(ما هو تاريخ أمريكا اللاتينية إذا لم يكن مجموعة من أحداث الواقع الخرافي) 

الروائي الكوبي إليخو كاربنتير

يعتبر انطونيو سكارميتا المولود في انتوفاجستا في تشيلي عام 1940، الى جانب ادواردو غالينو وايزابيل الليندي، الجيل الأول من الكتّاب بعد رواد الواقعية السحرية، غارسيا ماركيز وفارغاس يوسا وكارلوس فوينتس وقبلهم بورخيس، هذا الجيل الذي تمكن من ان يجد له مكانا وسط  اولئك الآباء المؤسسين. وهو ماعناهُ انطونيو سكارميتا بقوله (كانت الواقعية السحرية حفلة رقصنا فيها جميعا).

أصدرسكارميتا مجموعات قصصية "الحماس" 1967 و"عارية على السطح" 1969 وبعد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس اليساري المنتخب سلفادور الليندي سنة 1973.غادر سكارميتا البلاد الى الارجنتين، ملاذا له من بطش حكومة الجنرال بينوشيه الفاشية، ليستقر بعدها في برلين الغربية  للسنوات 1975- 1989.

كتب العديد من السينايوهات لافلام اوربية ناجحة. وعديد من الروايات:( حلمت ان الثلج يحترق 1975 و" ولم يحدث شيء"عام 1980 و" التمرد عام 1980 و"الصبر يحترق 1985 او"ساعي بريد نيرودا" التي حولها الى فيلم سينمائي. ومثلها"أب سينمائي"، وفي عام  1989عاد الى بلاده  فصدرت له  مجموعة "واحد تلو الاخر 1995، ورواية عرس الشاعر 1999،ورواية فتاة الترومبو 2001 وغيرها. ترجمت اعماله الى اكثر من عشرين لغة حول العالم. 

وتكشف لنا "الخاتمة" مابعد الفصل الاربعين لرواية "عرس الشاعر" ان الرواية ماهي الا سيرة جدّ الكاتب انطونيو سكارميتا ممثلا بـ"استيبان كوبيتا" الذي هاجرموطنه في "جيما" احدى قرى جزيرة ماليسيا،الواقعة بين ايطاليا واليونان، مع مجموعة الشباب. الذين نفذوا عملية قتل الجنود النمساويين الغزاة، واستقروا في تشيلي.

تتمحور احداث الرواية حول ( حكايات) ثلاث هي: حادثتي زفاف تفصل أوّلاهما عن الاخرى عشرون عاما، والثالثة هي عملية (قتل الجنود النمساويين دفاعا عن الوطن)عشية ليلة العرس الاخيرة. الاّ ان كل تلك الحكايات ستُنهي مصائر ابطالها بشكل مأساوي: الغياب الغامض لـ "ستاموس" وهوالمالك الاول للمتجر، ووفاة عروسته" مارتا ماتاراسو" في ليلة عرسها، وانتحار العريس (جيرينيمو) المالك الثاني للمتجر وهو ابن لمصرفي ثري نمساوي مهاجر ومقيم في الجزيرة، واغتصاب عروسه "اليا ايمار" من قبل الجنود الغزاة، الذين وصلوا الى شاطيء الجزيرة في ليلة الزفاف، ماحدا بثلة الشباب الذين نفذوا عملية القتل الهروب الى تشيلي، على متن سفينة صادروها عنوة كانت معدة لرحيل العروسين. خلاصا من بطش الجيش النمساوي، حتى ليخيّل ان تلك الجزيرة التي كانت تضج بصخب الحياة، باتت  صموتة مهجورة، الا من بقايا الحكايات التي تماثلت مع ثوبي العروستين الممزقين والمضرجين بالدماء.

جيرنيمو: (أليس هناك من يقرع الناقوس؟)

الجنرال النمساوي :لا توهم نفسك، فالجميع غادروا القرية، بمن في ذلك الخوري)ص249

ولتشكيل ثيمة نصه السردي، آثر انطونيو سكارميتا ما ترشح من تلك الحكايات التي كانت قد ركدت على شكل صور ولغة تحت ركام النسيان واهمال الذاكرة، والتي هي ليست عالما تجريديا بحتا، بل تنطوي على ذلك المحتوى الحي الثري قدرَ تعالقها بالامكنة والشخصيات، وبتفاصيل الحياة اليومية بما فيها اللحظات التافهة والمبتذلة منها بالاضافة الى وقائع تاريخية شاء الروائي زمنها قبيل نشوب الحرب العالمية الاولى، وقد صار بامكان الكاتب احيائها، عبر فاعلية اللغة، التي سوف لن تبقيها مستترة خلف حجابات الزمن، فـ (التاريخ غير المكتوب لا وجود له، إنه حصيلة ذكريات خاصة) ص146، وقد منحتها مخيلة الكاتب واسلوبه السردي، بعباراته المكثفة، وماضمنّه من القصائد والاغاني التي تصاحب الرقصات الشعبية بحركاتها الايروتيكية، والحوارات القصيرة، التي تتقاطع معه، خاصيةَ التحليق الى ارتفاعات متباينة في فضاء النص، ثم ما تلبث ان تعود الى واقعها وقد تعالقت حسيا معه عبر نطاقها الجمالي المغاير، ليغذّ الكاتبُ السفرَ بعالمه السردي المتحقق، المفارق، الخيالي، موازيا للواقعي، ومنفتحا على تقنيات الواقعية السحرية، واذ تمكن الكاتب من ذلك، فانه يكون قد مهد للمتلقي ادراك امكانية تحقيق تلك الوقائع والاحساس بجمال الحياة في المتن السردي ذاته الذي ارتكز على الزمن (الشاسع) لجزيرة "جيما" كما دعاه الراوي في اول سطور الروي. وقد اختزل الكاتب ذلك الزمن بيوم واحد، وكأنما ضغطه داخل عبوة صغيرة تفجرت سردا عن حيوات تضج بالحب والكراهية، وآلام الخسارات المأساوية، والحرب والموت، وبالشعر والموسيقى. وبالفكاهة والسخرية. فيما عمد الكاتب لأن يكون عدد صفحات كل فصل من الرواية لا يتجاوز الثمانية تقريبا، لكي لا يستغرق المتلقيَ السردُ المتواصلُ الطويل، الامر الذي جعل ذلك الزمن على شساعته، يفارق تراتبيته الكرونولوجية، محفزا ذهن المتلقي وفضوله لاستباق الاحداث بتكهن وقائعها، وهو يلاحق التتمات المستجدة خلال الفصول باكملها، حتى بدت تلك الحكايات قصصا قصيرة تتنامى احداثها بنهايات مفتوحة على اكثر من احتمال، خلل فصول الرواية وهي تستبق في فضاءها الذي ما انفك  يتسع ما بقي الروي مستمرا.

ويتمسك الكاتب باشتراطات الواقعية السحرية في تخليق شخصيات روايته، القائمة على مبدأ الانزياح عن مرجعياتها الواقعية، لتواصل التعالي حتى ركونها الى فضاءات الغرائبي والمثير في عجائبيتها وتعقيداتها وتناقضاتها. وكمَن أدامَ معها علاقة تعايش طويلة الامد، يكون قد استغرق مليا افكارَها وتفاصيلَ عاداتها، حتى تغدو تجربته معها جزءا من خبرته الشخصية في الحياة، فيستدعيها كعناصر سردية أغنتها ملكته التخييلية وخزينه المعرفي، حيث ستترسم مكتملة خلال سفر السرد بما تنجزه من احداث وفاعليتها بها، فـالشخصية كما يقول فيليب هامون(بناء يقوم النص بتشييده اكثر مما هي معيار مفروض خارج النص)

وقد حلّق الكاتب بمخيلته حرا طليقا، غير آبه بحدود أو عوائق، فالواقعية السحرية تقتضي خيالا خلاقا، ابتغاء تغيير رؤية المتلقي التقليدية الى مجمل محيطه الواقعي، الامر الذي يحدث اضطرابا في نسيج الموجودات والظواهر الواقعية المنتقاة، وهو ينقب فيها مندفعا الى اعماقها الحميمية والاشد سرية والى ابعد من مجرد التوظيف الادائي لها، ليعثر على ضالته في مكامنها على اشكال لا تمت لها بصلة بل هي اقرب ما تكون الى الاحلام، حتى أخرجها عن نطاقها الواقعي الملموس، متجاوزا بها حدود المنطق، متقاطعة مع الاعراف وقوانين الطبيعة، فناقوس كنيسة قرية "جيما" الذي يبدو لناظره اكبر حجما من الكنيسة نفسها ولا يمكن تفسير ذلك الا بمعجزة: (ظل متهدلا حتى الارض المرصوفة.. والذي يزن خمسمئة طن معلقا بخفة فراشة، في برجه الصغير..) و(-: اذا كان لا يستند الى قوانين الفيزياء، فلا بد انه يستند الى قوانين اخرى) ص113 و172

وبذلك، ستتخلق  في المتن السردي وشيجة حميمة بين الواقع والخيال، بين الواقعي والسحري، بين التراجيديا والفكاهة والسخرية، وكذلك تعايشا لازدواجية الشخصيات بتناقض مواقفها، مثل خوري الكنيسة الذي اقترح على التاجر جيرينيمو تزلفا له، ان يفتتح ماخورا، ونيرو كوبيتا قائد عملية قتل الجنود النمساويين، يتخلف عن ساعة الصفر، لاستغراقه في مشاهدة فيلم سينمائي، وقد عطلته رقة خبيئة في اعماقه، لكنه قتل بعدها بصلافة الجندي النمساوي الاخير، وهو اسيره. فيما اخوه الاصغر استيبان رافق  الشبان القتلة متوافقا معهم في استيلائهم على سفينة عرس جيرينيمو بالرغم من تقاطع رؤيته معهم. إذ ذاك يصبح عدم تصديق ذلك كحقائق امرا صعبا بالنسبة للمتلقي، كلما وضعه الكاتب بمواجهه احداث وموجودات تتحدى المنطق عبر الجمع بين الاضداد والمفارقات، فيطالعه واقعا سحريا  ينم عن رؤية مفادها ان العالم الذي خَبَره مألوفا، يزخر هو الاخر بقدر لابأس به من الغرابة. فيما بدا الكاتب وهو يمارس حريته المطلقة في سرده، غير آبهٍ بقناعات المتلقي بواقعيتها  اوعدمها.

حرص الكاتب على وفرة الحوار بين الشخصيات، حدّ هيمنته على  مساحة الروي، باعتباره اجراء اسلوبي له وظيفته البنيوية في مسرحة المشهد الحواري، ويمكننا الاشارة هنا الى الفصل24 من الرواية مثالا على ذلك، الذي انفرد باستعراض اللقاء الاول بين آليا إيمار وباولا فرانك ، حيث لم يتوقف الكاتب هنا وهو يصيغ الجمل الحوارية، وهي قصيرة عموما، عند دلالالتها اللغوية فحسب، بل تجاوزها الى وصف الاداء الصوتي وكاريزما الشخصيتين المتحاورتين وعلاقاتهما ببعضها مفصحا عن ثقافتهما، وبما يوحي استقلاليتهما عنه كخالق لهما، وكأنه هنا أخذ دور السيناريست في اعانة الراوي على توصيف وترسيم المشهد الحواري بكل تفاصيله الدقيقة،بما في ذلك وصف حركة الشخصية التعبيرية وانتقاء العبارات المتناسبة مع طبائعها، والزمان والمكان باكسسواراته، وبذا يكون قد اسهم فعلا في تطور الاحداث وهيكلة الحبكة وتتابع احداثها. كما يكشف ذلك الحوار بين "باولا" شقيقة العريس جيرونيمو و"آليا " في محاولة لثنيها عن الزواج منه، عمقا شفيفا لنقاء روح "آليا" وثقافتها حين تقارن الحب بالموسيقى مثلما تفصح "باولا" عن شخصيتها البيروقراطية المتغطرسة:

تحاورها"آليا":

-: الحبُّ! هذا يعني، كيف لاحدانا ان تعرف متى تحبّ شخصاً حقا؟.. فكّري في الموسيقا، انك تستمعين في البدء الى موزارت ثم موزارت،وعندئذ تشعرين بالسعادة، هذا يعني انك ممتلئةٌ بموزارت... وفي احد الايام تتعرفين الى الخامسة لبيتهوفن، واذا بذاك الذي كان حبا لموزارت...

تردّ باولا:-

-: يتحول الى حب الخامسة لبيتهوفن.

-: لا يا مدام، انك تسمعين بعد ذلك رباعيات بيتهوفن، فيتغلغل حُبُّ بتهوفن في احدانا،هذا يعني إحدانا تخرج من نفسها.. انه الحب أليس كذلك..؟ ص158

وقد انصب اهتمام الكاتب على شخصية "آليا ايمار"  لتكون الشخصية الرئيسية للرواية، الى جانب "استيبان كوبيتا"حيث هيأ لها منذ نشأتها ظواهر فيزيائية واجتماعية، مع بنية نفسية متفردة، تمهيدا لترسيم  شخصيتها بملامح الواقعية السحرية، فمن خلال سرديةٍ ترجمت منولوجها الداخلي، تفتحت عن صور مشهدية مختلفة متلاحقة، توحي بموكب بارانومي ضاجا بالغناء، وبلوحات تشكيلية  قابلة للتأويل، وبتحبيك سردي اتصف بمرونته وصفاءه، من خلال ذلك، تجلى وميض أنار للمتلقي عمق هذه الشخصية المتأملة ومنحها اشراقة سحرية لرؤيتها المنطوية على دلالات ومعاني جمة:

(إنها تعرف كلّ بيت، والكثير من أثاث الصالونات، والشهور المشطوبة في التقاويم، وأسرّة الحديد البيضاء في المستشفى، والشقوق التي في قاعة المدرسة، وحمّامات أشقاء صديقاتها الصغار، وعشّ غربان البحر، والميزان الألمانيّ حيث يزنون في هذه اللحظات بالذات الخبز لكي يوزعوه من بيت إلى بيت على دراجة ذات ثلاث عجلات، وهي تعرف كلّ قائمة الأغاني التي يترنّم بتصفيرها شبّان الساحة، والتوريات التي يوجّهها إليها بالإجماع المعجبون بردفها وكاحليها، والرجال الذين يتحرّقون عارضين عليها لحس صواني أذنيها، بل وكعبيها كذلك، بلعاب مفرقع ومنوي. أتكون هذه الحفنة من الصغائر هي الوطن ؟) ص 88.

وتسأل اليا عشيقها "استيبان كوبيتا":

(-ذكّرني بحدثٍ واحد على الاقل...

-حدثت عند مناولتك الاولى، اجتزتِ يومذاك القرية رفقة والديكِ، وخلفتِ اثرا من الثلج في كل خُطوة.

- ثلجٌ في جيما؟

- ويوم اصابتك الحمى في المستشفىى وبينما كانوا يضعون كمادات جليدية على جبهتك: كنتِ تنظرين من دون ان ترمشي الى الجدار، ورويتِ ماكنتِ ترينه بلغةٍ لم يفهمها احد؟) ص88-89

وان استقطبت شخصية"آليا" شخصيات الرواية كلها بلا استثناء، الا ان شخصية "استيبان كوبيتا" هي فقط من تمكنت النفاذ الى عمق بحيرة روحها الساكنة، تحرك فيها موجياتها لتحدث فيها مايشبه الهدير، ،فلا حفلة الزفاف الكبرى ولا عريسها جرينيمو استطاعا ان يفعلا اكثر مما فعله انسلال الفتى استيبان عشية الزفاف، الى حجرة تزيينها، كأي دخيل:

(تقررالعروس التقدم لكي توجه لكمة الى انفه، لكن شيئا مفرط البهجة في شلال كوبالت اعماق عينيّ الدخيل يكبحها، وتفلت منها ابتسامة زلقةٌ من شفتيها المكتنزتين... وكيف ان الدبابيس المتعبة التي تشدُّ الثوب على الجذع راحت تطفر من القماش ضحية الاضطراب المفاجيء في نَهدي آليا آليمار.. واغمي عليها) ص27-28

ذلك ان لـ (استيبان عينين زرقاوين شديدتي العمق والاتساع، حتى لتبدو ان مُصلّبتين بالكوبالت، وتخلان بتوازن اي شخص يعترض طريقه، وانه يعي مغناطيسية نظرته..)ص24

الا ان شخصية"اليا" بدت لوهلة تعريفنا بها:  صبية ساذجة بريئة، نقية، ينطبق قلبها كمحارة على امال واحلام بسيطة، باحثة عن ذاتها في مجتمع يريد ان يجعلها وهي في طور سحر النضوج كأنثى، اجمل الدمى فحسب، في حين تحدوها الرغبة في ان تكون على سجيتها، تفرغ ما تخبئه دواخلها بسهولة كلما دنت من الشاب "استيبان كوبيتا" فقط،، وهي بالتالي شخصية رقيقة و حساسة جدا،حدّ شعورها انها على وشك الموت، كلما هتكت ذكرى وفاة( مارتا ماتاراسو) العروس السابقة لها ذاكرتها(راودها احساس بأن مارتا ماتاراسو موجودة في الغرفة نفسها، وانها تعرض عليها الفراش المضمخ بالدم ...) ص238، لقد ابحر الكاتب الى عمق تلك الروح رغم شفافيتها، محاذرا هتكها، ليصوغ منها رمزا لوطنها او ان الوطنَ مختزلٌ فيها، تسأل استيبان:

(-: أهذا هو الوطن بالنسبة اليك؟

فقال استيان مباشرة بجدية : هذا ما أظنه.

-: .. فسيكون الوطن حسب ما قلته مختزلا في شخصي المتواضع)ص89

وستردُّ آليا"وهي ترفع ذقنها بكبرياء،على الجنرال النمساوي قائد حملة غزو وطنها، الذي وطىء منزلها ليلة زفافها:

-: أطالبك باحترام بلادي وزوجي أيها القائد)ص247

ولا يختلف كل من "استيبان" و"اليا" في مشاعرهما بشأن وطنهما فـ (بوعي اجتماعي طليعيّ بالنسبة الى ذلك العصر، ذهب لمقابلة الثريّ"دون جيرينمو"، وقال له في وجهه:(انّ الوطنية ليست السفرالى نيويورك للتواقح وراء العاهرات..انما في البقاء هنا وتحمّل مسؤولية محنةِ مواطنيه) ص302

لكن رؤية "استيبان" الفتى العاشق الشاعر، لمحنة وطنه، هي نبذ العنف إذ رفض الانصياع لسلطة اخيه الاكبر"رينو" عندما أمره بقتل اخر الجنود النمساويين، كمساهمةً رمزية منه في الدفاع عن الوطن وتخليدا لاسم ابيهما القائد الاسطوري"كوبيتا" كما حرّر "استيبان" رسالة مؤثرة للجريدة الاسبوعية المقروءة في "جيما"أنهاها بـ ( نداء الرحمة والتآخي بين اهالي الجزيرة جميعهم.. ادت تلك القطعة الادبية الى نتيجة فعالة في الجوّ الخامد للفلاحين، والصيادين، والفوضويين، والمنجمين،وليس هناك عجوزٌ الاّ يصادق على ان ريشة جَدي كانت صاحبة الفضل في فتح الطريق امام جيرينمو للوصول الى الجميلة آليا إيمار..) ص304

غير ان "استيبان" الشاعر الحالم الذي نأى عن صخب الحياة في الجزيرة، اكتشف متاخرا شدة حبه لـ "آليا ايمار"مكتوما في دواخله، وادرك دورانه حول فلكها دون النفاذ اليه، وهو الذي هرب مع اقرانه الشباب، تاركا وطنه "جيما" لقدره!، فأنهى حياته في الرحيل الى منفاه" تشيلي"، فيما اختار اخوه نيويورك كمنفى. ويلخص حوارهما رؤية "استيبان" مخاطبا اخيه:

(-: آليا إيمار رأت شيئا في اعماق هذين العينين. لقد كانت رحلة انطلقنا بها معا. طريق اعظم بكثير من هذا الذي قطعناه. كل شيء كان يمضي على مايرام الى ان خربته انت باغتيالاتك القذرة، ودمائك الفائرة) وان (الشيء الوحيد الذي أملكه أنا هو الألم، وهذا الدفتر الذي أجمعُ فيه أشعاراً من لا شيء، مجرد كلمات) ص288 و292

وتلك العبارات هي التي ترجمت  فلسفته في الحياة، وموقفه من(الحرب) التي تسببت في هزيمة بلاده وهزيمته الشخصية وخذلانه لوطنه ولنفسه ولحبيبته"اليا" اذ ترك خلفه في بلده، ما لايمكن العودة اليه و استحالة استعادته بعد. اذ زُوّرت الوثائق التي تثبت، هروب اولئك الشبان، لتجعل منهم قتلى الجيش النمساويّ كي يكسب قائد الغزو مجدا زائفا، ولا (يبقى لهم ما يملكون من العالم سوى هوية المنكوبين باللجوء، والهاربين من بلادٍ لم تعد موجودة سوى في مخيلاتهم).

لم يرغب سكارميتا ان تكون روايته هذه ساخرة بحد ذاتها، لكنه كان جادا في منح النص جرعات من الفكاهة والسخرية باعتبارهما قيمة ادبية لتطعيم فضاءات المأساة والخيبات بهما، فعبارات الفكاهة تردُ مثل دعابة ظرفية تعترض مسارات الدراما والتراجيديا كلما تصاعدت وتيرتها، وقبل تفاقم انفعال المتلقي حزنا وتألما، وذا ما يؤهل النص الى التماهي مع الحياة الواقعية، فالرواية هي الحياة، بأوجهها المهشمة والمتنافرة، وما يترسخ في الذاكرة من النص الساخر هو المشهد الذي يعبر عن واقع متخيل يمَكّن متلقيه مقارنته بالواقعي المعيش، ليكتشف حقيقته وعبثيته، وبهذا يكون الكاتب قد عمد إلى إشراك المتلقي في تشكيل دلالة ما يحلم به من أحداث، ومن هنا (تتزاوج السخرية في وجهها الهازل مع الالم، فياتي لوقعها  صدى غريب، يمتزج فيه اليأس والرجاء، المتعة بالضحكة، المأساة بالملهاة، فالسخرية رغم شكلها الهازل تنطوي على فجيعة مدهشة ازاء لامعقوليات الشر والخديعة في هذا العالم) د. شمسي واقف زاده. - pdfمقالة-

وكلما تأملت  في احداث رواية (عرس الشاعر) الصادرة عام 1999 خلتني أجسُّ فيها نبضاً من رواية ( قصة موت معلن ) لغارسيا ماركيز الصادرة عام 1981.

حيث يستند ماركيز في سرد رواية "قصة موت معلن" الى وقائع محضر التحقيق بعد مرور اكثر من عشرين عاما على واقعة مقتل "سانتياغو نصار" ومثل ذلك يكشف  سكارميتا عن قصة "ستاموس ومارتا تاراماسو" بعد  مضي عشرين عاما ايضا على وفاتهما فيسردها، ليضبط بها ايقاع تراجيديا الحكاية الرئيسية لروايته (عرس الشاعر).

فسفر حكاية (ستاموس وعروسه) والنهاية الدراماتيكية لـهما في رواية (عرس الشاعر)، وقرار التوأمين فيكاريو بقتل" سانتياغو نصار" وتنفيذه فعلا فيه، في رواية(قصة موت معلن)، راحتا منذ بدء الروي، تغذيان السرد في انثيالات مسارية وتوجهان حركة احداثه بهاجس مقلق بل ومرعب، تمهد لحتمية– موت – في كلا الروايتين، فالذاكرة الجمعية لم تطو كلا الحكايتين الى النسيان، بل ظلت تحمل لغز استمرارهما في كنفها، ولغز نبوءة حدوثهما، حتى ان القراء وأناس القريتين على السواء، لكلا الروايتين باتوا ينظرون الى ان "جيرونيمو" و"اليا" ميتان لا محال، مثلما هو بطل رواية" قصة موت معلن" "سانتياغو نصار" تماما، وبهذا  فالموتَ معلنٌ في كلا الروايتين كواقعة ممكنة الحدوث في ليلة الزفاف، بالرغم من ان الجميع يحاول مخاتلة ما قد يحدث بانشغالهم بتفاصيل حفلتي العرس الكبير، والتهيئة لتنظيمها. كما يلاحظ ايضا انه في كلا الروايتين، يضع الكاتبان مشهدي العرس لكليهما على طرفي نقيض، بين: الفرح والبهجة، والقتل اوالموت. حيث يُقتل "سانتياغو نصار" في الاولى فيما يقتل او ينتحر التاجران العريسان (ستاموس وجيرونيمو) في الثانية وكذا تموت العروس الاولى  الصبية الجميلة"مارتا" وتغتصب الشابة اليافعة "اليا" من قبل جنود الحملة النمساويين.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم