"إن صففت شعري ومشطته ووضعت الروائح الطيبة فيه استعدادًا للنوم مساء، صرخوا بأنني عرضة لمس الجن الذي يخشون أن يعشقني.. إذا نبح الكلب فقد رأى شيطانًا، وإن نهق الحمار وظهر القط في المساء فالشيطان ملتبس به، ولم ينج من التباس الشيطان هذا سوى كائنين، الديك الذي إذا صاح فإنه قد رأى ملكًا، والعنكبوت المبارك".. الشيطان لا يخاف إلا من الذئب، آخر الكائنات هلاكًا من المنظور الديني "علمت فيما بعد بأن جدتي تعلق قطعة صغيرة من جلد الذئب في غرفتها لتحمي بيتها من شرور الشياطين."

صراع بين الحداثة والتخلف، العصرنة والقديم، التمرد والخضوع، محاولة انعتاق الفرد من قيود الجماعة والعادات البالية والتقاليد المرتبطة بالخرافة، في حقبة زمنية صاخبة، سواء على الصعيد المحلي أو في المحيط العربي، مع تصاعد تيار العروبة بشكل قوي في الستينات، وما صاحب هذه الفترة من انفتاح على العالم، مع استقلال الكثير من الدول، ومحاولة تكوين هوية واضحة تجاري التطور، ولا تنغلق حول نفسها.. حياة "روزة" هي سقوط بين هذه المتناقضات، حيث تسرد "ريم الكمالي" يوميات بطلتها، لتحكي عن وضع المرأة في الإمارات الخليجية قبل الاتحاد، حيث توثق لتاريخ من القهر، والاستغلال لدبي والشارقة أو حتى المرأة، كمدلول لا يتجزأ، أن أوضاع المرأة لا تنفصم عراها عن وضع المجتمع، وهي مؤشر واضح لمدى تطوره من عدمه!


تاريخ من الاستغلال للخليج:

تم استباحة موارد الخليج في قرون عديدة، سواءً قبل اكتشاف النفط في أراضيها أو بعد ذلك.. فمنذ أن حط البرتغاليون بسفنهم على سواحل الخليج، وقد صارت المنطقة محل نظر قوى الاستعمار.. تقول روزة عن شركة الهند الشرقية: "فمن احتلنا ليس الإنجليز، بل شركة لها جيش من جند وحشد وبحرية من سفائن وسلطة عسكرية، شركة تخفي حقائقها الأكثر شرًا بفروعها من الخليج إلى الهند ومدن شرق آسيا، احتكرت يومًا تجارتنا انتزاعًا لا منافسة، تجارتنا وموانئنا أخذ يتصارع عليها الإنجليز والهولنديون بعد ركلهم للبرتغاليين".. وهذا الاستغلال لم يتوقف عند هذه النقطة، فإيران في عصر الشاه رضا بهلوي أو ابنه قد نهبوا من الإمارات جزر مثل (هنجام- طنب الكبرى- طنب الصغرى- أبو موسى).. فمنطقة الخليج مطمع منذ زمن طويل، وهذا ما يفسر الحرص الدائم على محاولات ضمان الحماية وتوفير الأمن من المجتمع الدولي حتى لا يتم هدم ما وصلت إليه هذه الدول، خاصة الإمارات، وقد صارت أنموذجًا عصريًا للدولة المتطورة على كافة الأصعدة.. "فالعبرة اليوم ليست بالسيطرة على المساحات الشاسعة وإهمالها، بل بتشغيلها وإن كانت صغيرة."


نصيحة عميد الأدب العربي لروزه:

طه حسين زارني في الحلم وقال: "اكتبي يا روزه، اكتبي ولا تكوني سوى نفسك".. فالكتابة فعل وجود وحياة، حيث تتحقق فيها الذات، من خلال التعبير عنها أو خلق عالم آخر حسب رؤيتها، أو التفريغ الداخلي وإعادة بناء وتشكيل الواقع على الورق.. رغم ذلك، فنفس "روزه" مرت بالكثير من الصراعات سواءً على الصعيد النفسي أو الاجتماعي، أو الوجودي.. "فمنذ أن كنت طالبة في صفي المتوسط، فقد تم تتويجي بلقب تشريفي (روزه ملكة الأدب) ثم كان ذلك علنًا وبيانًا وفخرًا في صفي الثانوي (روزه أديبة المدرسة) أما اليوم وبوصفي فرعًا أنثويًا منتهيًا في بيت والدي، أنال كنية (ابنة التجار) وغدًا بعد زواج وإنجاب سأكنى بـ (أم فلان) وتمضي بي الألقاب من المعلوم إلى المجهول.".. فروزه بعد وفاة والديها تغير مصيرها، حيث انتقلت من فتاة كان يجدر بها إكمال تعليمها الجامعي والدراسات العليا لتواكب الصحوة العربية وتوثق أحوال السلف إلى فتاة صامتة، حبيسة، أسيرة للعادات، لأن خطيئتها أنها أنثى.. "أنا الآن لا أفعل سوى الكتابة ومحوها، بوصفي حرمة، والتوثيق مهمة الرجال!".. ومع ذلك تكتب.. تكتب حتى تتشبث بالحياة.


خرافات الجدة كتعبير عن خليج البداوة:

تعتبر شخصية الجدة هي الأكثر تعبيرًا عن وضع الإمارات الخليجية قبل الحداثة خاصة دبي والشارقة، فالنصائح التي تقدمها الجدة لحفيدتها لا تكشف عن وضع المرأة فقط، وإنما عن مدى وعي وإدراك وتفكير وعلم وتراث المجتمع ككل، فالمرأة دومًا مرآة المجتمع..

من ضمن هذه الخرافات مثلا:

عن شرب القهوة مثلًا: "إما أن نتوقف عند الفنجان الثاني أو الرابع، أما التوقف عند الثالث فدلالته الطلاق ثلاث طلقات، وبالتالي الفراق"

"لا أحد يشرب القهوة أيام الجمع، فالله وحده الشافي في يومه المبارك، وعلينا ألا نتجاوز الله في الشفاء بأدوية من صنع المخلوق"

وعن دلق القهوة: "ثمة رزق بحجم ضئيل، فبقعة القهوة صغيرة"

"لا تنسي أن تقلبي الكأس بعد الشرب، كي لا تسكنها الأرواح، حينها لن تنهضي من النوم"

"أنتِ محسودة يا ابنتي، تتثاءبين كثيرًا، وأعتقد أن هذا ما يؤخر زواجك"

"القمر إذا خسف فقد أكله الحوت"

"أطيلي شعرك القصير هذا حتى يستر الله عليك يوم القيامة وغيري مفرق خط الشعر من اليسار إلى الأمام، فهو خط العدالة والاستقامة.. اليسار هذا لا يجلب إلا الحظ السيء."

وهذه النصائح وأكثر رغم غرابتها كانت متأصلة في عقل ووجدان ووعي الخليج.. حيث أنها كانت بمثابة بديهيات لا يمكن المساس بها، وفي ظل مجتمع يهون من شأن العلم ويحتقر التفكير النقدي تنتشر الخرافة.. ويتم قتل الفردانية لحساب القبيلة/ العائلة.. حيث أنها هي الحاكمة المستبدة، التي تربط جميع أفرادها بمصيرها، ويبقى الفرد خاضع في إطار دائرة مغلقة من النمطية يصعب تجاوزها، فكل سلوك أو ملبس أو فعل أو حتى قصة شعر لها تأويل خاص مرتبط في الغالب بالماورائيات، حتى يكون قادرًا على الاستمرار والتأثير والوقوف في وجه محاولات العقل في الاعتراض بعد تحليل وتدقيق للخرافة.. لكن الروح القبلية سيطرت، والغريب بالنسبة لي يتمثل في سرعة الانتفاضة والتحرر والانعتاق من إرث الجهل إلى العلم والألق والتوهج، حتى أن دبي حاليًا من أجمل مدن العالم، وأكثرها حداثة، ربما تجربة الإمارات لابد وأن تدرس في الدول العربية وتكون نموذجًا ملهمًا للتطور والتحديث، سيقول البعض أن الإجابة في المال، وأنا أقول إنها فن الإدارة..

بالإضافة لروح التسامح والانفتاح على الآخر: "فمن أراد الصلاة فهناك مسجد، ومن أراد الخمرة فهناك فندق، والاختيار لكم".. كتأكيد على أن الإنسان ليس مرغمًا على عمل الصواب أو الخطأ، فهو حر في اختياراته، بالإضافة أن ترخيص الخمر أنعش السياحة وأطال فترة مكوث السائح في الفنادق، مما انعكس على الدخل الوافد للدولة، مثلما عمل أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" وحصل ضريبة العشر على الخمور!


الحب مرة أخرى:

أعتقد أن تعولينا على الحب وإعطاءه أكبر من حجمه يفسد في كثير من الأحيان، خاصة وأن الحب والزواج ارتبطا في الغالب بمفهوم الوصول للسعادة الخالصة، الحلم الأكبر، الاستقرار الأخير، تكملة نصف الدين، كل المدلولات التي تجعله بمثابة المسيح المخلص من الشرور والآلام.. ربما ما يعيب الشرقي هو نظرته الخيالية المثالية للحب خاصة قبل القرن الحادي والعشرين، وهذه المرة "روزه" العائشة في سجن العائلة، مع موت الوالدين، ورحيل الجد "الشاعر" الحكيم، وبقاءها محاصرة بين فكي العم والجدة، تجد حبيبها ذو العين الواحدة، استقرت نظرته في قلبها فانتعشت روحها، كان شقيق زوجة عمها، لكنه يحمل عقلًا كبيرًا، حين قرأ يومياتها حذف الهاء وتركها "يوميات روز" خوفًا عليها من العائلة.. "فليس كالعشاق معشر تمنحهم الحياة تجربة السلام كاملة، يحلقون بأجنحة ثملة.. ليصمتوا صمت الأنبياء، ويصبروا صبر الأولين"

عندما يموت في ليلة الزفاف، فإن تعلق المجتمع بالخرافة أصابها في مقتل، يتم وصفها بالنحس، لتتراكم على أكتافها الأحمال، فالمجتمع هنا يمارس قهره على الطرف الأضعف رغم أنه صاحب الجرح الأكبر!.. "أبقى حبيسة العدة بعد موته، ممنوعة من الخروج أمام الغرباء، ومن الوقوف مكشوفة الشعر في فناء بيتي، حتى في المساء أمام القمر بوصفه ذكرًا لا يسمح لي بالمثول بين يديه، مع نصائح بعدم النظر إلى المرآة التي تعكس حزني وجمالي كي لا أتحسر.. وبعد هذا التاريخ اللاهي.. شعرت كيف بدأت الأمنيات تذبل أمامي".. وبدا أن فكرة الخلاص ربما في شخصية سعيد.. الكافر المجنون!

الجنون حين يكون سبيلًا للحرية:

سعيد الذي أحب امرأة طليقة في مشيتها كالفرس، بلونها الوردي المختلط بالسمرة، تدلل نفسها، وتملأ روحها البشاشة، وتبحث عن السخرية والعجب والضحك، وبعد الزواج والحياة الوردية كانت المشكلة الحقيقية في تأخر الإنجاب، مما جعل سعيد يسعى في تجارته ويلف البلاد ليجمع المال حتى يذهب بامرأته إلى الهند حيث الحلول السحرية، ومع استمرار الغياب تطفو الرغبة ويتوحش شعور الاحتياج.. تجد المرأة رجلًا آخر، وتبتكر حيلة غريبة، تصعد النخلة، ثم تصرخ إنها تراه يضاجع امرأة، وحين تهبط لا تجد شيئاً، حتى طلبت منه العكس، وأحضرت عشيقها وفعل معها ذلك، نظر سعيد من أعلى ضاحكًا وقال: "حقًا! إن من يصعد النخيل، يرى الناس بعضهم فوق بعض"

حين هرب العاشقين، اختل عقله، يسرح بين المنازل، لا يردد سوى كلمات مبهمة "مشتاق لها"، "عودي ولن أصعد" "ليتني لم أصعد" "أنا الله في صعودي".. كدلالة على فكرة العلو نفسها ورؤية الخلق من أعلى، والناس نعتوه بسعيد الكافر والمجنون.. وربما هذه التركيبة البشرية تعلقت بالجنون لتعبر بحرية عن أشد لحظات السسخط والتمرد دون عقاب، سواء النقمة على المجتمع أو لوم الإله، بالإضافة ربما كنوع من الهروب من العقل حتى لا يعاير كرجل خانته زوجته، بما يمثل نوعًا من المعايرة والتقليل من كفاءة الرجل الجنسية خاصة في مجتمع قبلي.. وهذا هو الاختلاف بين حالة سعيد وروزه، فالأول قرر الصراخ، والآخر تعلق بالصمت.


اغتراب وزوج عجوز:

فالزمن "طاب له العيش في زوجي حتى أصبح هو والزمان سيان، يخوضا الحروب سويًا بين لعبة الانهزام ومزحة الانتصار".. فالمرأة في مجتمع كهذا ليس لها إرادة، كالمتاع يورث أو يباع، فالعم المتحكم في مصيرها زوجها لرجل عجوز كصفقة تجارية، ومع ذلك كانت الكتابة هي وسيلة التنفيس، وربما أرادت الكاتبة التعبير عن الوطن من خلال البطلة، حيث أن الوطن عندما اقترب من الشيخوخة حدث البعث الجديد وتولد منها الجنين، حتى وصل لذروة الشباب كحياة أي كائن حي.


صعوبة اللغة:

الرواية التي صدرت عن دار الآداب ووصلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2022م أثارت الكثير من الانتقادات وفي اعتقادي أن بعضها في محله، والبعض الآخر مبالغ فيه.. فمن وجهة نظري أن نقاط ضعف الرواية تمثلت أحيانًا في صعوبة اللغة خاصة أنه في بعض الصفحات كانت هنالك مصطلحات وكلمات معقدة قد لا تفهم منها أي شيء مثل صفحة 80 مثلًا.. بالإضافة لتسطيح شخصية العم بشكل مبالغ فيه رغم كونه محركًا قويًا للأحداث، أيضًا ضعف الإيقاع في الرواية وعدم تماسك البناء والحبكة بشكل قوي تسببا في الكثير من الامتعاض لدى القارئ.

لكن ما أعتقده أيضًا أن الرواية اتسمت بفرادة الموضوع، خاصة في تناول تاريخ الإمارات الخليجية قبل الاتحاد، والتعمق في العادات والأمثال والمعتقدات الشعبية لدى الناس من خلال شخصية الجدة على وجه الخصوص، ومجالس العم..

وتبقى الرواية لها ما لها وعليها ما عليها، لكنها في النهاية تبشر بكاتبة متميزة لها أسلوبها الخاص.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في النهاية.. هل كانت روزه في حلم أم واقع؟ لا أستطيع الجزم!

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم