يا لها من طقوس، تلك التي طورناها لنعتاد مناسبة العزاء، نتجاور جالسين في مسيرة طويلة من التواضع. لا نرى الدفء، ولكن نشعر به، ونحن في حيرة تامة، إذ كيف يمكن للبداية والنهاية، أن تكونا شديدتي القرب هكذا؟! نتهامس لنؤكد لبعضنا، في تكاتف صامت، أن الحياة منطقية، وحقيقية، ولكنها هشة كحلم. كنت أقول هذا لنفسي، في عزاء لقريب وثيق الصلة بي. تراءى لي بوضوح شديد وقتها، كم كان لهذا الميت من فضل، وأثر تركه على الكثير من الحاضرين، إذ أخذ البعض يعدد مواقفه الخفية، التي لم يكن يعلم بها، إلا هذا الحاضر، وذاك الفقيد. بدت تلك المواقف طافية على سطح مياهنا الراكدة، وكأنما كان الفقيد أنقى من أن يعيش معنا في هذا المستنقع المسمى: العالم!

حينها خطر لي الجزء الذي بدأتُ منه كتابة "الأفق الأعلى"، ثم أصبح فيما بعد، مع توالي زحف الكتابة، في الربع الأخير منها:

"هل سيكونُ من الرّائع أن ينبعث صوتٌ من شقة السّيد سليمان، في منتصف الليل؟ صوتُ أغنية يتدرجُ إيقاعها، أو صرير باب يُغلق، أو نافذة تُطلق أزيزا خافتا، كأنما تُفتح على مهل؟ لعلة أرضيّة، لا تعنينا نحن سكّان السّماء، سيكون هذا مسرح رعب للبشر، إذ مهما تكن خسارة الأرواح مؤلمة، فلا أحد سيكون سعيدا، إذا وجد روحا رطبة أحبّها، وأبكاهُ فراقُها، عائدةً بعد دفنها، لتتجول في أماكنها التي ألفتها".

في ذلك المساء خطر ببالي أن أرى الأمر من زاوية أخرى، من زاوية الموت نفسه. هل هذه طبيعته الأصلية أم أنه بمنأى عن ذاته؟ هل يندم؟ أتمر عليه ليال مؤرقة؟ هل يرى أن موتنا هو عرسنا مع الأبدية؟ ومتى كانت آخر مرة قام فيها بشيء لأوّل مرّة منذ كُلّف بمهمته؟ وما الجزاء الذي يبتغيه؟

وهكذا تداعت الرواية على لسان ملاك الموت، مجيبا على كل أسئلتي، في طبيعة مرحة تخفي شيئا آخر، وهو يقودنا لنكتشف معه بأن البعض منا يموت ليعطي للحياة أهمية، ولندرك أن الطريقة الوحيدة التي نعيش بها، أهم من الطرق الكثيرة التي قد نموت بها، إذ أن الحياة بحد ذاتها، لا الموت، هي اللغز الذي يجب علينا حله.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم