عندما أتطرق إلى الحديث عن تجربتي الأولى في الكتابة الروائية وأول رواية تنشر لي "ضائعة في دهاليز الذاكرة"، الصادرة في عام 2014م، عن الدار للنشر والتوزيع، فإن ذكريات البدايات الأولى تحضرني ولا يمكنني فصلها عن أي من أعمالي الأدبية التالية؛ فالبدايات تعني التجارب الأولى التي تتراوح بين النجاح والإخفاق، لكنها جميعاً تكون مدفوعة بذلك الشغف الذي شكلته لدينا الموهبة الأدبية وأصقلته بدورها تلك القراءات التي تركت أصداء طيبة في الذاكرة.

عرفت طريقي مبكراً إلى عوالم القراءة الرحبة بسبب أمي التي حرصت على شراء واقتناء قصص الأطفال ومجلات الطفل لتقرأها لي في سنوات الطفولة الأولى، حتى قبل أن أتعلم القراءة والكتابة. وخلال المرحلة الابتدائية والإعدادية من دراستي بالمدرسة كانت المكتبة المدرسية هي ملاذي الأوحد، وعرفت حينها شغفي بالرواية أكثر من غيرها من الألوان الأدبية الأخرى، فقد كانت الرواية التي أستعيرها من المكتبة هي صديقتي المقربة التي ما أكاد أبدأ في قراءة سطورها الأولى حتى تجذبني كالمغناطيس لأستمر في قراءتها ولا أتخلى عنها حتى يسدل كاتبها الستار على آخر فصولها.

أتذكر أنني كنت مولعة في تلك الفترة من حياتي بالروايات العالمية المترجمة وخاصة أعمال كاتب الرعب الأميركي "ستيفن كينج" والكاتبة "أجاثا كريستي" والكاتب "راي برادبوري" والكاتبة "بيرل بك"، وروايات الراحل "أحمد خالد توفيق"، والروائي "نبيل فاروق"، وحين صرت أكبر عمراً تعرفت بعوالم "نجيب محفوظ" و"يوسف السباعي"، وقرأت عشرات الأعمال لروائيين مصريين وعرب معاصرين.

لكن الإرهاصات الأولى للكتابة الأدبية بالنسبة لي جائت في عمر صغير، حين كنت في الثامنة من عمري وكتبت أربعة نصوص، تندرج تحت القصص القصيرة للطفل، ورغم سذاجتها الطفولية إلاّ أنها تمثل لي ذكرى طيبة لا أزال أحتفظ بها بين أوراقي، وأذكر أنني حين كتبتها بخط فوضوي ودعمتها برسوم طفولية بالحبر الأزرق والألوان، أخبرت أمي أنني أريد أن أصير كاتبة عندما أكبُر.

وطيلة سنوات المراهقة كان يراودني حلم كتابة رواية، فكتبت بضع صفحات لمسودات روايات لم تكتمل وسرعان ما فقدت شغفي تجاهها، فلم تكن قدرتي على ولوج عالم الكتابة الروائية قد اكتملت في ذلك العمر الصغير، لكني أذكر أنني في الإجازة الصيفية التي أعقبت عامي الأول بالمرحلة الثانوية قد كتبت نوفيلا اجتماعية رومانسية صغيرة أسميتها "عشاق إلى الأبد"، وكانت لغتها بسيطة تخلو من جماليات اللغة وحبكتها لم تكن عميقة كافية لترقى إلى النشر فهي لم تكن أكثر من محاولات قلم يرتعش في خطواته الأولى على درب الكتابة. وحتى وصلت إلى المرحلة الجامعية وبلغت العشرين من عمري كانت لي أربع نوفيلات غير منشورة تتراوح بين الرومانسي والاجتماعي، وجميعهن لم يكنّ في نظري سوى محاولات لا أكثر وتجارب كتابية ممتعة في ذلك العمر المبكر.

وذات ليلة صيفية من العام 2010 روادتني رغبة قوية في الكتابة، فما إن أمسكت بقلمي وخططت به على أوراقي حتى تدفقت كلمات بلغة شاعرية عذبة كانت مفتتح روايتي الأولى المنشورة "ضائعة في دهاليز الذاكرة" لكن القلم ساقني هذه المرة لمغامرة أدبية لم أكن أتوقع خوضها في ذلك اليوم، وهي كتابة الرواية البوليسية، وقد استغرق مخاض هذه الرواية عاماً كاملاً حتى انتهيت من مسودتها الأولى.

وفي صيف العام 2011م تعرفت بالروائي المصري الراحل "مكاوي سعيد"، وعرضت عليه مسودة روايتي التي نالت استحسانه، وقام بتزكيتي لنشر العمل الأول لي لدى دار الدار، لكن الرواية تأخر صدورها وخرجت إلى النور في عام 2014.

وحظيت الرواية لدى صدورها باستحسان عدد من الأدباء والنقاد الذين أكدوا أنها خلت من كثير من أخطاء وزلات العمل الأول، وكانت المبدعة الراحلة "ابتهال سالم" على رأس من أشادوا بي وقدموا لي دعماً معنوياً. وقالت الناقدة الدكتورة فاتن حسين، في قراءة لها حول الرواية: "اعتمدت الكاتبة في السرد على إسلوب الرواي الذي يتكلم تارة بضمير المتكلم وتارة بضمير الغائب وليس ذلك سهواً منها بل عن قصد؛ فالبطلة تروي الأحداث من وجهة نظرها، وبهذا قدمت الكاتبة تقنيتين جيدتين للسرد تضمن قدرا من الموضوعية أولا وهذا يكفله السرد بضمير الغائب، وفي الوقت نفسه تنقل القاريء لقلب الحدث مباشرة وتكشف له عن عقل البطلة ومشاعرها فيحياها مع أشخاصها، وهي تقنية رائعة جدا وتغيير موضع الراوي هنا يشير لتغيير الرؤى التي تروى منها الأحداث؛ وهي تقنية استخدمها نجيب محفوظ في روايته "اللص والكلاب". هناك لعبة فنية في "ضائعة في دهاليز الذاكرة" تدل على ميلاد كاتبة حقيقية، يتماهى فيها المتخيل والواقع والماضي بالحاضر، وتسير الرواية في عدة خطوط" .

وقال عنها الناقد والشاعر عمر شهريار: "الكاتبة وضعت قواعد للعبة بوليسية وإن كانت في بدايتها احتوت على محاولة للتحليل النفسي وأشارت صفحاتها الأولى إلى أننا أمام نص عميق جدا يتناول طبقات وعي بطلتها وذاكرتها وما يدور داخل النفس البشرية.

وأضاف شهريار: أن اللغة لدى "آية ياسر" جميلة وممتعة جدا، وأن الصياغة الشكلية للجملة في روايتها مفعمة بالمعاني؛ إلا أن هناك مصطلحات قليلة عالقة بذاكرتها تنتمي إلى الكلاسيكيات الأدبية.

وبعد عامين من صدور روايتي الثانية "همس الأبواب"، وانتهائي من كتابة المجموعة القصصية تحت الطبع "صرخات مكتومة"، كتاب الأطفال تحت الطبع "متى سأكبر وقصص آخرى للصغار"، وبينما أشارف على الانتهاء من كتابة ثالث رواية لي "ذكريات الأمكنة"، أقول إن التجربة الأولى اختلفت كثيراً عن الأعمال التالية سواء المنشورة منها وغير المنشورة، من حيث النضج الأدبي والعمق والتنوع والجراءة في تناول القضايا وتجريب ألوان أدبية جديدة، بفارق العمر وتراكم الخبرات الأدبية التي أصقلها العمل كمحررة ثقافية منذ تسع سنوات إلى جانب القراءات والتعرف على تجارب الكثير من المبدعين العرب والكرد والأجانب.

  • كاتبة ورائية مصرية  آخر ماصدر لها رواية "همس الأبواب" عن الدار للنشر والتوزيع.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم