أطل علينا بعين مراقب ترصد وتحلل الأحداث، تترجمها في صورة حكايات، وتمنح شخوصها الحياة، فتعبر عن هموم ومخاوف جيل من المجتمع العربي كله. جبور الدويهي، من مواليد زغرتا، شمال لبنان، 1949. حائز على إجازة في الأدب الفرنسي من كلية التربية في بيروت وعلى دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة (السوربون الجديدة).

> حصلت على جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة عن رواية «اعتدال الخريف» عام 1995، كما رشحت للبوكر العربية مرتين ... ماذا تمثل الجوائز بالنسبة إليك؟ وهل تعتبر إضافة حقيقية للكاتب وللعمل؟ - الجوائز، كما النقد والتوزيع، جزء من المشهد الأدبي، ولا شك في أنها تساهم في جعل بعض الأعمال مرئية أكثر من غيرها وتصيب الطامح لنيلها بغصّة غير مستحبة ويدور الاتهام بأن الجوائز تخضع لعلاقات الصداقة وللتمييز. وهذا ربما يكون صحيحاً، لكن الجوائز لا يمكنها أن تعطي أكثر مما تعلن، أي اختيار عنوان أو أكثر في موسم معيّن بين مجموعة من المرشحين ومن قِبل لجنة لها توجهاتها وكما في جميع البلدان حيث للجوائز تاريخ طويل أكثر مما هي عليه في العالم العربي، لا يوثر أي اختيار على أهمية العمل وديمومته. فبعض الكتب يتوّج ثم يسقط في النسيان والعكس صحيح. في ما يخصني أكون سعيداً للحصول على جائزة، لكن هذا لا يحول دون شعوري الدائم بالوجل والخشية أمام أي عمل كتابي أقدم عليه. > رسمت خطوط روايتك الأخيرة «حي الأميركان» بعناية فائقة، عن مدينة يحيطها الفقر، والجهل، كما نقلت لنا صورة عن مبانيها، وسبل العيش بها... هل يمكننا اعتبار المكان هو البطل الحقيقي للرواية؟ - أذكر جيداً كيف أن فكرة كتابة هذه الرواية بدأت معي بحشرية تجاه الحياة اليومية في أحد الأحياء الفقيرة في مدينة طرابلس التي ارتادها يومياً، وهو حيّ جاور مدرسة الفرير التي أمضيت فيها سنوات دراستي الابتدائية والثانوية. حيّ من الأدراج النازلة إلى النهر لا تدخله السيارات مقابل القلعة الصليبية الدهرية وتردد اسمه في بعض أحداث العنف التي عصفت بالمدينة في حقبات مختلفة. وأنا لا أكتب إلا عن الأمكنة التي أعرفها جيداً، فحاولتُ رسم صورة مدينة بأكملها في مختلف فصولها وأحوالها. لكن مصائر الأشخاص هي عصب الرواية، يصنعون الأحداث، يتفاعلون معها ويكتبون الحياة. > على خلفية هذه المدينة التي قد جمعت ألواناً مختلفة من الصراعات والحروب، هل يمكننا أن نضعها بمثابة نموذج أو رمز لما يحدث في العالم العربي؟ - بالطبع، أن تساكن الفقر والتهميش الاجتماعي مع دعوات جهادية إسلامية، بات يشكل مشهداً نموذجياً يمكن معاينته في الكثير من المدن وحتى في ضواحي بعض المدن الأوروبية. كما أن طرابلس تختزل بتاريخها الحديث حقبات عاشها العالم العربي وكانت في الفيحاء دائماً أصداء لها، فالمدينة كانت تواكب كل ما يحدث وكانت جاهزة للتعبير والتظاهر مع فوزي القاوقجي قائد جيش الانقاذ الفلسطيني، ودعماً لثورة الجزائر واستنكاراً لاستقالة جمال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران 1967 وعاشت على التوالي النزعة العربية مع الأمير فيصل إثر سقوط الامبراطورية العثمانية، العروبة الناصرية وصعود حزب البعث، التعبئة حول الثورة الفلسطينية والدعوات الإسلامية. > أضفت للجهادي – إسماعيل بلال - بُعداً إنسانياً لرفضه تفجير الحافلة... ما تفسيرك لذلك؟ - كان يصعب عليّ التعامل مع مرشّح لعملية انتحارية إن كان سوف ينفّذ بدقّة ما يطلب منه من تفجير لنفسه ولركّاب حافلة لا يعرفهم، فالتردد هو لحظة الإنسانية، وربما اخترتُ شاباً غير معدّ كفاية لأنه أُرسل إلى العراق على وجه السرعة، فلو لم أخطط سلفاً لتراجعه لما كنت جعلتُ منه شخصيتي الرئيسية، علماً أن زملاء له يفجرون أنفسهم بالأهداف المختارة ويصنعون الفارق معه. > رواياتك تتبع تيار «الرواية العربية الحديثة» من ميل للاغتراب والتشتت وعدم اليقين، هل هذا مقصود؟ أم أنه نتاج الأحداث الجارية؟ - أحذر عموماً من التعابير والتعريفات ولا أعرف إن كانت هناك رواية عربية حديثة تختلف أنماط كتابتها، عما كان مجرّباً في الأدب الغربي المعاصر والعالم بات مكاناً متصلاً بقوة ويصعب لصق صفات قومية على النتاج الثقافي والأدبي. فأنا مثلاً أقرأ بالفرنسية وأكتب بالعربية وهذا يصنع مزيجاً مفتوحاً، خصوصاً أن الرواية باللغة العربية لم تأتِ امتدداً لتراث كتابي أو شفهي، بل استلّينا هذا النوع واحتمالاته الواقعية والتاريخية والبوليسية والخيال العلمي والفنتازية من ثقافات أخرى، وسعينا إلى جعلها تشبهنا. ويبدو أن الشهيَّة العربية انفتحت أخيراً على الرواية، فنشهد نوعاً من انفجار كتابي في قصص الخيال الأدبي. أما انحسار اليقين والتشتت والبطل المضاد، فهي دخلت الروايات من زمن طويل ولن نقول بعد فرانز كافكا ولويس فردينان سيلين وصموئيل بيكيت والبير كامو، إننا نحقق اكتشافات في هذا الباب. > من رواية «مطر حزيران»، إلى «حي الأميركان»، هل يمكننا تصنيف رواياتك بالتاريخية؟ وهل ترى الروايات التاريخية أفضل توثيق للتاريخ مِن كُتب التاريخ نفسها؟ - الروايات الواقعية كما ازدهرت في الغرب منذ القرن التاسع عشر ولا تزال تلقي نوراً مبهراً على ما عايشته من تاريخ وأحداث ولا شك في أنها تنطوي على ما يعجز التاريخ المتعارف عليه كنوع من تسجيله، والمقصود علاقة الناس بالأحداث وتفاعلهم معها. وبهذا المعنى، فإن الروايات اللبنانية التي اتخذت من الحروب اللبنانية موضوعاً أو خلفية لها هي معين غنيّ لإدراك صراعات الهوية وآليات النزاعات الأهلية وما يرافقها من تخيلات وتفاصيل. > اعتمدت المشاهد البصرية في أعمالك... هل يرجع ذلك لتأثرك بالأسلوب الفرنسي في الكتابة وخصوصاً أعمال فلوبير، أم إنك محب للسينما؟ - الحقيقة أني لما كنتُ أراجع دروسي كنت أتذكر النص كما هو وارد تماماً في صفحات وسطور الكتاب، أي أن ذاكرتي بصرية بامتياز. أمنيتي الوحيدة التي لم أستطع تحقيقها عند خروجي من المرحلة الثانوية كانت التخصص السينمائي الذي لم يكن موجوداً آنذاك في بيروت. وأنت هنا، في الكتابة المرئية، محقة جداً في الإشارة إلى فلوبير الذي يقدم مشاهد وبؤرة نظر تذكّر بقوة بالمشاهد السينمائية التي بدأت بعده بعشرات السنوات. > لماذا تفضل الكتابة باللغة العربية؟ هل نتوقع مشاريع قادمة مكتوبة بلغات أخرى؟ - حاولتُ في البداية كتابة قصص قصيرة باللغة الفرنسية فلم أكن راضياً، كأني استعير وسيلة تعبير أو أحلّ ضيفاً (ثقيلاً) عليها وأدركت بسرعة أن لغتي الأم تسمح لي بمرونة وغنى أكبر فسلكتها كمن يسلك طريقاً تمرّ أمام بيته لكني لم أطلّق الفرنسية التي ما زلت أكتب فيها مقالات ومراجعات كتب وأجد متعة أيضاً في صياغاتها. > حكَّمت في منحة «أفاق»... كيف تقيِّم التجربة؟ هل تخلق الورش كاتباً جيداً؟ - لا أحد يمكنه صنع كاتب، ورش الكتابة، مثل الجوائز، تعتمد على ما تصنعه فيها ولا بد أنها تنقل تجارب الكتابة وتفيد المشاركين حيث يحظى كل منهم بعدد من القرّاء المنتبهين الصارمين يساعدونه في أخذ مسافة مع نصوصه ومراجعتها واختيار أسلوبه الموافق لطبعه الروائي. وهذا ما لن يحصل له إلا في ما ندر لولا ورش الكتابة. ويجب ألاّ تُفهم هذه الورش على أنها تلقين لفن الكتابة بقدر ما هي تؤمن مناخاً إيجابياً للتبادل والتجريب. وأنا كمنسّق أبقي مداخلاتي في إطار عام يفتح أبواباً، ولا أعطي دروساً لا أملكها ولا أدعي امتلاكها. > ما هو دور الأدب في مواجهة الحروب على مختلف الأصعدة؟ - الأدب شهادة ضد الحروب ومؤشر على ضراوتها وتفاهتها في آن.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم