفسي الذي عاشه شالاو بين البقاء في طشقند أو العودة للديار!

ــ تقصدين مشهدَ تلصّص الطّفل المراهق على الفتاة العمياء داخل الحمّام، أثناء غسل أمّه لها. ملاحظتك هذه، لفتت انتباهي إلى شيء لم أكن منتبهًا له، تتعلّق ببدء العمى في هذه الرّواية، مع تلك الفتاة. ثم انتقل إلى أمّ شالاو، حزنًا على فراقه، في حالة تماهٍ وتناص مع النّبي يعقوب، حزنًا على فقدان ابنه يوسف. ثم يصاب هوزان، ابن شالاو، بالعمى، وحفلة عيد الميلاد التي نظّمها للعميان، والأحاديث التي دارت بينهم. ويكاد العمى أن يكون أحد الأبطال الخفيين في "كأنني لم أكن".

ـــــــــــــ

خاص لموقع الرواية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم