الرواية نت - لندن

تعبّر الروائية السورية واحة الراهب عن إيمانها برسالة الأدب والفن وقدرتهما في مواجهة الخوف الذي تحاول السلطات زرعه في نفوس الناس..

تستذكر مبدعة "الجنون طليقاً" في حوارها مع الرواية نت جانباً من معاناتها مع الرقابة، وكيف كانت تؤجل الإقلاع في الرواية، وتكتفي بكتابة السيناريوهات لأفلامها السينمائية، التي تتيح لها الالتفاف على الرقابة عبر إيحاءات الصورة للبوح بالكثير من المحظورات.

في هذا الحوار تصرّح صاحبة "مذكرات روح منحوسة" ببعض آرائها الجريئة في قضايا أدبية وحياتية عديدة..

- كيف تقيّمين تجربتك مع القراء؟

رغم تدنّي عدد القراء في الدول العربية، ورغم قلة إنتاجاتي الروائية، لكني لمست اهتماماً كبيراً بما ألفته للآن، من أول عمل كتبته. وإن حصدت روايتي الثانية (الجنون طليقاً) اهتماماً أكبر من روايتي الأولى التي أعتز بها كثيراً (مذكرات روح منحوسة) والتي رغم إعجاب كلّ من قرأها بها، وإشادتهم بابتكار فكرتها وجمالية الأسلوبية واللغة والشخصيات والأحداث فيها، لكن حجم متابعة الثانية كان أكبر. ربما لكونها أول رواية لي، يُتوقع منها القراء أن تقدم بقالب تقليدي سهل مبسط دون كسر للمحرمات، وربما لأنه لم يتوفر لها الترويج الكافي إعلامياً. بينما الثانية (الجنون طليقاً) تلقت اهتماماً من الدار والإعلام والقراء على حد سواء، أتلقى صداه للآن، رغم عمر الرواية القصير نسبياً والذي لم يكمل العام، ورغم كتابتها كاملة بالفصحى لكنها فصحى مبسطة سلسة بحسب ما قيل، ربما لكونها تتناول خطوطاً متعددة تثير التشويق أكثر، كالخط النفسي والبوليسي والفني المرتبط بفريق تصوير فيلم، بالإضافة لعالم مشفى الأمراض العقلية، في زمن الثورة والحصار الذي فرض على الجميع. بينما الرواية الثالثة (حاجز لكفن) هي قيد الطباعة، ولا يمكنني معرفة الآراء سلفاً، إلا بقدر حماس من قرأها من الأصدقاء ومن دار النشر بما يكفي لطباعتها.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندمي على كتابتها أو تشعري أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

ربما هناك تأثير للجينات في تجربتي الإبداعية، أكثر منه تأثر برواية بعينها، فقد نشأت في عائلة أدبية منها عمي الروائي المعروف هاني الراهب، وكذلك والدي الروائي هلال الراهب. ويعجبني ما أبدعاه من روايات كما يعجبني الكثير من الإبداعات الروائية العربية والعالمية. لكن ليس لدرجة أن تطبع ما أكتبه بطابعها وتأثيراتها فأقلدها. فأنا أؤمن بأن لكل كاتب أسلوبه وطابعه وإلهامه الخاص، النابع من عمق تجربته الفكرية والنفسية والحياتية الخاصة به.. إن كان مبدعاً. وقد أشعر بما لا يعدو كونه تقارباً كبيراً مع رواية كالخيميائي لباولو كويلهو، أو رسمت خطاً على الرمال لعمي هاني، أو مئة عام من العزلة لماركيز، أو العمى لجوزيه ساراماغو.. تقارب لا يصل لمستوى أمنية بأن أكون من كتبت تلك الروايات الجميلة.

ولم يسبق لي أن ندمت على كتابة أي من رواياتي، لكوني لا أكتبها إلا حين تنبع وتتدفق بكل صدق وعفوية، معبرة عن ذاتها بتمرد يتجاوزني - أحياناً - ليحررني معه من كل المعيقات، بعد أن تتخمر لتعتق وتصبح جاهزة لمشاركتها الآخرين. وإن كان ينتابني دوماً شعور بعدم الرضى والاكتفاء، تجاه أي عمل أشعر بقدرتي على تقديمه بشكلٍ أفضل فيما بعد. أو ينتابني القلق من نشر رواية.. كما في روايتي الأخيرة قيد الطبع (حاجز لكفن) من حجم القهر المعبر عنه في صفحاتها. لكنه قلق يغمر كل ما أكتبه، هو ذات القلق والخوف على جنين أرعاه بكل دفقات الحب في أحشائي لأنجبه مكتمل الخلق إلى الحياة.

- كيف ترين مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

أراه خسارة كبيرة لمتعة الاحتكاك المباشر مع سحر الكلمة وأحرفها والكتاب والثقافة عموماً، لصالح عالم استهلاكي مسطح، يكرس أكثر فأكثر تسليع كل شيء. لكن يمكن تجيّرها لصالح الكتاب أيضاً وتصبح أداة جذب لعالم الروايات، إن كانت الروايات مؤهلة لجذب الاهتمام لتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات مرئية سمعية بصرية، توصلها إلى أكبر عدد من البشر عبر الصورة والصوت. كذلك الأمر بالنسبة لتحويلها إلى نسخ سمعية تساهم بنشر الروايات على نطاق أوسع، بعد أن انحسر عدد القراء.

في النهاية حتى الصورة التي تؤسس لاختزال الكلمات قدر الإمكان بما هو مرئي، تحتاج إلى مادة مكتوبة بالأساس، ولن تضاهي الرواية في اتساع أفق الخيال المنفلت فيها، أمام تأطير الصورة برؤية المخرج، لذا نادراً ما نرى فيلماً نقول أنه أهم من الرواية، وأنه أحاط بها من كل جوانبها.

- كيف تنظرين إلى واقع النقد في العالم العربي؟

عالم النقد تجاه الروايات أراه أفضل قليلاً مما هو في عالم السينما والفنون الأخرى، التي مهما حاول النقاد مواكبتها، يبقون دون العملية الإبداعية المستوردة والمستحدثة. بينما نقاد الرواية عموماً حتى لو لم يكن معظمهم مبدعين بما يكفي ليصبحوا هم الكتاب، لكنهم آتون من عالم الكتابة والثقافة التي تنتمي له الروايات موضوع النقد. لكن تبقى الحاجة أكبر لوجود نقاد ممن يقرؤون العمل ويحللونه بوعي إبداعي خلاق، نسبة للكم الكبير المتزايد من الروايات المنشورة سنوياً، دون الاكتفاء بتكرار الملخص المعتمد من قبل الجميع.

- إلى أيّ حدّ تعتبرين أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

إلى حد لابأس به بالنسبة لروايتي الثانية (الجنون طليقاً) نسبة لعمر إصدارها الذي لم يتجاوز العام بعد، وقد حازت على تحليلات من كتاب ونقاد هامين جديرة بالاحترام والتقدير. لكني أرى أن روايتي الأولى (مذكرات روح منحوسة) لم تحظ بالدراسة التحليلية الكافية، ولم تأخذ حقها بما يتناسب مع قيمتها كشكل وكمضمون يتجاوزان التقليدي والمحرمات – بحسب تقديري – يعكسان مرحلة زمنية على امتداد حوالي قرن إلى زمن الثورة، عبر رواية روح حرة لرحلة طوافها، بحثاً عن استقرارها في مناخ بعيد عن عقلية القطيع.

- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

أظن أن هناك محدودية بالتسويق، يفرضها تدني نسبة القراء في العالم العربي، وعدم توفير دعم رسمي كافي لتسويق الرواية، وإن كان هناك جهود كبيرة بالمقابل، تحاول إيجاد السوق عبر خلق المعارض على امتدادات دول عدة عربية، وخلق التحفيز عبر منح الجوائز للروايات الأفضل، ويبقى في النهاية انفتاح السوق الخارجي ونشر الرواية العربية وترجمتها للتفاعل العالمي، هو الحل التسويقي المكمل، الذي يعيد تدوير الرواية وتقديمها بشكل متجدد إلى جمهورها العربي، المتأثر حكماً بهيمنة الدعاية والإعلام على الجميع.

- هل تحدّثيننا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

في روايتي الأولى (مذكرات روح منحوسة) تجسدت الشرارة بفكرة البحث عن مواصفات روح هائمة، تطوف بحثاً عن تجسيد ذاتها الحرة، في أزمنة يصعب العيش فيها، لذا تجسدت الشرارة في فكرة الروح الحرة الطليقة.  لكنها تتجسد بجسد كائنٍ هش فصامي، يستشعر نفسه دودة أحياناً، في زمن تمخض عنه أسوأ شروط لحياة البشر. يدفع حتى بلغة الرواية أن تنطق بحسب تداعيات مرض بطلها، إذ تدفعه إما لكتابة مذكراته بالفصحى أو بالعامية، بحسب تدهور مرضه الذي يعيق تركيزه، رغم تمكنه من اللغة بحكم مهنته كناقد. لكني أجلت كتابة الرواية سنوات، إلى ما بعد اندلاع الثورة، لأن التعبير عن فكرة كهذه وعالم الخوف من الاستبداد وقمع الحريات الذي مسخ حياة تلك الروح إلى الشعور بدونية دودة، لم يمكن ليتحقق دون هامش كبير من الحرية، وهو ما منحته الثورة السورية لي عبر انتمائي إليها وكسري لحاجز الخوف، كما منحتني النهاية المنشودة لروايتي.

أما روايتي (الجنون طليقاً) فقد أتت الشرارة من ذكرى لمكان صورت فيه فيلمي الروائي الطويل (هوى) المقتبس عن رواية لهيفاء بيطار، وهو مشفى الأمراض العقلية بدمشق، كبديل للمشفى الوطني الذي يعجّ بالفساد بحسب أحداث الفيلم. كانت الشرارة التي أبحث عنها لتجسيد واقع سوريا الآن، في ظل حرب لا تبقي ولا تذر.

- إلى أيّ درجة تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

رغم أهمية دور الجوائز في تحفيز الروائيين على الكتابة في عالم لا يقرأ، وفي نشرها وتوزيعها وحتى ترجمتها لتصل صوتنا للعالم الخارجي. لكنها للأسف، قد تلعب أحياناً دوراً مضراً يفقدها مصداقيتها، حين يتم اختيار أسماء فاقدة للمصداقية للتحكيم، أو حين يتم تكريس الأسماء المعروفة أدبياً، بغض النظر عن مستوى ما يقدمونه من جديد، على حساب مبدعين حقيقيين، لكن مهمشين لا يعرفون كيف يسوقون أنفسهم. ويتم أحياناً استبعاد روايات قبل البدء بالمسابقة - كما سبق وحدث - رغم إثبات أنه قد تم تسجيلها فعلاً في المسابقة، مما قد يجعل من بريق الجوائز وهماً أكثر منه معيار لقيمة الروايات الحقيقي.

- كيف تجدين واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

رغم كونه محركاً للتبادل الثقافي وهاماً جداً، يطلق الطاقات العربية الإبداعية إلى عالم أرحب، لكنه متعثر بسبب عدم توفر جهات عربية، تدعم الترجمة كسياسة للدول تحفز الثقافة والمكانة الثقافية للدول والشعوب، عبر تمويل عملية الترجمة وتوفير الترويج التسويقي المناسب، وليس فقط عبر مبادرات محدودة شخصية، أو الاكتفاء بالروايات الحاصلة على جوائز، لا تغطي حجم الروايات الهامة الجديرة بالترجمة. بما يفتح باب الانتشار خارجياً للرواية العربية، التي قد تلاقي الإقبال نظراً لحاجة القراء في كل أرجاء العالم للتعرف على ما هو مختلف عنهم، لكن ذلك لن يحدث دون تمويل وترويج كافيين. دون انتظار حاجة سوق الخارج ومعاييره التجارية المختلفة ربما عن معايير نجاح الرواية في بيئتها، أو عند القراء الأجانب الشغوفين باكتشاف عوالم يجهلونها، لاسيما حول عالم الحروب والأزمات العربية كنتاج روائي مغرٍ ومشوق. وكذلك لعدم وجود معايير للترجمة محددة أصلاً، إما بمقياس مستوى الرواية الأدبي أو اللغوي الصرف، أو شهرة الرواية في بيئتها المحلية، أو بتفوق مبيعاتها، أو الجوائز التي حصدتها. أو ربما تكون المعايير بحد ذاتها عائقاً مقيداً لحرية الإبداع، إن لم تكن نتيجة خبرة وتحديدات متخصصين، أو تفتقر لخطة مدروسة وتعتمد معايير المزاج الشخصي والعلاقات الخاصة.

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعرين بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية؟ وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

عانيت منها قبل بدئي بكتابة الرواية، لذا كنت أؤجل الإقلاع في الرواية، وأكتفي بكتابة السيناريوهات لأفلامي السينمائية، التي تتيح لي الالتفاف على الرقابة عبر إيحاءات الصورة للبوح بالكثير من المحظورات. لكني مع انتمائي للثورة السورية حطمت جزءاً كبيراً من سلطة تلك الرقابات، التي تجذرت لتصبح رقابة ذاتية. وبدءاً من روايتي الأولى تطرقت للكثير من تلك المحرمات، دون حساب لنتائج ذلك على تقبل الرواية، الذي لمست بعضه حتى من إحدى دور النشر التي أحبت الرواية وقررت نشرها، لكنها طلبت إلغاء الخط المتعلق بإحدى المحرمات فانسحبت. وأخريات تردّدن، إما لوجود مكتب مفتوح لهم في دمشق، أو خوفاً من خسارة سوقها بسبب جرأة الطرح. لذا فضلت طباعتها بمصر كسوق منفتح مكتفٍ بذاته. ومازال أمام كلٍ منا بقايا رقيب صغير قابع في الأعماق، ينتظر إما القضاء عليه نهائياً، أو إطلاقه من قمقمه كمارد يطلق معه حرياتنا ورغباتنا في التعبير عن دواخلنا، تجييراً لخدمة الإبداع ذاته. إذ لا يمكن التعايش بين الرقابة والإبداع، أحدهما سينسف الآخر، والأجدى نسف جميع السلطات الرقابية كشرط أساسي للإبداع، وإن نمّى وجودها السابق لدينا المحفزات الإبداعية لاختراع البديل، ودفع الإبداع إلى تحدٍ دائم لذاته لخلق شروط وجوده بالشكل الأمثل.

- ما هي رسالتك لقرّائك؟

- الرواية ليست فقط حكاية تروى، بل عالم سحري جامح، منغمس في صياغة الحياة والواقع والمعرفة والجمال والخيال، يجسد الحلم والرؤية المعرفية معاً، وإلا لتحول إلى مجرد سفسطة أو ثرثرة إن لم يجمع بين المتعة والفائدة معاً. الرواية تستوعب كل الفنون دون أن تحجب خصوصيتها أو تحطم بنيانها. هي وسيلة تواصل لن تتمكن الصورة والفنون الأخرى من إلغائها، بل ستستند إلى سحر لغتها وتعبير كلماتها الطافية في فضاءات تتجاوز خيالات الكاتب إلى خيالات القراء اللامحدودة، تعجز أي صورة عن الإلمام بكل ما تطفح به الروايات الإبداعية عادة، من خيالات منفلتة لا حدود تؤطرها كما تتأطر الصورة برؤية المخرج المحددة الأبعاد والصوت والإيحاء، مهما اختزل الكلمات بإطلاق مخيلة الصورة، لكنه يؤطر تعابير كلماتها الطافية ضمن حدود صور مخيلته الفردية. لذا الرواية لن تموت إلا بموت الخيال. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم