روايتي الأولى.. آلامي ومأساتي في الغربة
ترددت كثيراً في كتابة السيرة الروائية "المصير" بسبب ما تحمله سيرتي من معاناة لم أكن مستعداً لاستعادة ذكرياتها الأليمة. لم أعرف كيف بدأتُ ولا كيف انتهيت من سردها، حتى وجدتني أسلّم الملف لإحدى دور النشر لنشرها.
كان سيناريست عراقيّ كبير في البصرة أحد أسباب إطلاق روايتي، وذلك بعد أن وعدني بأنه سيتصل بمخرج عراقي مقيم في هولندا ليتفقا معاً على تحويل الكتاب إلى عمل سينمائي موجه إلى الشباب الذين يحلمون بالهجرة والحياة السعيدة في أوروبا.. وبالتالي يقعون ضحايا المهربين وقصصهم الواهية في تصوير أوروبا جنة للمغتربين، بمجرد وصولهم الى أوروبا حتى يُصدموا بحقائق مُرّة تناقض ما كان المهربون يصورونها لضحاياهم.
انتشر الكتاب في المكتبات الإلكترونية بشكل سريع، ولكن للأسف وبسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، لم يتم تحويله الى فيلم سينمائي كما كنا نخطط له.
أتذكر من ضمن آراء القراء التي وصلتني، رأي شابة من محافظة النجف كتبت لي "أستاذ رياض، للتو أتممت قراءة كتابك المصير، وأنا أشعر بفرح عارم لرؤيتي لصورك وأنت تقيم في بلدك المنشود، مقالات هذا الكتاب كانت مثل صعقة كهربائية أحيت أهدافي التي بدأت تتلاشى تدريجياً فشكراً لك".
في الواقع كنت سعيداً وأنا أقرأ مشاعر القراء بعد انتهائهم من قراءة الكتاب.. حيث أن القسم الأكبر كان مندهشاً "أستطيع أن أقول مغامراتي" في إيران والقسم الآخر أعجبه الهدف الذي خططت لأجله قبل دخولي دورة معهد ضباط الأمن العالي عام 2000، والزمن الذي كان يفصلني حينها عن الدورة هي عدة شهور، لم يغرني المنصب الجديد الذي سأصل إليه بعد عناء دراسة وتعب، بل كان هدفي اكبر من ذلك بكثير.
فالكثير منا يفكر بيأس كيف يخطط لحياته، وعندما يصل إلى مرحلة التنفيذ يتوقف لديه روح المثابرة والتخطيط لحياة أفضل، متعذراً بقلة الحيلة أو المال أو الظروف. أمّا أنا فعندما بدأت بوضع أول حجر أساس لأحلامي وطموحاتي لم أكن أملك حينها سوى 25 جنيهاً يكاد أن يتمزق من رداءة طبعه - الطبعة المحلية التي غزت الأسواق حينها في فترة الحصار الاقتصادي على العراق - فقررت أن أبيع مسدسي الشخصي الذي كنت أملكه بحكم عملي بمجرد وصولي إلى كردستان العراق.
لم يستطع اليأس من أن يسيطر على أحلامي طوال مسيرة انتقالي من دولة إلى أخرى، فقد كنت متسلحاً بإيمان فكري، وهو أن الوصول إلى هدفٍ ما يحتاج إلى عزيمة أستمدها من قوة إيماني من أجل القضية أو الحلم الذي أريد الوصول إليه. كنت أسعى دائماً أن أكون كاتباً أو صحفياً وأن تستضيفني القنوات أو الإذاعات أو الصُحف، وأتكلم وأكتب بكل حرية، بالرغم من أنّ موضوع هروبي من العراق كاد ان يكلف حياتي والتهمة هي "الخيانة العظمى للبلد" بحكم وظيفتي الأمنية التي كنت أشغلها وقتذاك في شعبة الإعلام والتنسيق السياسي.
كنت وأنا في أول أيامي من دخولي إلى إيران أعتزم كتابة كتاب يُخلّد وتقرؤه اجيال من بعدي، بدأت أفكر فيه بشكل جنوني، أشرح فيه كلّ الصعوبات التي واجهتها وأنا أجتاز الحدود بين الدول، وأنا أرى أناساً كنت برفقتهم في الطريق قد يئسوا وقرروا الرجوع بسبب الخوف والرعب، ومن أهوال ما شاهدوه من ضربٍ وقتلٍ وخيانات، كان يصادفنا في الطريق ونحن نتوجه تهريباً نحو دولة أخرى مشياً على الأقدام.
وكان أغلب الأصدقاء الذين تعرفتُ عليهم في الطريق من الأكراد، فكيف أنساهم وهم أول من تلقوني على حدود كردستان بصدرٍ رحب وابتسامات كانت تحتل وجوههم. تعلمت منهم القوة والابتسامة حتى وأنا في أصعب الأيام، زادوا في داخلي الشجاعة من خلال مواقفهم الرجولية ونحن في السجون الإيرانية والتركية تحت رحمة الجلّادين، حينها قلتُ مباركاً لهم في داخلي "هنيئاً لكم كردستان".. أنقذوني من الموت مرات ومرات، ولم أنسَ أن أذكر مواقفهم الرجولية معي في كتاب "المصير".
أستطيع أن أقول بأن "المصير" هو عصارة ونتيجة خبراتي مع الحياة جمعت في طياتها كلّ شيء، جمعت فيه الخير والشر، وكيف أن الخير يتغلب على نظيره الشرّ إذا ما عزم الإنسان على مواصلة مسيرته للوصول الى مايطمح إليه.
لم أنسَ أن أذكر الحب الحقيقي وأنا في سنّ الـ22 عندما التقيت بفتاة سورية من حلب في البصرة.. نقشت اسمها واسمي على حائط السجن بملعقة الأكل التي كانت معي - كانت تخصص لكل سجين - بيت الشعر الذي كنا نتغنى به سوية في رسائلنا البريدية، تمعنتُ به كثيراً وأنا امسح الغبار عن مانقشته على الحائط الذي تم طلاؤه حديثاً .
ولن أنسى أبداً عندما دخل علي السجّان في سجن "دربندخان" في كردستان العراق، وترجم بيت الشعر بطريقة كدت أفقد بها حياتي.. فقد اعتقد بأن النيران التي أكتوي بها هي نتيجة لجوئي إلى حكومة إقليم كردستان العراق، وأنني أعاني من الظلم والاضطهاد داخل السجن. والحقيقة تُقال، فأنا في الأيام التي كنت سجيناً عندهم تلقيت معاملة رائعة لم أرها في أي دولة أخرى في العالم - عدا بريطانيا - كدت أتمنى لو أنني أكون نزيلاً دائما عندهم..!
كتبتُ آلامي ومأساتي في الغربة، ولحظات الفرح والسرور، وان كانت قليلة ولكنها كانت لذيذة.. لا أعرف لماذا كانت الحياة في فترة التسعينيات، رغم مساوئها، أحلى بكثير من عصر التكنولوجيا الذي نعاني بسببه من فقدان كلّ مشاعر الحب الحقيقي.. فالرسائل البريدية التي كان ساعي البريد يوصلها إلينا تحمل في طياتها أروع المشاعر المكتوبة بخط اليد وأحياناً تصلنا الرسالة معطرة، وربما بداخلها وردة حمراء تعبر عن مدى لهفة الحبيبة أو الحبيب إلى المرسل إليه أو إليها.
تلك كانت حكايتي باختصار مع "المصير – مذكرات مواطن عراقي".
- روائي عراقي مقيم في لندن.
الرواية نت
0 تعليقات