بعد غياب نحو عشر سنوات عن الكتابة الإبداعية، تعود الروائية نسرين البخشونجي للكتابة الروائية في روايتها الجديدة (اتجاه عكسي) الصادرة مؤخرًا عن دار المحرر.  

منذ السطور الأولى، التي اختارت أن تسميها "مفتتح" يدرك القارئ أنه إزاء كتابة حميمة، شديدة البساطة والصدق، وما إن ينتقل إلى الفصل الأول "مقاومة الوحدة" ويدرك أن الكاتبة اختارت تقنية الرسائل لكي تحكي لنا من خلالها مشكللاتها وتكشف من خلالها عن عالمها، حتى يتيقن من طبيعة تلك الحالة الخاصة التي سكنت الرواية من بدايتها حتى ترنيمة الختام. 

تحكي نسرين على لسان بطلتها، التي حرصت على إغفال اسمها، وتركنا أمام حكايتها مباشرة، حتى يشعر القارئ وكأنها تتحدث معه، وليس فقط إلى صديقتها، حكاية تبدو بسيطة في بدايتها وتفاصيلها، رغم كل ما بداخلها من صراعات ومشاكل وآلام، لكنه البوح للصديق الذي يأخذ ربما ينحو تجاه التأمل، وطريقة "الفضفضة" عبر "تيار الوعي" التي تجعلنا شركاء لهذه الزوجة والأم التي تسعى للحصول على أبسط حقوقها بدءًا بزواجها بذلك الرجل الذي يبدو ملائمًا لها، مرورًا بمفاجأة الحمل الأول وصراعها بين القدرة على توفير بيئة مناسبة للأطفال وهربها من تلك المسؤولية، وصولاً لمشكلة بتوفير بيئة دراسة مناسبة لأبناءها بمجرد وصولهم لسنوات التعليم الأولى، يتزامن كل ذلك مع ذكريات الثورة 2011 حينًا، ثم تمر بها سنوات عزلة كورونا 2020 وكيف أثرت عليها وعلى أسرتها الصغيرة، وبين هذا وذاك تكشف لنا نموذجًا لمعاناة امرأة من الطبقة المتوسطة عاشت فترة من حياتها في أسوان وانتقلت أخيرًا للقاهرة. 

(( وحيدة أبكي، لم تعد لدي رغبة في الحديث أو لقاء أحد. صديقاتي بالكاد يلتقينني. أشعر أني حبيسة غرفة مظلمة أو بئر أريد أن أخرج منها ولكن اليد الوحيدة التي ستساعدني هي يدي أنا. أنظر كثيرًا للخلف، أشم رائحة الزمن الذي لا يتوقف. الحنين للماضي يفتح بوابة الفقد، ذلك الشعور المباغت الذي يقتل إحساسي بالأمان. ومع آخر نفس في حياة شخص أحبه، تنطفئ نقطة نور في روحي. لذا أغبط من لديهم القدرة على التخلي ولا تتوقف حياتهم على شخص، زمان أو مكان. كل تغيير يحدث حولي يشعرني بالقلق والحزن، إلا حلم تغيير الوطن، ذلك الحلم الوردي البعيد الذي أود أن ألمسه بيدي))

بين القاهرة وإسكندرية وأسوان، وبين ذكريات الماضي وآلام الحاضر نتنقل مع بطلة نسرين البخشونجي وطفليها "ياسين" و"مسك" اللذان تسعى قدر استطاعتها لجعل حياتهما أفضل، ولكنها تواجه بعقبات في كل خطوة، ما بين مدرسة ترفض التعامل مع الولد لأنه أكثر نشاطًا وذكاءً، وبين مدرسة أخرى لا تستطيع الإيفاء بمصاريفها السنوية، حتى تخوض تجربة "التعليم الحر" التي لا يبدو أنها تنجح أيضًا رغم كل ما كانت تعد به من استقرار واحترام للأطفال! 

"بنلف في دواير، والدنيا تلف الدنيا بينا" .. 

تحضر الأغاني مع الذكريات، وتطل علينا بطلة "اتجاه عكسي" تلك المصرية المثقفة التي كمحرر في دار نشر، وتسعى للحفاظ على وضعها الاجتماعي المادي والاهتمام بأطفالها قدر المستطاع، تقول: 

(( تمنيت لو أستطيع أن أخبئ الأولاد في حضني وأتلقى كل الأفكار الغريبة التي تحاصرنا من كل اتجاه وكأنها رصاصات تخترق رأسي وروحي بدلًا منهم حلمت كثيرًا أن أدخلهم داخل فقاعة ليكونوا في أمان لكني أدركت بعد فترة أنني مهما حاولت حمايتهم من تلك الأفكار عليهم مواجهتها، دوري الوحيد أن أساعدهم على تكوين وجهة نظر خاصة بهم، وهو أمر لو تعلمون عظيم!))

ولعل المهم في الرواية أنها بقدر ما تقدم هذه المرأة وتوضح موقفها من الناس والمجتمع والأصدقاء، لم تلجأ إلى الميلودراما في عرض حالتها، التي تبدو شديدة المأساوية، ولكنها في الوقت نفسه تتأملها بقدر من التصالح وبمحاولات جادة للتجاوز، بل إنها تتوقف أكثر من مرة عند مصيبة الموت التي يبدو أنها تطاردها مرة عند جارتها التي اعتبرتها أمًا بديلة، ومرة عند صديقتها التي تفتقدها فتسعى لكي توثق لها أحداث سنوات الغياب، بطريقتها الخاصة التي تسميها رسائل بجناح واحد. 

من خلال تسع فصول متصلة، لعبت فيها بين الماضي الحاضر، وتنقلت بنا انتقلات بسيطة ولكنها دالة من مصر الثمانينيات إلى العصر الحالي، بين القاهرة وأسوان، يبدو انتماؤها للمكان حاضرًا، تقول: 

))أسوان. تلك المدينة الساحرة هناك ولدت وفي شوارعها نبتت أحلامي كم مرة ركبت المركب الشراعي مع أسرتي في نزهة نيلية أو للوصول للجزر التي تقع في منتصف النيل حيث الفنادق الفاخرة، يميل معظمها ناحية البر الغربي للمدينة وحدها تشهد مقبرة الأغاخان وزوجته البيجوم على حياة زوار الفنادق، رغم أن الأجداد اعتبروا البر الغربي مكانًا لحياتهم بعد الموت بينما كانت بيوتهم ناحية الشرق على العكس فإن أكبر مقبرة في المدينة تقع في الناحية الشرقية منها((

هكذا ننتقل مع بطلة الرواية ببساطة بين المدن، كلما تذكرت مكانًا تداعت لديها ذكرياته، كما يتداعى حضور أصدقائها أيضًا، ويطل علينا ذلك الزوج الغائب "أحمد" بين الحين والآخر، ولكنها تسعى لرصد لحظات التوتر والتجاوز في الوقت نفسه، ويبدو لنا تعلقها بكل ما يبعث على الأمل والحياة كوسيلة وحيدة لكي تنجو من كل ما يحيط بها من مشكلات، وهي تمنح القارئ في النهاية رغم "ترنيمة الوداع" أملاً في إمكانية التجاوز، رغم أنها في آخر سطور الرواية تشكو هذا الأمل الذي "يملآ أرواحنا بغير الحقيقة"، ولكن لاشك أنه في النهاية هذه هي الحياة، أقدار متعثرة، ومشكلات متلاحقة، وبعض الأمل الذي يجعلنا نواصل ونكمل. 

شكرًا لنسرين البخشونجي على هذه التجربة الصادقة والجميلة،  وتحية لروح صديقتها التي تهديها هذه الرواية "إيمان خيري شلبي"  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم