"في أنطاكية، في مصر، في الشام، في بغداد.. كلها أرض الله وبلاد الخليفة، كلنا عبيد الله.. لا أظن أن مكروهاً لحق بهم، ولو كان الأمر كذلك، لما كان الخليفة قد استخدمهم لمحاربة الزط.. وما يقع لهم يقع لسواهم.. ولكل من لا حيلة لهم في هذه الدنيا، ولا قدرة لهم مع أهل القدرة وأصحاب السلطان"..

تحفة الأديبة الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية العام الماضي/ سلوى بكر.. والتي تعتبر ضمن أفضل 100 رواية في تاريخ الأدب العربي، حيث تنطلق من المأساة التي تعرض لها البشامرة والتي كانت أشبه بإبادة جماعية، وما ترتب على ذلك من نفي للناجين من المذبحة إلى بعض مدن دولة الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة العباسي/ المأمون.. حيث أتى بجيشه لقمع الثورة التي قامت شمال الدلتا، في المنطقة الرملية الساحلية بين دمياط ورشيد، ليكون من نتائجها أن صار الإسلام هو دين الأغلبية في القطر المصري..

البشموري الهارب من الخطيئة:

ربما رحلة التيه لبطل الرواية "بدير" البشموري، الفلاح البسيط بدأت منذ وقع في الحب، وهام في عشق آمونة، لكن الحب في ظل الفقر ينمو معه الصراع، والصراع اتخذ عدة أبعاد، سواء من الناحية النفسية، أو الاجتماعية، أو السياسية.. خاصة بعدما يقع بدير في براثن علاقة غير شرعية مع آمونة، حيث بدأت بذور الخطيئة تنبت بداخله، وما زاد الطين بلة في الأراضي الموحلة، هو اختيار أهل "بدير" لآمونة لكي تكون زوجة لأخيه الكبير، هنا يحتدم الصراع بين الأنا والغير، القلب والعقل، ورغم ذلك يتمسك بالجُبن حتى تنتحر آمونة كنهاية الكثير من قصص الحب التي تبدو كالأسطورة.. وبسبب الشعور بالذنب، الإحساس بالدنس، يبدأ بدير رحلة البحث عن الخلاص لروحه القلقة المعذبة، والتطهر من الخطيئة في بيعة السيدة العذراء في قصر الشمع بمصر العتيقة.

هل المذهبية قد تؤدي لخيانة الدين؟:

"فأبونا يوساب عينه أولاً وأخيراً على بيعتنا اليعقوبية وممتلكاتها وثرواتها، وحبه أولاً وأخيراً ضد الملكانيين الهراطقة، وهو يتمنى الوقت الذي يجيء فينقطع دابرهم من البلاد، فانتشار الإسلام في القرى والكور لا يقلقه، هو حريص على رباط الود مع المسلمين جميعاً وخاصة الولاة والأمراء، حتى يقووه في حربه ضد هذه الكنيسة الملكانية، التي إن سادت في البلاد، فربما عاد الروم إليها، وسادوا مرة أخرى مثلما كانوا في الماضي"

فالصراع بين الملكانيين واليعاقبة له جذور تاريخية، خاصة وأن الملكانيين مارسوا أفعال العنف والقتل ضد مخالفيهم، وتحولت المسيحية التي تعرضت للإرهاب من الرومان خاصة في عصر "دقلديانوس" الذي عرف بعصر الشهداء، ثم بعد ذلك اضطهاد المسيحيين لبعضهم، من خلال عنف مذهبي لا يقل شرسة عن العنف الوثني بعد اعتراف الإمبراطور "قسطنطين" بالمسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية.. وصار المسيحيون يأكلون بعضهم، لكن بدير لا يريد التناول الذي قد يؤدي إلى التوحش والافتراس، وبسبب هذا الاضطهاد ساعد اليعاقبة المسلمين في دخول مصر، وهو ما يحمل دلالة الاستنجاد بالأجنبي في المفهوم المعاصر، خاصة وأنهم من ملة جديدة تمثل تهديداً مباشراً للمسيحية، لكن ذلك يحمل دلالة أخرى، أن الإنسان في وقت الخطر، والتشبث بالوجود وتحقيق المنافع على استعداد أن يضحي بالدين وأهل الدين تحت مدعاة حماية الدين.. وذلك أيضاً يذكرنا بالصراع بين السنة والشيعة، الذي تسبب في تفتت قوى الدولة الإسلامية على مر العصور، كما تسبب الصراع بين اليعاقبة والملكانيين في انهيار الإمبراطورية الرومانية.

الدلالة الأخرى هي اتحاد السياسة مع الدين في تحقيق المصالح، حتى وإن كان على حساب أهل الديانة الواحدة، وهو ما يلفت النظر في كثير من الأحيان لعلاقة المؤسسة الكنسية بالسلطة الديكتاتورية حتى في الأنظمة العربية المعاصرة، بالإضافة إلى أن اقتران السلطة الدينية بالمنافع الدنيوية يحدث الفساد، خاصة مع ممارسة المسيحية بمذهبيها وقتها العنف على الوثنيين، وتحولوا من ضحايا لجلادين، فحادثة سحل وقتل "هيباتيا" ليست ببعيدة عن الأذهان، وهو ما يبين أن أي جماعة بشرية حين تشعر بالفوقية، وتمتلك القوة، وتشعر بامتلاكها لليقين التام، وأنها مدعمة بسلطة الإله الذي يفضلها عن سواها، فإنها تمارس الإرهاب على الغير.. لأن الأوصياء في الغالب يبررون ما يحدث على أنه الإرهاب المقدس، أو صك الغفران لدخول مملكة الرب.. أو ربما لأن طبيعة الإنسان الافتراس عندما يمتلك القوة!

ذاتان معذبتان:

"أما في الماضي فقد عشت في الخطيئة، والمشكل يا بدير- ودعني أصدقك القول- وليسامحني ويغفر لي الرب.. هو أنني حتى هذه اللحظة التي أجلس فيها وأحدثك، لا أشعر أنها خطيئة، بل كلما طافت الذكريات برأسي وتمثلت صور الماضي أمام ناظري وكأنها حدثت بالأمس القريب، انتعشت روحي بالفرح، وغمرتني سعادة لا أقوى على احتمالها أحياناً، فأشعر أنني أرغب في القفز والطيران والعلو والارتفاع حتى أعالي السحاب"

الأب "ثاونا" مبعوث الكنيسة للثوار، رحلة على حافة التجربة القاسية برفقة "بدير".. فالاثنان متشابهان لحد بعيد، فالأب "ثاونا" مطعون بخنجر الفقد، ربما كان التحاقه بالكنيسة والتفرغ للعبادة يحملان نوعاً من الهروب.. الهروب من العشق، الذات، التفكير، وسبيلاً للنسيان أو المحو من الذاكرة، خاصة لحظة موت "دلوكة" معلمته الوثنية ومعشوقته الأولى، حيث مارست السلطة الدينية بطشها وقتلتها بطريقة عنيفة، ومع السفر، يكون الاختبار القاسي مع النفس، الروح، الذاكرة، ولحظة الصراحة المطلقة والمواجهة مع الذات.. انبعثت هذه الهواجس في نفس الوقت تقريباً بصدري "ثاونا" و "بدير".. خاصة مع حيرة الأول وعد استطاعته الإقرار بالخطيئة، واشتياق الثاني وحنينه لماضيه مع "آمونة".. مع حالة الصراع الفظيعة بين الإدانة الداخلية للمؤسسة الكنسية التي تبرر الظلم مقابل المنفعة، وحرصها على إجهاض الثورة أو إنهائها رغم تفشي الفقر، الجوع، والمرض.. وتوجيه الوعظ للضعيف لإثنائه عن التمرد، وحثه على الصبر في الدنيا الفانية، في الوقت ذاته.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يوجهان للحاكم الذي يمارس النهب والقمع.. فاستخدام نصوص الدين لخدمة الغرض الدنيوي والمنفعة يتسق مع قول ماركس "الدين أفيون الشعوب!".

الثورة كمرادف للخراب:

الثورة في مفهومنا المعاصر خاصة في المجتمعات العربية ترتبط إلى حد بعيد بالخراب، وبالمفهوم التراثي تساوي الفتنة، خاصة وأن أولى الحركات الثورية في عهد "عثمان بن عفان" وما تلاها، كان مفهوم الفتنة هو السائد عند توصيف أي تمرد عامة، والمسلح خاصة، حتى أن عميد الأدب العربي حين تناول هذه الفترة، سمى كتابه بـ "الفتنة الكبرى".. وانطلاقاً من هذه النقطة، كانا "ثاونا" و "بدير" يحملان رسالة الأب "يوساب" إلى الريس "مينا" قائد الثورة؛ والذي كان يعمل مع الوالي، لكنه حين رأى رجلاً يأكل لحم فتاة حية بسبب الجوع، قتله وأنقذها، وبسبب شعوره بالذنب تزوجها وهي مشوهة، ولأن العقدة ترسخت وأحس بجرمه الفظيع، بحث عن الكفارة والتطهر..حتى وإن كان مقابل دمائه، وربما لأن الثورة تحمل في داخلها معنى التضحية، وإلا لماذا صلب المسيح في تصور الريس "مينا"؟!

"إن رئيس بيعتنا يخشى على بيعته من المسلمين إذا ما ساندت البشموريين، وإنه لا يعنيه إلا أن يغضب الوالي على البيعة الأرثوذكسية، فيشمل برعايته الكنيسة الملكانية".. ورغم ذلك يحاول "ثاونا" إثناء الريس "مينا" عن استمراره في الثورة، لكن المجاعة التي يعيش فيها البشامرة وسوء الأوضاع جعلتا الأمر أشبه بالمستحيل.. "لو عشتم معنا هنا أيها الآباء الطيبون يومين فقط، لانقلبتم عما أنتم فيه، وكفرتم بوجود أي حق، أو عدل في هذه الدنيا، وهذا العالم الصعب!"..

في لحظة اقتحام الجيش العباسي، توقفا "ثاونا" و "بدير" في مكان أشبه بالبرزخ، أُسر فيه "بدير" وتم نفيه عن الوطن مع من بقى حياً بعد المجزرة، وصار مصير "ثاونا" معلقاً في الهواء!

التيه:

"سويلا" التي سلم لها "بدير" نفسه في لحظة يأس، ضعف جديد، وسقوط ترتب عليه تيه آخر.. من مدينة "تنيس" حيث آخر مكان سيكحل فيه "بدير" عينيه من الوطن.. تعرض لخذلان ما بعد الثورة، تقلبات المصريين الغريبة تبعث دوماً على الصدمة في الكثير من الأحيان، خاصة عندما تعرض الأسرى "الثوار" للصياح في وجوههم: "ينعتوننا بالكفار المارقين، ورح عيالهم يرموننا بالوسخ والقاذورات!" على الرغم من كونهم مسيحيين أيضاً.. والسفر عبر البحر لا يمحو الإهانة، وكسر الذات، ونزيف القلب بعد موت "سويلا".

وبالوصول إلى أنطاكيا، يجد بدير فرصة للتنفس وعودة الأمل، خاصة مع عمله في الكنيسة مع الأب "تاوما" الطيب، والذي برحيله سقط في فخ التجربة، ومصيدة الشيطان مثلي الجنس!

المثلية الجنسية في دولة الخلافة: 

يقول ابن الرومي: "امزج الراح لي بريق غلام.. فألذ الهوى المعاصي التؤام".. غير ما اشتهر عن الشاعر العربيد "أبو نواس" وحبه لممارسة الجنس مع الغلمان، لذلك فهاجس "الهوموفوبيا" كان مترسخاً بداخل "بدير".. خاصة مع خشية بيعه كعبد من أجل متعة سيده، فهذه الممارسات كانت منتشرة بشكل واضح في العصر العباسي تحديداً، لكن ما هرب منه بدير، وقع فيه وهو بداخل كنيسة "القسيان"!.

الأب "ميخائيل" مثلي الجنس، الكل يعرف ذلك، لكن السلطة في كثير من الأحيان تقف كعائق وحائط صد لأي عقاب، فالقوة لها منطقها مهما كان شاذاً، ومع ذلك عندما صدم في الأمر، نفد "بدير" بجلده.. رغم خبث الأب "ميخائيل" ومحاولاته في التخلص منه بوسائل خبيثة، كنوع من الخوف الغريزي عند أي صاحب لذة تتعارض مع معتقد الفرد والجماعة التي يعيش فيها، وحتى لا يكون عرضة للفضيحة.. ولإحساس "بدير" بالضعف وقلة الحيلة، يقرر الكذب حتى ينجو من الموت، أنه ليس من رجال الدين، بشموري علماني.. فيسلمه الآباء كرة أخرى لعسكر السلطان، وتبدأ رحلة جديدة لحاضرة العالم.. بغداد.

بغداد مدينة التناقضات، واعتناق بدير للإسلام:

يصفها بدير: "إنها حاضرة الدنيا، وهي مسجد، وحانة، وقارئ، وزاف، ومتهجد يرتقب الفجر، ومصطبح في الحدائق، وساهر في تعبد، وساهر في طرب، وتخمة من غنى، ومسكنة من إملاق، وشك في دين، وإيمان في يقين!".. وفي ظل هذه المتناقضات المتمثلة في الثراء الفاحش الذي يعيش فيه السلطان، والقحط للرعية، الزهد/ الطمع.. الإيمان/ الإلحاد.. العفة/ العربدة.. يجد بدير نفسه في وجه العاصفة، مدينة محاطة بالغواية، والشهوات.. يمسك النار أمام السلطان في لحظة جنون، يترتب عليها إطلاق سراحه مع جارية لحمها شفاف كنهر رائق، اشتهاها وزهد فيها في دقائق، تعبير صارخ عن التناقض، الحسين بن فالح واختلاف المظهر عن الجوهر، الجارية التي أراد "بدير" عتقها فتشبثت بأغلال العبودية، حيث أن الحرية بالنسبة لها تعني انعدام الأمان وعدم قدرتها على العيش.. ثنائية الحرية/ الأمن.

هروب العفيف معلم "بدير" في نسخ الكتب والتجليد لأنه كان ينتمي لجماعة سرية.. تداعي الخلافة.. صراع المذاهب والفرق الإسلامية سواءً المعتزلة، الحنابلة، الشيعة، المتصوفة..

ورغم كل الصراعات ظهر التناقض مرة أخرى، عندما آمن "بدير" بإنجيل "برنابا" المحظور.. الذي يقول: "أن ابن الموعد هو إسماعيل" أي من نسله.. وهو محمد نبي المسلمين.

وربما كان الدافع لاعتناق الإسلام يمثل انتقاداً غير مباشر لمبدأ "الاعتراف" في المسيحية، حيث أن "بدير" لم يكن صادقاً بشأن اعترافه أمام الآباء، وظلت الخطيئة عالقة بروحه، وهو يشعر بالدنس، وقد عرف أن الإسلام لا يحتاج إلى وساطة أو حاجة للاعتراف أمام فرد لقبول التوبة.. "أنت مخلص نفسك".

وبعد الاستقرار الديني أتت الضرورة الملحة للبحث عن رفيقه العزيز "ثاونا".. وليتخلص من شعور الاغتراب، واختلال الهوية وعدم الاستقرار بالعودة إلى الديار.

التشبث بالأمل ورسالة للتعايش:

"أليس كل هؤلاء الناس من ضحايا الحرب سواءً أكانوا- مسيحيين أم مسلمين- مستحقين لدخول الجنة؟ ألا تظن يا بدير أن عدالة السماء سوف تشملهم جميعاً، وهم الذين لم يجدوا عدلاً أبداً في هذه الدنيا، وقد جاعوا وتعروا، وباعوا عيالهم وأهلهم؟ ألا تظن يا بدير أن الله سوف يشملهم بعطفه ولطفه بصرف النظر عن كونهم مسلمين أم أقباطاً؟"

رسالة أخيرة من "ثاونا" بعدما عثر عليه "بدير" بأعجوبة في دير للرهبان، أخبره "بدير" بإسلامه، أراد دعوته لدينه خوفاً عليه من خلال تصوره الجديد عن النار، وكذلك حزن "ثاونا" على "بدير"، ومع ذلك تعايشا، خاصة حين أخبر "ثاونا" الرهبان بإسلام صديقه، وضرورة معاملته بالحسنى، وهذه الرسالة التي تمثلها شخصية "ثاونا" هي بمثابة استغاثة أخيرة بضرورة التعايش، وترك ملكوت الله لله، وعدم ادعاء البشر احتكار الجنة والنار وصكوك الغفران والوصاية على الخالق، لأنه بمثابة تعدي على المشيئة والإرادة الإلهية، فالتطرق لهذه الأمور لن يفيد، فما يجمع البشر التعايش والحب، وهو ما حدث بين الرفيقين على الرغم من تغير الملة..

والحق يقال أن "سلوى بكر" بذلت جهداً شاقاً في البحث والتحري ووصف جل تفاصيل الحياة في هذه الحقبة بإيقاع سريع ممتع ومشهدية عالية،وسرد رشيق يتشكل ببراعة على حسب الحدث وتطور الشخصية.. وتبقى المحبة هي ما يعول عليها من أجل التعايش السلمي، البعيد عن الكراهية، الحقد، الإجبار، العنف، والإرهاب.

في الدنيا، القرآن يقول: "لتعارفوا" والإنجيل "أحبوا أعدائكم".. وفيما بعد لله الحكم.. بعد قيامة الأموات وحياة العهد الآتي!


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم