1/ عناوينك تذكرني بكتاب: "L'espace littéraire" لموريس بلانشو  (Maurice Blanchot).

صحيح، أنا أكتب عن المكان، حتى أن عناوين رواياتي تحيل على أمكنة بعينها مثل: رواية "زوج بغال"، رواية "زنقة الطليان"، أقسام رواية "خرافة الرجل القوي" بأسماء أربع مدن (شالوروا، باريس، قسنطينة، عنابة)... غالبا ما يتحول المكان في رواياتي إلى الشخصية الرئيسية. طبعا هذا الاهتمام نابع من خلفيات، ممكن لاهتمامي في مرحلة مبكرة بجمع الطوابع البريدية والعملات النقدية لبلدان مختلفة، أو يعود في مرحلة لاحقة لاهتمامي بالسفر والتنقل لعشرات الدول في العالم، وكتابة استطلاعات مطولة (في أدب الرحلة) عن مدن جزائرية، عربية وأجنبية في عدة مجلات من أبرزها مجلة العربي الكويتية. أيضا، أنا لدي علاقة حميمة جدا بالمكان.

2/ هل تكتب صباحا أم لديك طقوس وهوايات أخرى؟

الكتابة بالنسبة لي غير مرتبطة بوقت معين أو مكان بعينه. مكن اكتب صباحا أو مساء، أو ليلا، او بالبيت او بالمكتب او في المقهى أو في الشارع وأنا أمشي أفتح مفكرة موبايلي وأسجل ملاحظات أو جملة أو فقرة من رواية، او في وسائل النقل، وغيرها. صباحا، أحب الاستماع إلى الموسيقى: فيروز، او موسيقى هادئة. وإن قرأت، لا أقرأ شيئا محددا. أو أتناول فطوري وأخرج مباشرة، او امارس رياضة المشي صباحا على شاطئ البحر (بانقطاع). وأحيانا أبقى في الشقة؛ أفكر، أو لا أفكر. أتأمل، أو لا أتأمل. أقوم بشيء محدد، أو لا أفعل أي شيء...! مرات الابتعاد عن الناس، الخلوة أو العزلة، مهمة جدا، لاكتشاف الذات، والآخرين أيضا، من مسافة كافية للفهم والإدراك. فغالبا عند الاقتراب أكثر من اللازم تضيع منا اتجاهات البوصلة.

3/ لماذا يكتب بومدين بلكبير؟

عندما أكتب فأنا أبحث عن انسانيتي بالأساس. أشعر بوجود ما وسط هذا العالم الأصم والأعمى. فالكتابة بالنسبة لي إبداع وتخييل وفن، ما يجعلني أشعر ببعض الرضا، والقبول، والجدوى. وأمنح الحياة التي أعيشها شيئاً من المعنى والجمال أيضا.

4/ حين أنهى (غابريال غارسيا ماركيز) روايته: "مئة عام من العزلة"، قال إنه شبه مستنزف. بالنسبة لتجربتك في كتابة الرواية، هل تراها مستنزفة أم العكس؟

ممكن قد ابالغ، ان قلت أن الكتابة مستنزفة اكثر من أنها تجربة ممتعة؛ ففي الغالب نهمل في أحاديثنا الأشياء التي تجلب لنا المتعة والمسرة، رغم أنها موجودة. فنحن كبشر نميل للحديث عن مصدر الألم، ونرى أكثر الأشياء التي تجلب لنا الشقاء والتعب!

5/ بخصوص موضوع الاستنزاف، فيمَ تستنزفك الكتابة؟

الاستنزاف هنا له جوانب كثيرة؛ في كل عمل جديد أحاول أن لا أجتر نفس الثيمات والموضوعات، وأن أتجدد في أسلوب الكتابة وتطوير الشخصيات. التفكير، ووقت الكتابة، والتلبس بالشخصيات، والتركيز على التفاصيل، كلها تتطلب جهدا على ما فيها من مشقة وشيء من الاستنزاف. فضلا عن أنني غير متفرغ تماما للكتابة الروائية، فأنا كأستاذ جامعي، لدي التزامات أخرى، كالتدريس والسفر لتقديم المحاضرات، والقيام بدراسات وبحوث أكاديمية، والاشراف على رسائل ومذكرات الطلبة الجامعيين، وغيرها. أيضا خارج كل ذلك الكاتب لديه حياة وظروف، وهاجس الاستقرار واللااستقرار واكراهات اللامكان والتنقل الدائم في الإقامة. كل ذلك أثناء فعل الكتابة له تداعياته النفسية وغير النفسية المستنزفة، فهذا الكاتب الانسان قد يجد نفسه يدور ويدور في فراغ أبدي، أو في هوة مظلمة. ومن جهة أخرى، فكل ذلك يخدم تجربة الكتابة ويعطيها أبعادا أخرى أكثر كثافة وزخما.

6/ لاحظت في تجربتك السردية هناك تعامل مع عدة طابوهات، ومع ذلك انت تسرد بطريقة جميلة ولا تجري خلف سراب الانبهار بالطابو مثلا.

نعم، لأن الطابو يجب التعامل معه سرديا بحذر. لأنه مفخخ ويورط لاحقا، في جعل نص الكاتب مجرد برميل فارغ يثير الضجيج فقط. وللأسف نقرأ الكثير من الروايات التي تناولت الطابوهات، كأنها تحولت مثلا إلى فيلم بورنو، أو إلى مجرد خطاب سياسي وايديولوجي، مثلا ضد تيار سياسي او ديني.. وللأسف كل هذا على حساب جمالية وفنية وابتكارية السرد.

7/ يدهشني إدخال عالم الأحلام واللاوعي في الادب، وأرى أن هذا العالم حاضر في أعمالك السردية.

أنا مهتم في تجربتي السردية بعالم الأحلام واللاوعي، فنجده في رواية "خرافة الرجل القوي"، ورواية "زوج بغال"، وبدرجة ما في رواية "زنقة الطليان"، لكن هذا العالم حاضر بشكل طاغ في روايتي الأخيرة (لم تنشر بعد). أعتقد أن اللاوعي هو الحقيقة التي يعمل البعض على طمسها.. ودفنها في العتمة. ومع ذلك، سيأتي اليوم الذي تنفجر فيه، وسيكون انفجارها عظيما كبركان. وهناك براكين تتجاوز شدتها خمسمائة مرة قنبلة هيروشيما.

8/ هل ترى أن التخلص من عقدة التاريخ أمر مهم في الأدب الجزائري؟

لحد الآن لم تخرج الرواية الجزائرية من صدمة الاستعمار. نجد الأدب الجزائري في الغالب ضحية الايديولوجيا والشعبوية في طريقة تناوله تيمة الثورة. أما التاريخانية فهي شبه غائبة في أغلب الأعمال السردية. مهم جدا، الخروج من تلك النمطية في اختيار الثيمات، وفي طريقة تناولها أيضا. الأمر ذاته ينطبق على تيمة العشرية السوداء، التي أصبحت كشارة تميز الرواية الجزائرية، أين غرقت أغلب الروايات التي كتبها صحافيون في إسهال التقريرية واللغة الصحفية. ما كتب وقتها أصبح يسمى بالأدب الاستعجالي.

9/ الانتقال من المنظومة الاشتراكية إلى المنظومة الرأسمالية، مست الفرد في جوهره وقيمه. كيف يستطيع الانسان المعاصر أن يفصل نفسه عن هذه الأنظمة؟

أعتقد أن الإنسان المعاصر بات محاصرا بتلك المنظومة.  ممكن الملاذ بخلق عالم خاص به، ومع ذلك تبقى سطوة تلك المنظومات. الأدوار فقط تتغير، لكن المنظومات تبقى وتتطور بشكل متسارع. طبعا من خلال التكنولوجيا، تعقد الوضع أكثر، إذ أصبح الإنسان اليوم فاقدا للسيطرة، ومجرد تابع، يعيش منعزلا في عالم افتراضي وهمي. بينما لا يأبه للحياة الحقيقة بكل ما فيها من جمال، ومشاعر، وتفاعل انساني، ومحبة، وسعادة ومقاسمة.

10/ هل تثق في المتعة وفي الألم؟ وهل تشعر بالأمان فيهما؟

الثقة كلمة فضفاضة، وهي بحد ذاتها لا تؤتمن. اللغة مخادعة جدا. في الحياة متى وثقنا بشيء ما، متى وقعنا في هوة لا قرار لها. في عالم اليوم، عدم اليقين هو السائد. كل شيء محل شك، وإن كان فيه شيء اليقين فهو غير ثابت. أكيد الشك المطلق يؤدي إلى هلاكنا في نهاية المطاف. عدم اليقين يدفعنا للمغامرة والتغيير. الإبداع والفن من ثمرات عدم اليقين، ومن نتائج المغامرة أيضا. الكلمات تولد من رحم الألم. لهذا هي قاسية جدا.. وايضا رقيقة؛ أحيانا، تقترب الرقة والقسوة إلى درجة التقاطع، او الالتقاء في نقطة ما، وفي أحايين أخرى، يبتعدان، إلى درجة التنافر!

11/ تتصالح عادة مع حالة اللاجدوى أو اللاشيء؟

أحيانا أجدها ضرورية. ولحاجة ما أتقبلها تلقائيا، الأمر مهم لراحتي النفسية ولمزاجي. حالة اللاجدوى صعبة، ولكن مع الوقت فهمت أنها تأتي بين فترة وأخرى. الإشكال لو تطول أو تتجاوز الحد، ولا تبقى مجرد استثناء. قبولها هو نوع من الوئام والتصالح مع النفس. يبدو اننا ككائنات، نحاول ان نستمتع بالحياة، وأن نصنع الجمال حتى من الألم والموت.

12/ أغلب المبدعين يعيشون غربتهم ووحدتهم، ما هي أقصى درجات الوحدة برأيك، وهل يمكن أن تكون متصالحا معها رغم قسوتها؟

أقسى درجات الوحدة، أن تستيقظ من النوم ولا تجد من تحدق فيه، لا تسمع أنفاسا غير أنفاسك. ومع ذلك هي تمرين مهم على الاستغناء. الاكتفاء بالذات في وحدتها الكبرى. الوحدة ساحرة وتغري، لكن لما تطول تصبح عبئا كبيرا، نشعر بوطأته وبوجعه. أحيانا الأصدقاء والمعارف يزيدون في الشعور بثقل الوحدة. مهم جدا التصالح والتقبل، مع الوحدة والموت والخيبات.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم