الفصل الثامن

ترويض المستحيلات


مُداعباتٌ مُعذَّبة، بين نسائم عليلة، وأنفاسِ رطوبةِ السماءِ الربيعية، يَلفُّها ضبابٌ خفيف غير مُتطرِّفٍ أو مُرتبِك الوجود، تنزَّلت رطبة، مقتربة، رويْداً رويداً، من رحمة زُرقَة السماء؛ شقَّقت صدري، كما شقَّقتْ، تَرَفاً، أغصان شجر التنُّوب، والأكاسيا، والصنوبر البري، وغيرها من مشتقَّات الأخضر الرحيم الذي يُسوِّرُ جَلالَ الوجود المُسالم لمدينة يوتبوري، أو غوتنبرغ.

نسائِمُ، تتحايلُ بوداعتها، لفَحتْني حالَ خروجي برأسٍ مُثْقلٍ، ذلك الصباح، مشْياً، من شقة ريباز حتى موقف الترام، بعد سهرةٍ سَلَخْنا بها، أنا وريباز، جلود شياه وجودنا الثقيل في بلد اللجوء الرحيم، على أرض السويد، بعيداً، هرباً من رُعب المكان الأول الذي انتصرَ علينا وأخذَ يبتعد.

سَهْرة تهارشنا فيها، بصخبٍ، وهدوءٍ متفاوتين، مُستنجديْنِ بذكرياتٍ نستَميحُ شقاءَها، ورحْمتها، عُذْراً بوخزِها وخْزاً لطيفاً، ومُداعبتها مُداعبةَ القَدَر المتشبِّثِ بغصن الأمل، أنا وريباز، كُلٌّ حَسْبَ مثاقيلِ همومه، ومَيلان ميزان مزاجه.

الرُعب الذي استولى على المكان الأول، حروباً، وملاحقات لكل مُعارضٍ للسلطة، لم يُزِدْنا كُرْهاً له، بل مُناكفةَ غريبيْنِ حملتهُما أقدارهما من أسافلِ بلد في الشرق انتشرت فيه رائحة الموت، والقمْعِ، إلى أعالي بلد آمنٍ في أقصى شمال البلْطيق.

كلُ شيء أخذ يترتَّبُ في حياتنا على سطح الاستقرار، هُنا، في السويد. اسْتقرارٌ مُخْملي يُدغْدِغُ قلبيْنا برقَّةٍ مُبالغ فيها.

كان التناقض الخفي في دواخل كل منَّا يرصُد الأملَ اللامعلوم. تناقضٌ، وصراعٌ بين وجوديْنِ لا يكُفَّان عن التناحر: التفكير بالعودة إلى حيث المقام الأول لوجودنا في هذا الوجود العبثي، أو البقاء، حيث نحن، حيث شفاعةٌ لا شفاعة بعدها.

أليسَ عبَثاً أن يُفكِّرَ ريباز في الانتقال إلى أقصى القطب السويدي. يمتحِنُ عِنادهُ وإصْراره على زراعة تبغٍ أتى ببذاره من عِراق كردستانه، يُطاحِنُ به التُربة السوداء، تربة الأزل الأسوجي، مُقتنِعاً، بلا تردُّدٍ، أن قطعة من كبد الجبال في "كيرونا" هي في الأصل من كبد جبال الكُرد فلا بُد من ضخ دمٍ كردي في تعاريقه كي يعود يُجدِّد دم الكبد الأصل ـ كبدِ جبلٍ ما زال يَقلقُ منذُ سُرقَ من فلذة جبل قنديل على يد القراصنة الفايكنغ تهريباً في سُفنهم العملاقة؟

"سأروِّض كل المستحيلات. سأُزرعُ، وأُشيِّدُ حقولاً من تبغٍ كردستاني على أرض الاسكنْدناف. سأرفعُ، شيئاً فشيئا،ً علَمَ إمبراطورية مزارع تبغ آل يزْدو، وأجداد يزدو. سأجعلَهُ يُرفرفُ في آخر قمة من قِمم جبال كيرونا. سآتي بگلاويش إلى هُناك وأُنْجِبُ منها ما لايَقِلُّ عن عشرة أبناء أُزاوجهم ببنات من سُلالة السامي، سأُدوِّخَ جلال الجينات الأصل لشعب الاسكندناف عَجْناً بجينات كُردية، وأُأَسِّس، جيلاً بعد جيل، عشيرة دمُها خليطٌ من دم كُردي ودم اسكندنافي. عشيرة ينزلقُ وجودها على سكة المشيئة المُحسَّنة للنوع البشري ـ سكَّة الوجود النوعي الحديث. سأسميها عشيرة "كُرْدُناف". بهذه الطريقة سيستكين قلقُ الفخذ المسروق من جبل قنديل. هذا حُلُمي، يا هرميتس. كلُّ شيءٍ يبدأ بحُلم".

"أراكَ، يا ريباز، عُدتَ تستعير فكرتي الناقصةً بشأن الزواج من الجنس الاسكندنافي".

"فكرتك، يا هرميتس، بالفعل ناقصة. الثغرة النقصان في فكرتك ستُملأ بوَعْد الوجود الأكيد لحبيبتي گلاويش. يُرعِبُني التَيْه. أخاف أن تتيه روحي الناقصة الوجود هنا، ويتقصَّف كياني. السنوات الخمس التي مضت، لحد الآن، على وجودي في هذا الانكِماش الاسكندنافي جعلتْني أنصتُ إلى ارتجاج أفكاري وغسل ثياب الحنين بماءٍ بارد أدْرَد. لن أضحك على نفْسي. أقصى ما أتمناه من كردستاني هو زيارات مُتباعدة، لا غير".

علا عزيفُ الكبْت المحرور لسنوات ريباز الخمس، هنا. سنوات أمضاها مُغلَّفة بكتمان وحذر. فاضت حلاوة الوحشة. وحشة الوحدة. وِحْدة قذفت بريباز إلى ملجأ مُرتَّبٍ صدفةً، أو ربما بتكليفٌ من رب الصدفة للذين اختاروا أن يُسلِّموا أقدارهم إلى قَدَر الحِيْلة. أَتُرى، الحيلةُ، هي الخَلاص؟

مسحَ ريباز عن خدَّيْه أثلامَ جراحٍ تهيَّجت دمْعاً مقْصوفاً بشظايا الكحول المُهيِّج لهبوب مشاعرَ محْرورة. غمغمَ بكلماتٍ كرديَّة شاردة مخارج حروفها، أعقبها بعربية لم أتبيَّن إن كانت ترجمةً أم استكمالاً لها:

"يا قَدَري المشطور كتفاحةٍ مدوَّدة، يا قَدَري، يا ابن الزانية".

قفز ريباز إلى الحَمَّام. سمعتُ صوت ارتطامِ الماءِ مصحوباً بكلمات لا تصل واضحة. كلمات تُناهِشُ رشقات الماء كأنها تصطدم بحجرٍ.

عادَ ريباز بوجهٍ مُبلَّلٍ، وشعرٍ متناثر من هيجان الماء:

"الماءُ البارد نِعمة، يا هرميتس".

جلَّسَ ريباز جسدهُ الثقيل على أريكته، يفرك بيديه ما تبقى من قطراتٍ نازلة عن شعره إلى وجهه.

"لم تقُلْ لي، ماذا ستمتطي في كيرونا، يا ريباز؟ لا بِغال هُناك"، سألْتُه مُناكِفاً فكرة انتقاله الجهنمية.

"تحرَّيْتُ الأمرَ، يا هرميتس. لستُ غشيماً. لكل مِلَّة تعيش خارج المُدن وسائل للطواف. البرَكَة بحصان الدالا. ألم تسمع بالحصان السويدي العظيم الذي يسمونه (Dala häst)؟".

"لا يا صاحبي. لم أتشرف بمعرفتي بهذا الحصان ذي الإسم الغريب. أعرفُ أن ثمة كلاباً تسحب عربات الزحافات الثلجية، التي يستخدمها القاطنون هناك، كواسطة انتقال من مكان إلى آخر، أو هُم، على الأغلب، يستعينون بالوعول، أو ما يسمونها حيوانات الرنَّة". أجبتُ ريباز أُسْقي معلومته القديمة عن حصان الدالا بماء العلوم الأكثر حداثة في حياة قاطني جبال كيرونا.

"حصان الدالا هو حصانٌ جليلُ المقدرة، يا هرميتس. سيرته دوَّنها العابرون به، منذُ القِدَم، أرضَ أرخبيلات السويد. هو الجواد المُخْلص، الخاص بـ "أوديِن"، كبير آلهة أهل الشمال، القادر في السير على الماء، والطيران في الهواء. أحْلمُ إنْ يأخذني هذا الحصان، طائراً بِيْ إلى أرض كردستان. لكن لا بأس، سأستعين بالكلاب، وبالوعول. لكل مكان شقي، عصي على الطواف به، حيوانات رحيمة قادرة على ترويض جلال العبور من المكان المعلوم إلى أخيه المعلوم".

ـ أتَطْمَح لأن تصبحَ غنياًّ، يا ريباز؟

نظر ريباز إليَّ نظرة عتابٍ رجَّجَت خديه، كالمستثير من سؤالي المباغت. نفخ على الشمعات السبع، القابعات على الطاولة، فانطفأت.

سادَ جلْستنا ظلامٌ غلَّف صمتَنا. تضايقتُ من فضولي الأهْوَج. ردَّ ريباز على سؤالي بجُملٍ تاهت مخارجها في دبيب الظُلْمة:

ـ الغِنى ليس من أمنياتي. المهم أن لا أحتاجَ أحداً.، يا عزيزي هرميتس.

أعاد ريباز إشْعال الشموع تناوباً. اتكأ على أريكته صامتاً. زاغَت عيناه في الفراغ الذي بدا مُهشَّماً تحت سقف الغرفة. دار برأسه إلى الأنحاء الصامتة كمن يزِنُ ثقلَ وجوده طيلة أعوام في هذه الدار:

"سيملأُ العَدَم وجودي بعد الرحيل"، قال ريباز ناظراً إليَّ يستجير بصديق يفهم مُكاشفات شخصيته على حقيقتها. أضاف:

ـ أفضل ما أتمناه هناك، عند رحمة الجبال، أن أنتصِر على القسوة التي نشأتُ عليها. قسوة أُلْبِسْتُها عنوة قسْراً. هي لا تستقيم هنا، في هذا العالم الذي لن نتركه. هذا أفضل تعقيمٍ لي في بلاد الاسكندناف، يا صاحبي.

لم أتوقَّف عن التفكير، حتى، لثانية واحدة، وأنا أقطع المسافة بالترام، من شقة ريباز، عائداً إلى شقتي صباح اليوم التالي: أين سأجدُ مفتاح شقتي؟ كيف ستتصرف المرأة السمراء، وابنتها بيروت، حيال هذا الموضوع؟ ربما ستترك المفتاح لدى مكتب الاستعلامات عند مدخل العِمارة. لا يُعقل أن تترك باب شقتي مفتوحاً. هذا هُراء. لم أتفق معها، في الأمس، وأنا أتنازل، طوْعاً، عن شقتي لها، بارتباكٍ عفوي، أين يمكن أن تترك المفتاح. لم يخطر على ِبالي، وأنا أضع مفتاحي في يد الطفلة بيروت، ناظراً إليها، وإلى أمها نظرةَ إشفاقٍ؛ قبول عرْضي الرقيق بلسان القبول الصامت.

كل شيء تم، بيننا، بسرعة، ورضىً. أحْسبُ إنَّ الموقف، ذاك، كان موقفاً مُرْبِكا. لم أتحسَّب، حينها، لتصرفي هذا، أن تُفسِّره المرأة السمراء تفسيراً لا يليقُ بمبادرتي البريئة. لكن بيروت، الطفلة الوديعة، هي الوسيط الآمن لكبح بما لا يليق.

لم يشطحَ خيال الشكِّ، لديَّ، على الأقل، في الذهاب بعيداً إلى شيء دُبِّر بعَمْدٍ، وبسابقِ تخطيط.

الصدفة، أيضاً، أدخلَت أنْفَ فضولها ووضعتْني في هذا الموقف دون سابق تنبيه. لولاها، الصدفة اللعينة، ماكان لي أن أُوْضَع في موقفٍ كهذا، قد أحسِدُ نفسي عليه، لأني قدمتُ خدمة إنسانية لامرأة وابنتها، غريبتيْنِ، كما أنا، وتنازلتُ عن شقتي لهما، من غير معرفة مُسبَقة.

خجلي وارتباكي، لم يسمحا لي، حتى التفكير في أن أترك رقم هاتفي لدى السيدة السمراء، فما بالي لو طلبتُ أنا، رقم هاتفها كي نتفق على إرجاع مفتاح شقتي؟ أين ستترك المفتاح، إذاَ، حال عثورها على مفاتيحها، أو تسوية مشكلة فتح باب شقتها بالطريقة المناسبة؟

ـ جِدْ تبريراً، أو تقديراً لضرورة البرهة المفاجئة التي وضعتَ حالك فيها، في الأمس، وبلا مُقدمات، أو خُطط سبقَت اتخاذ قرار التنازل عن شقتك للمرأة التي كانت في محْنة.

حضر الوسواسُ سليلَ القلق الدُوني. لم ترُقّْ له حركتي العفوية في التنازل عن مفتاح شقتي للغريبة السمراء.

تراشقنا، أنا والوسواس، تراشقاً أخرسَ بحجارة الصواب والخطأ.

الوسْواسُ القوَّادُ ألْهَبَ مِزاجي، في الوقت الذي تجمَّد مُتدحرِجاً، سلساً بين لحظة صعودي الترام، حتى لحظة وصولي إلى عمارة سُكناي. أحسستُه وقتاً طويلاً لا يشتهي أن يهدِّأ طيْش مُراهقته.

هو وسْواسٌ نَكِرة يمسك، في تلك اللحظات، بلُبِّ غمغمَةٍ تمورُ في رأسي، من غلاصيمِها، مسكاً عنيفاً تارة، ورحيماً، في الأخرى:

ـ ماذا، يا تُرى، قالت عنكَ تلك المرأة السمراء بشعرها المُبلل من صفعات المطر، وصدرها المهتاج تحت قميصها الحريري الذي لم يسلم من عنف زخَّةٍ ماطرة؟

ـ هي لم تتقصَّد الأمر. كان الصحو بشمسٍ باذخة السطوع طيلة النهار. لكن، هكذا الأمرُ، أيها الوسواس، بعضُ غيومٍ تتسلل غدْراً، بلا سابق إنْذار. تتمادى على وجود الشمس فتنُثُّ بقرْعٍ أهْوَج ما اختطفتهُ من نعمة ماء الأرض بُخاراً.

المطرُ المفاجئ، مساء أمس، كان شرِهاً، متعطشاً إلى التحرُّش، كما يشاء، بجسد المرأة السمراء الرشيقة، بطولها المتوسطِ، ورَدْفيْها المُعْتصِريْنِ تحت بنطالها الجينز الأسود.

كان لا بُد من استسلام ثدييها، أيضاً، إلى بَلَلِ المفاجأة النازلة من حشرجة غيماتٍ طارئات، قرعاً متناطحاً من صدى الرعد.

وسْواسٌ ينطحُ وسواس:

ـ أتراها انتبهت إلى لحظات قنصكَ السريع لتقاطيع مُشتهاة من لفحِ ارتباكها العَذب؟

ـ ماهي الفكرة التي ارتسمت أمام عينيها، عنكَ؟

"أشْفقتُ على انذهالها المُخْرس، انْذِهالاً مُتطايراً، ببطءٍ حزين، من عينيها العسليتين، وأنا أضع مفاتيح شقتي في يد الطفلة الصغيرة"، أجبتُ السَيِّد الوسواس.

ـ لماذا خرجتَ مذعوراً، ولم تُطِلِ الوقوف؟ كان على فحولتك أن تُداري أنينَ ارتعاش السمراء، التي حشرَها القَدرُ اللئيم حشْراً غامضاً؟

استمرَّ الوسواس يُكرِّرُ أسئلتَه، هاذِراً بتأكيدٍ من لسان هذيانه، داخلِ رأسي، لغاية وصولي إلى مدخل بناية شقتي.

ولجتُ إلى داخل البناية. ألقيتُ التحية على موظفة الاستعلامات الشابة "كسانْدرا"، فردتَّ بتحية تصحبها ابتسامة مُتعبة ـ ابتسامة الإثْنين، أول يوم عملٍ بعد يومين استراحة. نقَّلتُ خطواتي ببطءٍ علَّ الموظفة تناديني، إن كان مفتاح شقتي قد تُرِك لديها.

لم تُسفِر بعض التخمينات التي تحضَّرتُ لها فيما يخص المفتاح عن شيء.

وقفت عند باب المصْعد. حضر، بعد ثوانٍ، منزلقاً على أوتارِ حباله الفولاذية السوداء، من الطبقة الثالثة. سحبتُ الباب ببطءٍ متأملاً، لآخر ثانية، نداءً يأتيني من وراء ظهري.

ظلت "كساندرا" على كسلها تُقلِّب بعض أوراق مرمية أمامها على الطاولة. دخلت المستطيل العجائبي الذي ينقلُ ركابه بدقائق مضغوطة بعد كبس على زر الرقم المطلوب. فتحت باب المصعد متجهاً إلى شقتي. وقفتُ لثوانٍ متلهفاً لسماع أغنية "وحْدُن".

هدوء يُطبِقُ غيومه، بصمتٍ مرعبٍ، على كيان الساكنين البناية. عشر خطواتٍ تبعد شقتي عن باب المصعد. لمحتُ، من أول خطوة، وأنا أنظر إلى باب شقتي: ثمة ورقة مُلصقة على الباب. أسرعتُ خُطاي، بارتباكٍ. قرأت ما كُتب على الورقة: "تحياتي. المفتاح في شقة 12 الطابق الثالث". انتزعْتُ الورقة. طويْتها واضعاً إياها في جيب بنطالي.

ركضتُ إلى الدرج متسلِّقاً، بخفة، إلى الأعلى، متجهاً إلى حيث الشقة المعنية في الورقة.

وقفتُ صامتاً أمام الباب. ارتباكٌ عجيب أصابني. هي نفس الشقة التي تسللت إليها، قبل أيام أتتبَّع مصدر أغنية فيروز. أأكون أخطأتُ الشقة؟ هو الرقم نفسه يلتمع على الباب عند الزاوية العليا، يساراً.

طرقتُ الباب، بخفة، طرقات ثلاث. انفتح الباب. كانت بيروت تبتسم برشاقة طفولية ساحرة. تبعتها السمراء واقفة خلفها:

"يسْعِد صباحكَ"، قالت السمراء.

"صباح الخير"، قلتُ رغم أن الساعة كانت بحدود الثانية عشرة.

"تفضل"، قالت السمراء تُزيحُ ابنتها مُفسحة المجال لدخولي.

ـ لا أُريد أن أُزعجكم. أتمنى أن كل شيء مضى على خير بالأمس.

"بفضل موقفكَ النبيل، أستاذ، كل شيء على خير. أجابت السمراء، وهي تُشير إليَّ بيديها أن أدخُل.

لا تختلف شقتها عن شقتي. كل الشقق بتصميم واحد في البناية. الفرق في تفاصيل الأثاث لكل ساكن: صالة صغيرة بمطبخٍ متواضع. طاولة مستديرة بأربعة كراسٍ. لا صور أو لوحات على الحائط، عدا مُلصق واحد بالأسود والأبيض لثلاثة شبان يبتسمون بثقة، بملابس عسكرية، وبنادق كلاشنيكوف، واحدة، على كتف كل منهم.

كانت أكفَّهم الأيامن فوق بعض علامة قسَمٍ على اتفاقٍ منذورٍ لا عوْدةَ عنه.

نظرتُ بتمعُّنٍ مُدهش إلى الأشخاص الثلاثة في المُلصق. لم يخطئ ظني أنهم ثلاثة فدائيين.

انتبهت الطفلة "بيروت" إليَّ، أُمعِنُ النظرَ إلى المُلْصق، وهي جالسة بقُربي، حول الطاولة المستديرة، بينما السمراء في الغرفة الثانية.

"أتعرفهُم؟"، سألتْني بيروت، وهي تُشير إلى المُلصق الكبير للفدائيين بملامح عربية واضحة، لكن بسحنات وجوه تتوزَّع بين البياض الخفيف والأسْمر الحنطي.

"لا"، أجبتُ بيروت الطفلة الرقيقة بعينينٍ سوداويْنِ تقفزُ منهما براءة ساخنة.

ـ هؤلاء أبطال. فدائيون، أوضحت بيروت، الطفلة البريئة.

خرجت السمراء، بعد أن غيَّرت بيجامتها مرتدية فستاناً فضفاضاً أحْمرَ بلا كُمَّين، كشف عن ساعدين بضَّين، مشْدودين. لملمت شعرها الأسود ربْطاً بشريطٍ عريض مورَّد.

"شرفتْتَنا"، قالت السمراء.

شكرْتُها على ترحيبها. مسكت برِكْوَة القهوة. ملأتْها ماءً، ووضعتْها على الفرن.

وقفت السمراء خلف بيروت واضعة كفيها على كتفي الطفلة. نظرت إلي، ثم إلى المُلصق. استدارت. أخرجتْ علبة القهوة. فتحتها. تطايرت رائحة البُن المُهيَّل:

"ما قهوتك؟"، سألتْني السمراء.

"ما زلتِ، كما يبدو، محافظة على تناول القهوة العربية، يا أم بيروت"، قلتُ للسمراء.

"أكيد. أنا لا أستسيغ القهوة السويدية"، أجابتني السمراء.

ـ لا بأس. أنا أشربها على ذوْقِكِ. لا فرق عندي، سيما أنا لم أتناول القهوة المهيَّلة منذ زمن طويل.

"القهوة تُحضَّر حسب مزاج شاربها واستطابته لها. هناك من يشربها مُدوَّخة بقليل من السكر فيسمونها "قهوة وسط"، أو من دون سُكَّر "قهوة سادة". أجابت السمراء على عدم تحديدي طبيعة قهوتي. أضافتْ:

ـ لا مُجاملة على شرب القهوة، ياجارنا اللطيف. ما قهوتك. لا تنْحرج؟

"أنا أفضلها سادة، من دون سكَّر"، قلتُ لها.

ـ أتُحبَّها بوجه أم من دون وجه؟

ارتبكتُ بِمَ أُجيبُها. سألتُها:

ـ ما الفَرْق؟

ـ قَصْدي، أتُحبها برغوة البُن طافحةً على سطح الفنجان أم من دون؟

ـ ابتسمتُ لها ابتسامة العارفِ بأسرارِ رُغى البُن:

"أتقصدينَ موجة من زَبَد البُن طافحة من قهقهة البُنِّ مُذوَّباً بالماء؟".

ضحكت السمراء على فذلكة الشرح المُضاف من عندي على إيضاحها لوجه القهوة.

ـ بالضبط. زُبدة البُن الطافحة قبل أن تغلبها فورة مفاجئة.

"لا بأس. أشتهي سُلاف البُن، عزيزتي أم ....."، قاطعتْني قبل أن ألفظ اسم ابنتها بيروت. استدارت نصف استدارةٍ. قالت:

ـ أنا سارا. اسمي سارا.

"تشرفتُ"، قلتُ.

وضعتْ سارا، فنجانين صغيرين على الطاولة. دلقت لي من ركوة القهوة في فنجاني، ولها أيضاً.

"ليست غريبة عني أجواء شرب القهوة عند أهل الشام، في الأخص صباحاً، مصحوبة برقة صوت فيروز"، قلتُ لسارا أجاملُ كرمها في قهوة أصيلة. "إنكُم تطبخونها على نار هادئة. أما ما يخصُّ مدائح الفناجين وهيبتَها وترفَها فيتغزَّلُ بها ويُحاورُ قهوتها كلٌّ حسْبَ مزاجه، أنتُنَّ النسْوة على وجه الخصوص، لذا أعتقد أنكِ لا تُفضلين قهوة السويديين، فتأتين بِبُنِّك مُحمَّصاً، مُهيَّلاً، جاهزاً في أكياسٍ ورقٍ مُلوَّنة. أهل الشام يؤمنون بأن قهوتهم تأتي محمَّلة بالبَخْت فيستمتعون بتفسير ما يتبقى من البُن في الفنجان بعد قلبه في صحنه كي يسيح الثفْلُ المُركَّز في القعر على سطح الصحن، ثم يُرفع الفنجان، ويُفسَّرُ مما رسمه من خربشاتٍ، أتُوافقينني رأيي هذا، يا سارا؟".

ابتسمت سارا ابتسامةً ارتخت لها شفتاها علامة امتنانٍ وإعْجاب، موسِّعةً بين جَفْنيْها العريضَيْن، بلا تشْذيبٍ، كاستحسانٍ على كلامي. أضافت إلى قوْلي تأكيداً:

ـ مثلما تفضلت حضرتك. لأهل الشام تقاليد مميزة في شرب القهوة. امْدَحْها كما تشاء. شكراً على إطْرائك الرومانسي، أنا أفضِّل شرْب القهوة المُهيَّلة، وأشْربها طافحة برغوتها.

اختفت الطفلة بيروت، مع ألعابها في الغرفة الثانية من دون أن أنتبه لها.

جلست سارا قُبالتي. دغدغة أغنية "وحْدُن" تُناكفني. هل أسألها؟

قفزت سارا إلى آلة تشغيل أشرطة الأغنيات والموسيقى. كبست على زر التشغيل. دارت أغنية "وحدن"، من دون مقدمات. عادت وجلست.

ابتسمتُ ابتسامة هادئة بوجه سارا. نظرتْ إليَّ نظرةً وشَحتْها بِبَسْمة خجولة. رشفت من فنجان قهوتها.

"أتُحب فيروز؟"، سألتْني سارا.

ـ مَنْ مِنْ أبناء الشرق، بالذات أبناء وبنات بلاد الشام المهاجرين إلى بلاد الصقيع، لا يُحب فيروز؟ أو لا يشربُ قهوة الصباح إلاَّ ويكون طعمها مُرافقاً لنديم صوتها، صوت هديل الحسُّون والكناري، عبر المذياع أو من خلال تدوير بكرات أشرطة الغناء والأقراص الرقيقة المُمَغنطة، التي نافستْها لاحقاً، وبخاصةٍ في صباحات شتاء المنفيين والمهاجرين العَكِر، الثقيل، المُغمضُ بظلامه وبرده، فيخفِّفونَ محنةَ شتائهم ويُروِّضونه، مَجازاً، بوداعة صوت فيروز، يطلقونهُ، عذباً، قبل قرقرة رغوة البُنْ في دلَّة القهوة، تَنْضجُ فَوْحاً، في حنوٍّ؟

كان سؤال سارا فرصة تأتَّت لي، الآن، كي أجد مدخَلاً لمعرفة سبب تكرار أغنية "وحدن". أضفتُ إلى إطرائي على متعة سماع أغاني فيروز:

"أحبُ سماع معظم أغانيها، عزيزتي سارا، وليس أغنية واحدة، لكنني لا أُحب سَماع ألأُغنية الواحدة أكثر من مرة في وقت واحد، لأي فنان كان"، أجبْتها تنبيهاً لتكرارها هذه الأغنية التي دوَّخت كياني كل يوم وهي تُسْمَع في أرجاء البناية.

"إلاَّ هذه الأغنية، بالذات"، أجابتْني سارا كأنها تؤكد على أغنية "وحدن".

رفعت سارا رأسها ناظرة إلى الأشخاص الثلاثة في الملصق الذي على الحائط:

"أغنية "وحدن"، كُتبت عن هؤلاء الأبطال الثلاثة"، قالت مشيرة إليهم بتدويرٍ من سبابتها اليمنى.

فاجأتْني سارا بهذه المعلومة. موَّهْتُ التفاجُؤَ بسؤالٍ سريع:

"أتعرفيهُم؟ هل التقيْتِهم؟"، سألتُها بعد أن راق المزاج، قليلاً، ولانَ حديث المُجاملات بيننا.

ـ هؤلاء أبطال عملية الخالصة التي نفذوها في مستوطنة "كريَّات شمونة" الإسرائيلية.

وقفتْ سارا. اقتربت إلى حيث ملصق الفدائيين على الحائط. أشارت إلى الشخص في اليسار:

"هذا المُقاتل منير الفلسطيني، وهذا، في الوسط، المُقاتل السوري أحمد، أما المُقاتل الثالث فهو ياسين العراقي، من بلدك".

"كيف عرفتِ أنني عراقي؟"، سألتُها.

ـ تطفر لهجتك العراقية بعِناد رغم مُحاولتك التحدث بلهجة بلاد الشام، يا عزيزي. لهجتكُم معجونة في دمي. الفدائي ياسين كان ينطقُها بلسان أهل الجنوب بطريقة ساحرة، أجابت سارا بشيء من التأثر.

كَطَبْعي الدائم، السريع، إن قرأتُ علامات حزنٍ، أو تحسُّرٍ على أي شخص، أُحاول، سريعاً، تلطيف، أو تغيير سياق التأثُّر بليِّه وإبعاده عن جو المحادثة.

فكرتُ أن أسأل سارا إن كانت، هي وابنتها، قد أمضتا ليلة مُريحة في شقتي. هي لم تتطرق إلى ليلتهما تلك في شقة رجل غريب. لمحتُ مفتاح شقتي على الرف الوسط لمكتبة من أربعة رفوف مستطيلة، صُفَّت عليها بعض كُتُبٍ.

التَقطَت سارا ملامِح فضولي وأنا أنظر، من بعيد، أسْتَبين عناوين بعضها. لم تتأخر سارا في تليين فضولي هذا. قالت:

"ما لديَّ من كُتُبٍ لا تُساوي عُشْر ما لديك من كُتُبٍ رائعة ومُدهِشة في شقتكَ"، قالت سارا. أضافت:

"سمعتُ أن شاعراً عربياً يسكنُ عمارتنا هذه، أأنتَ هو؟". رمت سارا سؤالها مُوسِّعة عينيها البُنِّيَتَيْن، كأنها تتأملُ رداًّ إيْجاباً على سؤالها.

ضحكتُ بخجلٍ أُلَمْلِمُ به ما تبعثرَ من حروفٍ تصاعدت من نبضات قلبي، مُتلاطِمةً على جرف لساني. حاولْتُ أن أُجيب سارا جواباً أقرب إلى الحقيقة منه إلى المُجاملات:

ـ لستُ شاعراً، كما سمِعْتِ. قد أكون مِمَّن يهتمون بالشِّعْر، والأدب بشكل عام. لي محاولات في كتابة الشعر، لكني لم أنْشُر ديواناً لحد الآن.

"هل يُمْكِن أن يتعرَّضُ شاعر ما للمُحاكمة، لمجرد أنه شاعر؟"، سألتْني سارا، ثم أضافت: "استوْقَفَني، بلا فضولٍ مني، كتابٌ كان على طاولة مطبخِكَ، يخص شاعراً روسياً حوكِم بتهمة كتابة الشِّعْر".

التقطْتُ سؤالَ سارا بلا استغرابٍ. تذكَّرْتُ أني كنتُ أقرأ، يومَ أمس، في كتاب: "محاكمة برودسكي"، الشاعر الروسي.

"تقصدين "برودسكي"، أليس كذلك؟" سألتُ سارا، بعد تأْكيدٍ، أنها رأت الكتاب الذي تركتُهُ على الطاولة في مطبخ شقتي.

"ذُهِلْتُ، فِعْلاً، من محاكمة الشاعر برودسكي. قضيتُ الليل، تقريباً، حتى الصباح، وأنا أقرأ في الكتاب. لقد تَركَ لديَّ أثراً مُفْزِعاً. أرجو أن لا أكون قد تطفَّلتُ عليك. كان الكتابُ يحتوي على بعض من تعليقات مُثيرة على هوامشه. أفتَرِضُ أنها تعليقاتُك"، قالت سارا ببعضٍ من إحراجٍ ارتسم على وجهها.

"لا بأس. وجدتِ، على الأقل، ما يُسْعِف قلقُكِ لحادثة أمس في فقدانك المفاتيح. محاكمة الشاعر برودسكي، ربما، هي أول محاكمة في زماننا هذا"، أجبْتُ سارا بسلاسة، دون اعتراضٍ يجعل قراءتها الكتاب تطفُّلاً منها.

"كان أمراً مُفْزِعاً فقداني مفتاح شقتي. لقد حصلتُ على بديلٍ من موظفة استعلامات البناية. استنسختُ ثلاثة مفاتيح كي أحتاط للأمر مستقبلاً"، قالت سارا. أضافت:

"هل نعيشُ حالة من الخيْبَة، يا أستاذ؟"، سألتْني سارا وهي تدْلقُ، من جديد، القهوة في فنجانيْنَا، بعد تجديدها.

ـ اسمي هرميتس، يا سارا. لا داعي لمُناداتي بالأستاذ، رجاءً. هذه الصِفة تُربِكُني. لا أحبها.

"كما تشاء عزيزي هرميتس"، أجابتْني وهي تُداري رجائي. قفزت إلى غرفة المنام، وعادت ببعض أوراقٍ حُفِظَت بمُغلَّف بلاستيكي شفاف. جلست. سحبت الأوراق من المغلف:

"نقلتُ بعضاً من فقرات استوْقفِتْني في كتاب المحاكمة، وعادت بي إلى سنوات مضت من حياتي. رجرجت، في روحي، جَدَلاً يمورُ في عقلي: هل نحنُ، الذين أضطُرِرْنا لمغادرة بلداننا، نعيشُ الخيبة، هنا، خيبة الفقدان؟"، استرسلت سارا، قافزة من سؤالها، تقرأ فقرة استلتْها من الكتاب: "عندما نغادر البلدان التي طُرِدْنا منها، تصبح الخيبة عنصراً في الوجود، وتَقِل حماستنا الحيوية التي تحتاجها المشاريع الكبرى".

توقفت سارا عن القراءة. رفعت رأسها تنظر إليَّ مُتأمِّلة تعليقي على ما قرأتْ.

رمَيْتُها بنظرة صامتة، متأنية. رفعتُ فنجان قهوتي مرتشفاً القليل المتبقي فيه. دوَّرتُ سبابتي نصف دورة على شفة الفنجان. غطَّيْت الفنجان بصحنه، ثم قلبْته، وأعدتُه إلى الطاولة.

رمَتْ سارا فنجاني المقلوب في صحنه بابتسامةٍ. ساد صمتٌ، لا خِلافَ عليه بيننا، كما بدا لي. صمتٌ تعمَّدتُ، عبره، أن أُوصِلَ لها بعض تحسُّرٍ، وارتباكٍ من غصَّةٍ غائرة في مرآة الروح.

"لا أُحبُ أنْ أُجيب، على سؤال كهذا، بِنعَم أو لا، يا سارا. هذا السؤال بحاجة إلى التأمل. بعض الأسئلة تحمل افتراضات مُقلِقة بين الشك واليقين".

وكَطبْعي ـ طبع عدم استساغة المُماحكات مع إمرأة جميلة، لا أُحبِّذُ سؤالاً يستفيقُ منه جواب يستولِدُ سؤالاً آخر، وهكذا. أفضِّل أن ألجأُ إلى لَيِّ الحوار ونقله إلى الانعطاف نحو ضفةٍ إفتراضية أخرى.

نظرتُ إلى فنجاني، نظرة خاطفة، ثم إلى سارا بابتسامة يُدغدِغُها الحَرَج، والرغبة في لُعبة قراءة الفنجان.

رفعت سارا فنجانها ضماًّ براحَتيِّ يديها شَبْكاً، كأنها تشْتهي دغدغةَ دفءِ القهوة. حشَرتْ حافة الفنجان بين شفتيْها الحْنْطيَّتيْنِ، المكتنزتين شهوةً، والمُحنَّاتين بِسَمارٍ ربَّاني. ارتشفتْ، ببطْءٍ أخْرَسَ، قطراتٍ من بقايا قهوتها. نظرت إليَّ نظرةً بتقطيبٍ خفيفٍ بين حاجبيها السوداوين، العَريضيْنِ؛ نظرةً مُخفَّفة بابتسامةٍ، علّقَت على مشجبها أسئلة لا تشتهي إجابة عليها.

صمْتي الداخلي سألها، من عينين، بلا لفظٍ:

ـ مَنْ يكون هذا الغريب الجالس أمامكِ؟ هل الصدفة جعلت رجُلاً لا يمتُّ إليكِ بصلةٍ، أن يجلسُ قُبالتَكِ في شقتك، مع طفلتُكِ؟

كانت نظراتها مُندهِشةً، شبه مُنسرِحة. لم تبعث فيَّ رغبة عاطفية. نظرة شِبه باردة تتدفَّأ من دفءِ الفنجان.

لا أتحمَّل النظرات الجامدة، بتركيزٍ صامت، من امرأة. إنها تُذكِّرُني بنظرات القطَط المشْبوهة.

تتبَّعْتُ، بفضولٍ أخرَس، حركة خفض يديها بالفنجان مع حركة عينيها اللتين دلَّتا الفنجان إلى موقعه الصحيح. لم يرتطم الفنجان بصحنه. أعادتْه إلى الطاولة مقْلوباً على صحنه، كما فعلتُ أنا مع فنجاني. جلسَ أخرسَ كفضولي الأخرس.

أشرتُ، دون أن أنظر، إلى مُلْصَق الفدائيين الثلاثة:

ـ كنتُ هناك، يوماً، يا سارا.

"أين؟"، سألتْني سارا باندهاشٍ طفَرَ من وجهها المُدوَّر الصافي، إلاَّ من شامةٍ صغيرة تحت أذنها اليسار.

ـ هناك، حيث كانت بيروت، يوماً، بيروت.

قفزت الطفلة بيروت آتية من غرفة المنام. أطلَّت برأسها باسمةً:

"هل ناديتما عليَّ؟"، سألت بيروت وهي توجه نظرتها إلى حيث تجلس أمها.

"لا، حبيبتي. كنا نحكي عن مدينة بيروت، يا مدينتي الحلوة"، أجابت سارا طفلتها.

عادت بيروت تنشغل بألعابها.

"هل تُحْسنين قراءة البَخْت، يا سارا؟ هل فعلتِ، سابقاً، الأمرَ مع غريب مثْلي؟"، سألتُ سارا.

قهقهت سارا بحشرجةٍ خفيفة.

"ما أحْسَنَك"، أجابت. أضافت:

ـ هل تؤمِن بالحظِّ، يا هرميتس؟ أنا لا خبرة لدي في قراءة الفنجان. أفضِّل أنْ يُقرأ لي فنجاني، لكن لا بأس هي نوع من التسلية. هي بِدْعَة، تسلية باسم الخُرافة.

"أعْجبتْني كلمة خُرافة، يا سارا. لكن لا بأس، لرُبما نعثر على بعض حظوظٍ في الفنجان"، قلت لسارا سعياً أن أُطيل الجلوس معها.

بدأتُ أكتشفُ، في شخصية سارا، أنها إمرأة غير مُمِلًّة، ولها بعض اهتماماتٍ بشؤون قريبة من مزاجي الثقافي.

مسكتْ سارا بفنجاني. دوَّرَتُه بين أصابع يدها اليسرى. ركَّزتْ تُبصِّرُ بجَدٍّ، أو تسلية، في الحظوظ. دوَّرتْ عينيها تستجلي غيْبَ المعاني في التعرُّجات الحِيَلِ.

نظرتها إلى باطنِ الفنجان شعَّت منها ابتسامة ذابت مُتسلِّلة بتهذيبٍ ناعم إلى ما تتأمَّله، وهي تستجمعُ ما سترسمه لي بكلماتٍ، أو إشاراتٍ، من وهجِ عينيها على ما ارتُسِم من خربشات لبقايا ثفْل البُنِّ على جدار الفنجان الأخرس. تنحنحتْ:

"سَمَك. حَشْدُ سمكٍ يتناطح مختنقاً من لُجَّة الماء. سمك ينوي الانتحار، يا هرميتس. أنت مُقبل على مفاجآت سارَّة، كما يبدو، في قابل أيامك. السمك بُشرى خير دائما، أضافت سارا".

"صيدُ السمك من هواياتي الباردة، يا سارا. ما الناقِصُ في بَخْتي؟ أعْني أثمتَّ نداءٌ، غير نداء السمك يرتجيني؟ لي فضول أن أعرف"، قلتُ لسارا كَمَنْ مُصدِّق كشف الغامض في قعر الفنجان.

أعادت سارا فنجاني إلى صحنه. نظرت إليَّ بحنوٍّ بريءٍ تتمحَّص بنظراتٍ صامتةٍ خجَلي الذي وتَّرَ عضلات وجهي.

قرَّبت سارا وجهها أكثر إليَّ تستقرئ الاحراجَ من طلبي الساذج. تكشَّفَت، أكثر وضوحاً، خطوطَ تجاعيدٍ رفيعة من جهتَيْ عينيها تحت حاجبيها الأسودين العريضيْنِ.

منذُ متى كنتُ أصدِّق بهذه الخزعبلات؟

شممتُ رائحة أنفاس سارا الرطبة. خفتُ. أرجعتُ ظهري مستعيداً اتكائي على ظهر الكرسي الخشب.

"عليكَ أن تطردَ أشباح المحكمة من شقتك، يا هرميتس"، قالت سارا، بلا تردُّدٍ، وببعض الجدِّ في طلبها.

ـ أهذا ما أنبأَكِ به بختي في الفنجان، يا سارا؟

"دعك من خُرافات التبصير، يا عزيزي"، أجابتْني سارا، ثم أضافت: "أنا أتكلم بجدْ".

ـ لم أفهم قصدك، يا جارتي العزيزة، عن أي محكمة تتحدثين؟

"محكمة، حضرتها، ليلة أمس. محكمة ومُحاكمة"، أجابتْني سارا. أضافت: "كنا معاً، ليلة أمس، أنا وأنت، في المحكمة. أنت كنت المدوِّن لما دار في الجلسة. لم يكن لك شأن في القضية. مجرد مُنتدب لتدوين أقوال الشهود والجاني، والمجني عليهم".

ضحكتُ من فذلكة سارا المفاجئة. نقَّلتُ بصري بين الفنجانين على الطاولة. مررتُ بنظراتِ مُزاحٍ واضحة على محتويات المطبخ. عدتُ أتطلّع إلى سارا أستجلي استدارتها انتقالاً إلى موضوعٍ غريب لا صلة له بكل ما يربط معرفتنا ببعض خلال َ يوم وليلة.

استمرأتُ اللعبة، كما بدت لي طريفة.

سألتُ سارا:

ـ وأنتِ، يا سارا، ما دوركِ في محاكمة أمس؟

"أنا كنتُ من المشتكين. كنت ضمن بعض أشخاص مظلومين، من الحاضرين".

"من الجاني، يا سارا، ما اسمه؟".

"القَدَر"، أجابت سارا بصوتٍ غلَّفتْه بشيء من السخرية.

ـ من المجني عليهم، إذاً، طالما هناك جانٍ؟

"نحنُ"، أجابت سارا تُشيرُ إلى نفسها ثم إليَّ بتأكيدٍ من سبابة يدها اليمنى.

"أثمت شهود كانوا حاضرين الجلسة؟"، رميتُ سؤالي على سارا بشيء من السخرية المرَّة، مُدْرِكاً استعارتها المحكمة، ربما، للمصير الذي قادنا إلى هُنا.

"نعم، ثلاثة شهود رجال، أكَّدوا على ما فعله الجاني بنا بأدلَّة لا يُمكن دحْضُها"، قالت سارا تأكيداً، ببداهة لا جدال فيها.

"هل تعرَّفتِ على الشهود؟ هل تعرفينهم سابقاً؟"، أعدتُ سؤالي على سارا استناداً إلى إصْرارها على وجود شهود حقيقيين بأدلة ملموسة لديها، لا تقبل الدحْض.

"نعم أعرفهم"، أشارت إلى مُلصق الفدائيين الثلاثة المعلَّق على حائط المطبخ.

ـ لِمَ اخترتِ الفدائيين الثلاثة، هؤلاء، كشهود في قضية عامة، غير معروف فيها الجاني، على حقيقته قائماً، يمكننا رؤيته، والتحدث معه، أو مسكه ووضعه في قفص الاتِّهام، يا سارا؟

"هؤلاء الأبطال الثلاثة يعرفون الجاني على حقيقته. هم خطفوه، واختاروه، بقناعة تامة كدليلٍ إلى الشهادة، ومُتَّهَم، أيضاً، يا عزيزي الشاعر هرميتس".

ردَّت سارا على استفساري بجوابٍ مطحونٍ، أخرجته من أعماقها حفراً بفوهة بندقيةٍ، تعبيراً عن مُقايضة أرواح شبَّانٍ ثلاثة بعملية فدائية كوعيد للمحتلين: إننا هنا نقضُّ مضجعكم متى نشاء.

ـ لكن، يا عزيزتي سارا، هؤلاء الشبان الثلاثة أصبحوا في عِداد الموتى، فكيف تنتدبينهم شهوداً على قضية معقَّدة، لا برهان فيها لتحديد المتسبب الرئيس في مصير الكثير من البشر؟

ـ هُم يرون ما لا نراه. شهادتهم لا تقبل الدَّحض، لأنهم موتى. كل شيء يبدو، من الأعلى، أكثر وضوحاً. هم يرون ويشخِّصون الأشياء أفضل بكثير ممَّا نراه نحن، هنا تحت، بأعيننا.

"كيف انتهت المحاكمة، يا سارا؟، أنا لا أتذكر خاتمة الجلسة، هل كسبناها لصالحنا؟"، سألتُها مستعيداً بخيالي صوراً من أجواء محكمة على حقيقتها، كمن دخل طقساً جاداًّ في ما سورت به سارا جلستنا الصباحية تلك.

ـ ما زالت المحاكمة قائمة. تأجلت جلسة ليلة أمس، إلى ليلٍ آخر، حسب المزاج، وحسب القَلَقِ الذي ينتابُ الجاني، وتنبؤات المجني عليهم. المحكمة منحت فرصة جديدة للجاني لتقديم مبررات جريمته، التي لا يعتبرها جريمة مع سبق الاصرار، لكن بترصُّدٍ فضولي غير مقصود. سأعلمك، في الوقت المناسب، يا هرميتس، حين أُبلَّغ بموعدها. أنْتظرُ تبليغاً من السيدة "طَيْف".

ـ السيدة طيف؟ من تكون هذه المرأة، يا سارا؟

ـ القاضية اسمها طيف، يا هرميتس.

"أنتِ مجنٍ عليها، فقط، يا سارا. ما علاقتكِ بالقاضية، إذاً؟"، رميتُ سؤالي عليها ببعضٍ من تعجُّبٍ، وفضولٍ جادٍّ، أملاً في مسك بعضٍ من خيوط حظها العاثر الذي رماها هنا.

ـ لأني أتيتُ بشهود يملكون برهاناً ناقصاً كوجودنا الناقص، هُنا. الشهود يعتقدون أننا، في هذا العالم القلق، بإمكاننا أن نُكمل البرهان على إثبات الحقيقة، لكن القاضية لم تُعلن صراحة اسم الشخص الذي أتى بالشهود إلى المحكمة، خوفاً على مصيري، لذا وعدتْني أنها ستبلغني بموعد كل جلسة جديدة. عدم وجودي يعني عدم وجود شهود.

ـ ولِمَ لا تنعقد المحكمة إلاَّ ليلاً، أيتها الشاهدة المتفرجة المنتظرة حُكمَ قضية لا نهاية لها، كما يبدو، يا سارا؟

"الأمر سيَّان بالنسبة للشهود فيما يخص الوقت"، أجابت سارا تُشير، مرة أخرى، إلى ملصق الشهداء الثلاثة: هؤلاء متوحدون مع الزمن. الليل والنهار، في عالمهم العَدَم، هو واحد. المشكلة عندي أنا. هُم يزورونني ليلاً، ثم، ألا ترى أننا نعيش في عالم تكتنفه العَتْمة أكثر من الإشراق، يا هرميتس؟ هنا، يختلط علينا الأمر حيث لا عَدَم، لا توحُّدَ للزمن. الوقتُ مَزاجيٌّ على الأرض. الزمنُ دوَّارٌ، والمصائر تتبعه. زمنُنا ذو مقالب، لا وحْدة له".

بدأتُ أختنق. كنتُ بحاجة إلى سيجارة اطفئ بها حرقة الحوار الفنطازي بيني وبين سارا.

نظرتُ إلى المُلصق. رجَّت ابتسامة الفدائيين الثلاثة، وهُم يتصافحونِ بثقة، أعماقي. أحسستُ برائحة احتراق في جوفي. كنت بحاجة إلى أنفاس دُخان تُهدئ من روْعي، لأعرف لِمَ قادتني سارا، بلا مُناسبة، إلى أجواء محاكمة، جانٍ، ومجني عليهم، وشهود أموات، أحياء؟

افتعلتُ حركةً مقصودة. تحسستُ علبة الدُخان في جيبي. أخرْجْتها. فتحتُ العلبة. شممتُ اللِّفافات بهدوءٍ مؤدب. أعدتُ العلبة إلى مكانها.

ـ أتُدخِّن، يا جارنا العزيز؟

"أحياناً"، أجبتُ سارا. "عندما تنتهي جلسة المحاكمة، وأترك محاضرها بين يدي القاضي، أهرع، بسرعة، للتنفيس عن غضب المماحكات في صالة المحكمة بتدخينِ لُفافة يُطوِّقُ تبغها غضبي، ويُرْخي ما تراكمَ من غضبٍ، أو استفزازٍ طوَّقتني به مماحكات وحِجَج تُناور غريمتها الحِجج، ولا أمْر حاسماً في ختام الجلسة التي تُدفعِ إلى التأجيل هروباً مؤقتاً في نصيب نهائي بين الجاني والمجني عليه"، ضحكتُ بوجه سارا وهي تُصغي إلى تبريراتي بعينين اتسعت حدقتاهما، محاولة ترطيب جلستنا.

قفزت سارا إلى خزانة من خزانات مطبخها. فتحته وتناولت منفضة، وعلبة كبريت صغيرة. وضعتهما أمامي، على الطاولة:

"تفضل، خُذ راحتك"، قالت سارا.

ـ لا يجوز، يا عزيزتي. التدخين في الشقة يُعكر مزاج الهواء النقي فيها، ثم لا أريد أن أُزعج طفلتك بيروت بدُخاني. لا بأس، لابد أن أُغادر الآن، سأُدخن خارج البناية.

"لا عليك"، قفزت سارا وفتحت دفَّة شباك المطبخ. عادت وجلست في محلها قبالتي:

" دخِّن"، قالت. "أنا بحاجة أن أتنشق بعضاً من دُخان سيجارتك".

ـ أتُدخنينِ، يا سارا؟

"لا، لستُ مُدخِّنة"، ردَّت سارا بتأكيدٍ. فتحت فمها. أشارت إلى صفِّ أسنانها اللاهجة بياضاً، أنها لا تعبثُ بالدُخان.

"أستطيبُ دُخانَ التبغ مُتطايراً، أو الجلوس مع المدخنين. أتلذَّذُ برائحته مُعشَّقاً بأنفاس الآخرين فاشتنشق ما يتطاير من أنفاسهم بلهفة المُدْمِن".

"أتفضلين أنفاس دُخانِ ذكر أم أُنْثى، ياسارا؟"، رميتُ استفساري بشيء من الدعابة.

"الأمرُ سيَّانَ عندي. لا دُخان ذكوري، أو أنثويٌّ، يا هرميتس"، أجابت سارا بشيء من الجدِّ.

ـ أنا أختلف معك. دُخان أنفاس الأُنثى أشهى، وأكثر رقَّة، يا سارا؟

لَجَمتْ سارا تعليقي بصمتٍ مقلِّصة ما بين عينيها، فأعَدْته إلى حيث أخرَجْتُه من علبة الطرافة، أو، ربما، أخطأتُ التقدير في رميه بلا تقديرٍ مُسْبق، مُغلَّفٍ بإيحاءاتٍ جِنْسيَّة.

أبديتُ إصْراراً في عدم التدخين في شقة سارا:

ـ لا بأس يا سارا، ربما يتكرر لقاء اليوم بيننا، في فضاءٍ أفضل للتدخين.

لم أشعر أن الظرف مناسبٌ لأشرح لسارا مزاجي في التدخين، إذ أفضلُ نكهة الدُخان عارياً، حُراًّ، طرياًّ، في عبوره من فمي مرتطماً بالرئتين، دون تطفُّلٍ على من يُزعجه دُخان سيجارتي، فربما يلعنني في سرِّه.

أخافُ اللعنات المُسْتترة. أحبها تُقال في وجهي صراحةً، مثلما أُتلذَّذُ بحرقة التبغ يولولُ مُسْتطاباً بصمته. أتلذذُ بجروح الدخان دون أن يجرح الآخرين، من غير المدخنين، لذا أبحث عن فضاءٍ عارٍ، مُطلق، تُذوَّبُ فيه أنفاسُ دُخان زفيري بغمضة عين.

افتعلتُ، أمام سارا، حركة من يدي، أن تجلُب لي المفتاح.

قفزت سارا إلى المفتاح المرمي على الرف:

"تفضل، قالت. موقفك لا يُنسى، يا جاري الطيب. امتناني بلا حدود. أتمنى أن أستطيع رد الجميل بأقرب وقت.

"لا. ليس من داعٍ للإمتنان"، قلت لسارا وأنا أهم بالخروج.

وقفت عند مدخل شقتها حذاء المشجب الخشبي للملابس، بجانبه مرآة بيضوية كبيرة. قفزت بيروت، الطفلة الوديعة، خارجة من غرفة النوم. وقع نظري على صليب خشبي، داخل الغرفة، غريب الشكل أثار انتباهي، عُلِّقَ بزاوية منحرفة، جزؤه الأفقي تمتد يدا يسوع عليه في هيئة قوس ، أما العمودي، فرأس يسوع المصلوب إلى الأسفل وقدماه إلى الأعلى، بجانب رفٍّ صُفَّت عليه مجموعةَ صُورٍ مؤطَّرة لم تتوضح لي ملامح أشخاصها. خمَّنتُ أن يكون المسمار مرخياً، فانحرفَ الصليب، ولم تنتبه سارا للأمر. يسوع المصلوب على صليبه الكبير، بحجمِ 10 سم طولاً، و5 سم عرضاً ـ تقديرٌ تقريبي من أول نظرة لي إليه. أما الخِرْقة التي تحجبُ ذكورته، شبة منتفخة، شبه محلولة عن عقدتها. قدما يسوع تستريحان على سلَّة من القَش، في أعلاها رأس تُفَّاحة. تصورتُ أن الصليب قد قُلِب دون قصْدٍ.

التقطَت سارا نظرتي الخاطفة إلى الصليب. تمعَّنت فيَّ تستجلي استغرابي، ربما. أعادت التحديق إليَّ بابتسامةٍ قلَّبت فضولي الآسر. لم تُبدِ أيَّ تعليق. غمْغمتُ، استفساراً، بلا نُطْقٍ، ناظراً إليها، وإلى الصليب في وضعه الغريب.

صافحتُ سارا شاكِراً، وربتُّ على رأس بيروت. فتحتُ الباب، وقبل أن أخرج، رميتُ على سارا، أشارة، من يدي اليمنى إلى الصليب انبِّهها أن تُعيد تعليقه بشكله الصحيح.

"لكلٍّ صليبه، يا جاري العزيز"، قالت سارا مُبتسمة ابتسامة عريضة من شفتين زادهما الجفاف روْنقاً.

ـ سأُخبرُك بموعد الجلسة القادمة للمحاكمة، يا هرميتس.

مشيتُ منصرفاً، أقطع الممر نزولاً إلى شقتي. استدرتُ متوقفاً:

"أتمنى أن يكون بأسرع ما يمكن، يا عزيزتي سارا". رميتُ التمني مشيراً لها بيدي اليمنى علامة وداع.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم