" لا أقرأُ النصَّ الأدبي إلى نهايته إلا إذا شدَّني إليه، وجذبتني علاقاته الإبداعية إلى عوالِمه، شريطة أن يُحقِّقَ لي نوعًا من المُتعة. وهذا النوع من المُتعة هو ما أشعرُ به وأنا أُبحر في عوالم القص، مفتونًا بملامحه الذاتية أو العلاقات التي تُخايلني بين عناصره التكوينية، فأترُكُ نفسي وراء ما ألمحُه من خلال هذه العلاقات التي تُضيفُ شيئًا فشيئًا إلى متعة القراءة التي تتزايد، بل تتصاعد إلى أن ينتهي النص." جابر عصفور من كتاب "متعة القصّ". 

مع استسهال الكتابة في عالمنا العربي، لسهولة النشر وكثرة دوره، فقد بات من الصعوبة بمكان استحسان رواية تحمل جودة في الصياغة الروائية من حيث الحكاية، البنية والمتمم لهما مفردات اللغة المستثمرة من قبل الروائي.

أمسى فن الرواية على الغالب، خاضعًا لمسمى الأدب التجريبي المرُحب به طبعًا لدى جمهور القراء، شرط أن يحفل بتجدد إبداعي يُعنى بتقنيات يتلقاها القارئ العادي قبل المتمرس، مستوعبًا تأملات الكاتب الفلسفية المعرفية من خلال سردية حياتية عميقة، مجبولة بالخيال ربما، متقدة بالجدل الموظف لثقافة وهموم العصر.

روايتان لبنانيتان ينطبق عليهما وصف الدكتور فضل، إضافة لعنصر القيمة الذي ذكره في مفتتحه لكتابه المهمّ، المختلف في رواية غادة الخوري الاولى "يوم نامت ليلى"، عن الثانية "طفلة الرعد"، وإن اجتمعتا في جمالية الخبرة الإنسانية.

"يوم نامت ليلى" الصادرة عن الدار الأهلية 2021، رواية عن الفقد، كتبتها الخوري لتمحو النسيان، فهكذا استهلت سطورًا خاطبت عبرها والدتها إثر عامين من الرحيل.

نص قصير كرس الذاكرة بكثافة، فكك شجون الكاتبة، ذاتها المفجوعة الحزينة، هواجس واقع الوطن والعائلة من خلال ثلاث شخصيات رئيسة هم الجدة الروسا أجنبية الجذور، الأم ليلى وجوزفين أقرب البشر إليها.

"بعض الناس لا نتذكرهم إلا واقفين.. في حالة تأهب لمعركة.. أو فقط لحراسة فكرة نبيلة" وصف لصديقة العائلة تراءى فيه لبنان الشامخ، أو بيروته الجريحة خاصة بعدما أنصفتها ليلى بقولها " إنها الضمير الغائب، كل ما فقدناه ولن يعود".

رواية رقيقة، عذبة المشاعر تلامس كل من فقد عزيزًا، فلا شكّ أن الكاتبة أرادت من تدوينها التصالح مع أسى الموت وأنينه "لنعجن هذا الألم خبزًا للحكايات".

أما "طفلة الرعد" الصادرة عن دار الآداب 2023، فهي تحكي حكاية هيلانة الصبية المصابة بالتأتأة، لجأت إلى تلخيص الكتب لعله يرمم كبرياءها فتنسى عاهتها، تعيش مع زوجها وابنتها في قرية ديرزوفا التي يؤمن أهلها بالخرافات والأساطير.

برعت غادة الخوري هنا في التفاصيل، رسمتها بحرفية عالية، قدمت عالمًا مقنعًا، تمكنت من تمثيل شخصيات واقعية، ضمنتها صراعاتهم الداخلية، تناقضاتهم، عواطفهم بإيقاع فني عميق وسرد لغوي مبني على التقاطات ذكية.

فما هو الإنسان بلا ذاكرة؟ ذاكرة مفقودة! أي حروب توسع الشقوق بين أهل قرية وفي بلد واحد؟ أيمكن للأوطان أن تُختطف؟ وأي غياب يمكن للمرء احتماله؟ كم من سجن يعبر فينا؟ وما الغاية من الأسرار؟ هيلانة صوت كل فرد من ا"ما لقيت إلا صوتي، لمَ الكل سكت.. العجز قرار والحرية قرار". وما الرعد الذي التحمت روحها به إلا قوتها، احساسها بالجبروت والشجاعة.

رواية حقيقية، مرآة لجانب مجهول في عالم الإعاقة، أنارت ما يكتنفه من هواجس، وارادة صلبة للتغلب والنجاة.

تميزت بحواراتها العامية الطريفة مما أكسب مغزى الحكاية بعدًا أجمل وأوسع.

"الحياة ليست كما جاء في الكتب" ص70 في رواية يوم نامت ليلى.

"الكتب لا تغير الواقع …بل تفسد نظرتنا إليه، ونظن أن الحياة في مكان آخر، فنخسر حياتنا منتظرين ما لا يحدث"

ص127 في طفلة الرعد

 يتضح من هذين الاقتباسين أن للروائية اللبنانية رأي جليّ بالكتب، كشفه قلمها البهي، مبرزًا حضورها الراسخ في أعماق كينونتها كإنسانة، كما وردت في الروايتين الذاكرة، فلسطين، والوطن..

غادة الخوري من لبنان، كاتبة تخطو نحو عالم الرواية والادب العربي ببصمة مميزة، محققة الأصالة في قول ماريو بارغاس يوسا "أصالة الروائي تكمن في عثوره على مظهر أو وظيفة للحياة، للتجربة الانسانية، للوجود".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم