سكنت مدينة الرياض (العاصمة) منذ طفولتي، وكنت محظوظاً بأن أخوالي لازالوا يسكنون في مسقط رأسي (الخرج) وفي مزرعة بمحافظة الدلم تحديدًا وعلى ضفاف وادي تركي، قريبة من وادي وثيلان، وفي مرحلة دراستي الابتدائية، كنت أقضي معظم إجازتي الصيفية في تلك المزرعة الجميلة بنخيلها وحيواناتها، وطيورها، وقبل ذلك بأهلها وجيرانها، وعذريتها حيث لا كهرباء، ولا وسائل اتصال حديثة أو قديمة، سوى بعض أجهزة المذياع ومشغل الأسطوانات قليلة الانتشار، وتعتبر السيارة ومكائن ضخ المياه من الآبار أقصى ما استوعبتْهُ أمكانيات ذلك الريف، وكان لحكايات جدتي لأمي (هيا المحسن) قبل النوم، فوق سطح بيت الطين في المزرعة، والتي ينام بعضنا قبل نهايتها، فيستكمل بقيتها في الحلم، كان لهذه الحكايات، أكبر الأثر في تخلق مخيلتي الروائية، وعندما كبرت قليلًا حظيت بمصدر آخر وهو حلقات الرجال بعد صلاة العشاء في بطن الوادي (تركي)، وبُهرت بقدرة الحكائين على سكب تلك القصص من التراث وربطها بأبيات من الشعر النبطي العذب السائد في منطقة نجد، وكنت أبدو أكثرَهم انجذابًا بتلك الحكايات، لكوني ابنَ المدينة الذي حرمه التلفاز ولعب كرة القدم ووسائل الترفيه الأخرى من تلك القصص الرائعة، لكنها بقيت محفورة في الذاكرة عشرات السنوات، ولكن الأستاذ (علي) معلم التربية الفنية، أبقى تلك الجذوة مُشتعلة من خلال الحكايات التي يقصها على الطلاب في الحصة الثانية وبعد إكمال الطلاب للوحاتهم في الحصة الأولى، كان ينتقي لنا من روايات المنفلوطي، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم.. وغيرهم، ما يبهرنا ويجذبنا للروايات الحديثة.

وبعد سنوات تغير كل شيء، وصلت المدنية إلى قريتي ووصلت معها كل وسائل إفساد الحقبة الجميلة، واندمجتُ في الحياة كحال كل الشباب في جو من المنافسة التي تطلبها حياة المدينة، فصرفت معظم وقتي للتعليم الرسمي وللعمل بكل جِد، ومحاولة كسب المال لمواجهة متطلبات الحياة من بيت وزواج وأسرة.. وغيرها، ولم يبق لي إلا أوقات الإجازات ونهايات الأسبوع للقراءة، ولو بأقل مما يتمنى الإنسان، حتى أقبل سن التقاعد فبدأت أغيّر من نظام حياتي تدرجيًا، أخفض من ساعات العمل والارتباطات الرسمية، وأزيد من معدل ساعات القراءة والمشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصاً الفيسبوك، حتى وصل المعدل إلى قراءة مئة رواية سنويًا.

فاجأني أحد الأصدقاء الأعزاء قبل سنتين بطلب، أن أحرّر له نصًا روائيًا، ترددت في البداية ولكني قَبلت بتشجيع منه وبعض الزملاء، أديّت المهمة وكنت سعيداً بتدخلاتي وملاحظاتي وبعض الإضافات على النص، وصادف بداية مرحلة التقاعد رسمياً وبلوغي الستين عاماً هجرية، (58 عام ميلادي)، فقررت أن أكتب روايتي الأولى، وأن تكون مستوحاة من تلك القرية وذلك الوادي، وأن أُهديَها إلى أرواح الآباء والأجداد الطاهرة، الذين عاشوا تلك الفترة العصيبة (1900-1960 م) وما مرّوا به من الكوارث والعوز من تاريخ نجد ووسط الجزيرة، وأسميتها بالصريم (الليل الأسود الطويل)، فأستقرّ الرأي أن تكون المسافة الزمنية للحكاية في الخمسة عشر عاماً الأخيرة من تلك الحقبة وتعبر عن بداية النهاية لها .

التزمت أولاً بدورة تدريبية في كتابة الرواية في النادي الأدبي بالرياض، واستفدت كثيرًا منها وخصوصًا في أهمية تخطيط مسار الرواية، بدأت الكتابة في شهر يونيو (حزيران) 2019م وانتهيت من المسودة الأولى في 12أغسطس من العام نفسه، عرضتها على بعض أهل الاختصاص ومن لديهم خبرة في كتابة الرواية، أعجبهم النص كثيرًا وزودوني بعدة ملاحظات مهمة، عدلّت وغيرت ونقحّت، وشكرتهم على صنيعهم معي.

تبرع أحد الروائيين بعرض النص على دار نشر معروفة، وقام بدوره بعرض النص على مجموعة القراءة لديه، جاءت النتيجة بالموافقة على قَبوله، وتمّ توقيع العقد، وكان ذلك في الربع الرابع من سنة 2019م، على أن تكون الرواية جاهزة في الربع الأول من السنة اللاحقة 2020م، وقبل معرض الرياض للكِتاب ابريل 2020م، يتم خلال تلك الفترة إنجاز الفسح من الوزارة، والتدقيق اللغوي، وتصميم الغلاف.

ولكن تأتي الرياح بلا ما يشتهي الجميع، وبما لم يكن في الحسبان، تعرّض خلال تلك الفترة الناشر أبو فهد إلى عارض صحّيّ خطير، أدخله المستشفى، وأبعده عن العمل لعدة أشهر، ثم جاءت جائحة كورونا، فتقرر تأجيل معرض الرياض للكتاب إلى أجلٍ غير مسمى، فتجمد كل شيء.

مرت سنة 2020م، ووصلنا إلى الربع الثاني من سنة 2021م، كنت أكتفي برسائل الجوال إلى الناشر وتمنياتي له بالشفاء مع شعوري بالخجل لكوني لا أستطيع زيارته لبعد المسافة، لكونه مقيماً في مدينة الدمّام (400 كم من الرياض)، ومراعاة الاحتياطات الطبية لجائحة كورونا، رجع الناشر إلى عافيته ونشاطه ولله الحمد على سلامته، وبشرتنا وزارة الثقافة بعودة معرض الرياض للكتاب في أكتوبر 2021م، وبدأت مكائن الطباعة في الدوران والعمل.

انتهينا من تحرير الرواية لدى أحد الروائيين المميّزين، والذي سجل ما يقارب من مئتي ملاحظة، كادت تجلب لِيَ الإحباط، ولكنْ تمّ استيعابها بمساعدة الناشر وتجاوز تلك المرحلة بنجاح، وصلنا إلى غلاف للرواية، والذي تمنيت لو كان لوحة من التراث النجدي، لكن الناشر أصرّ على صورة وبرر ذلك بأسباب تسويقية.

بعد عيد الفطر المبارك خرجت الرواية إلى النور في يوم 8 يونيو 2021م، وتسلمت أول ثلاثين نسخة مجّانية من الدار، قمتّ بإهدائها إلى بعص الأصدقاء والأقارب، وكنت سعيداً بذلك بعد صبرٍ لامس حد اليأس، ولن أنسى ما حدث مع أخي عبدالرحمن الذي حاول الاعتذار عن قَبول الهدية بحجة أنه لا يحب قراءة الروايات وخلافها، واقترح أن أهُديَها إلى من يحب القراءة الأدبية، لكنني أصررتُ عليه، أن يحتفظ بها ربما يقرؤها أحد أبنائه، فكانت المفاجأة أن اتصل بي بعد يومين من استلامه الرواية، وأخبرني بأنه قرأها في يومٍ واحد، وهو الذي لم يقرأ رواية قبل ذلك، وذكر بأنه لم يتوقف عن القراءة إلا في أوقات الأكل والصلاة فقط، ولم يستطع النوم حتى أكملها، فكانت فرحتي لا توصف لسببين، أن الرواية جعلته يقرأ، والثاني أنها أدهشتّهُ كما وصف لي فلم يستطع تركها من يده طوال الوقت، وأخذ يناقشني ويذكر تلك المقاطع التي دمعت عيونه وهو يقرؤها، فشعرت بسعادة بالغة وأن حكايتي التي كتبتها وصلت بالشكل الذي تمنيت، وأحسست أنني أعيش أسعد لحظات حياتي، كمن آنسَ أطراف النجاح .

ـــــــــــــــــــــ

  • روائي من السعودية.
  • رواية الصريم صدرت عن دار أثر في السعودية 2021.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم