عندما تكون الكتابة نوعاً من النزف، فإنّ جزءاً منك يتساقط على البياض في أوراقك، وتصبح شاهدا على بقعة دمك وهي تتمدّد على اتّساع وطن غدا حدوده الشهداء والفاجعة. انتقلت من الشعر إلى الرواية، بعد أن صدر لي ديواني الأوّل" الآفلون" عن داربيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 2010م، ثمة أصوات متعدّدة تصرخ داخلي، لم يستطع الشعر أن يصادرها، أو يسكتها، فكانت روايتي الأولى" بيلان" الصادرة عن دار بيسان أيضا، بيروت، 2011م . الرواية حياة ممتدّة، نهر تتجمّع فيه ينابيع متعدّدة، كنت متردّداً، بل خائفاً من أن يطغى علي ولع الشاعر باللغة؛ ليحول دون وصول روايتي لرؤيتي لفنّ الرواية، إذ أراه بحثاً اجتماعياً وسياسياً، وإزميلاً يحفر أبعد من السطح؛ ليصل للنواة الصلبة في حياتنا، إضافة للعبة اللغة والفنّ، وأكثر ما كان يرعبني سقوط الكثير ممّن هرعوا للرواية على أنها بضاعة رائجة في أيامنا هذه، لتتحوّل أعمالهم إلى ركام إنشائيّ، وألاعيب لغوية بائسة غالبا، ولا بأس من البهارات من مثل الإيحاءات الجنسية المجانية، أو شتم الأديان لمجرد استجلاب الإعجاب من هيئة جائزة، أو كتبَة النقد المدفوع الأجر كبطاقات الهاتف الجوال مسبق الدفع! وأسارع للقول إنني لا أمانع أن يتناول الروائيّ أي موضوع دون اعتبار لأيّ "تابوه" ، لكن شرط أن يأتي ذلك ضمن خطّة العمل وسياقاته الفنية وبتواشج تام مع خيوط الرواية، وليس لغايات تسويقية وشعبوية. ولم تسلم من هذا أسماء كبيرة في هذا الفن. (لا رغبة لي في معارك هامشية مع أبطالها ومريديها). العمل الروائيّ الأوّل يشكّل ضغطاً على الروائيّ، فالحمولة الكبيرة التي ينوء تحتها تفرض نفسها عليه، خبراته، المكان الذي ينتمي إليه، ثقافته، الاتّجاه السياسيّ، الإيدولوجيا التي يعتقدها، وأنا لست بدعاً في هذا، فأنا من منطقة الفرات السورية، تلك المنطقة التي ابتلعها النهر بعد إنشاء سدّ الطبقة، موت تلك الأرض وغرقها في أعماق البحيرة شكّل صدمة لوعيي، لم أستطع التصالح معها حتى الآن، أن تغرق ذاكرتك، وكلّ تلك الدروب التي مشيتها حافياً، أمر لم أتمكّن من فهمه، أن ينقل أهلي إلى أرض ليست لهم، أن يعاملوا كبيادق في رقعة شطرنج طائفية، لغايات شوفينية، فنقل أبناء منطقة الغمر للجزيرة (الحسكة والقامشلي) في لعبة بعثية قذرة، لا أستطيع نسيان صوت والدي – يرحمه الله – وهو يقول: "لن أسكن في بيت وأرض منهوبين مغصوبين"، ونتيجة ذلك أنّنا انتقلنا إلى الرقة المدينة فعشنا على هامشها في أحياء الفقراء دون كهرباء مدّة من الزمن، متنازلين عن بيت الحكومة وقطعة أرضها في "الحزام العربي" هكذا كان يعرف! ومع الفقر والقهر يصرُّ الحاج رحوم (والدي) أنَّه سعيد ومرتاح الضمير! شهدت وأنا في المرحلة المتوسّطة انقلاب الأسد الأب، وخرجت مع طلاب الإعدادية وبإشراف مدرّسينا للتظاهر ضدّ الانقلاب الفاشستي، ثم أُخرجنا بعد ذلك بيومين "لمسيرة" تأييد لما صار يعرف بـ"الحركة التصحيحية" ، ومن يومها بتّ أكره مادة "سار" وأحذفها من المعجم مستعملاً البدائل المتاحة، ولله في خلقه شؤون! كلّ تلك الذاكرة التي تضجُّ بالأحداث سالت في مجرى روايتي التي وسمتها بـ(بيلان)؛ بيلان ذلك الشارع الفسيح في قريتي "كسرة مريبط" التي كانت تنام على صدر النهر، وبيلان ذلك الممرّ الإجباريّ في جبالنا الغربية الذي انطلقت منه قوى الاحتلال وجيوش المدافعين أيضاً. الوجود الروسيّ في موقع السدّ والتفاعل بين العرب والروس فكرياً وثقافياً، هو الآخر لم يمكن لي تجاوزه، الماركسية والمراجعات والصعود والهبوط محلياً وعالمياً شكّل خلفية للصورة، إنّه الموسيقى التصويرية للعمل، ذلك الفشل الذريع للدولة "الوطنية" بعد الاستقلال التي لم تستطع بناء مواطنة حقيقية، بل باتت تغذُّ الخطا نحو الديكتاتورية والنظام الشموليّ، الطائفية التي لا تخفي نفسها، تغلغل الفساد، تحوّل البعث إلى مصنع الخراب الفكريّ، والعطب الثقافي في حياتنا، السقوط المتسارع نحو بناء الدولة الأمنية، كلّ هذه الخلطة السَّامة شكّلت مادة لنسج روايتي الأولى"بيلان". ولعي بالمادة البصرية وذاكرتي الملونة، طغى على نسيج الرواية التي أحسب أنها جاءت أقرب للسيناريو السينمائي المكثف من العمل الروائي التقليدي، أسعدتني هذه اللعبة، لأنّها أبعدت عني خطر السقوط في الإنشاء وألاعيب اللغة التي لا تسهم في بناء العمق الذي أرومه لشخصيات روايتي؛ فهم كل أولئك الطيبين الذين أردت أن أبرز صوتهم، ولم أحاول تجميلهم مطلقاً، هم ضحايا سياسات الحزب الواحد والقائد الفذ والعقم العقائديّ. أنت ترى مجتمعاً يتم تحطيمه، وبلداً تتهشّم أركانه، وتحاول الكتابة؛ لتصنع معادلاً فنياً للكارثة، لذا تتوقّع لأصابعك أن تحترق! دراستي للغة العربية وعلم النفس السريريّ شكّلا سلاحاً ذا حدّين بالنسبة لي، لم أشأ أن أكون إلا روائياً، كما كان يقول ميلان كونديرا في كتابه" الوصايا المغدورة"، عندما تسألني: هل أنت يساري أم يميني، أجيب أنا روائيّ، هل أنت... الإجابة دائماً: "أنا روائي". أي أردت أن أكون روائياً وحسب، ولكنّني استثمرت اختصاصي في روايتي، وأحيانا من دون وعي وتخطيط مسبقين، لم أستطع تجنّب ذلك. لا أنكر أنّني أعدت كتابة النصّ مرّات عدة، استنزفت مني الكثير من الوقت والجهد والدموع أحياناً، فأنا أحبُّ شخوصي وأتعاطف معهم، ولا أقسو عليهم، وأبتعد عن الحكم عليهم، فلست قاضياً على كلّ حال، لا أشبه أحداً منهم، وأشبههم جميعا بأوزارهم وحسناتهم، ففيهم اللصوص والشعراء والهامشيّون وأهل السلطة، لا أتبرّأ من أي منهم، فأنا المسؤول تماماً عنهم. قبل أن أدفع بروايتي "بيلان" للمطبعة؛ لتصدر عن دار "بيسان" ثم لتصل في السَّنة التالية للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2012م، قرّرت إهداءها لأهلي، وكان الإهداء حفرة حزن أخرى وقع قلبي فيها، هي أشبه بنار اكتويت بها، فكيف أهدي روايتي لأهلٍ أمّيين، لا يحسنون القراءة والكتابة؟! ربما يشتمون حريق ذاكرتي من خلال أوراقها! وفي ذلك بعض العزاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة ذاتية موجزة:
د موسى رحوم عباس؛ شاعر وروائيّ سوريّ حاصل على دكتوراه الفلسفة في علم النفس العيادي ( السريري)، وحاصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، جامعة حلب. صدر له: 1- الآفلون ، شعر ، دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام ،بيروت، 2010م.
2- بيلان ، رواية ، دار بيسان للنشر والتوزيع والإعلام ، بيروت ، 2011م وقد أدرجت على القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب ، دورة العام 2012م 3- الوسواس القهري ، ماهيته، أسبابه ، علاجه ، بالاشتراك ، دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان ، 2012م . 4 - اضطراب ما بعد الصدمة، دليل إجرائي للتعامل مع ضحايا الحرب، مركز دمشق للدراسات، 2012م. 5 – فبصرك اليوم حديد، شعر، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2014م. 6 – بروق على ثقوب سوداء، قصص، دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان، 2015م

باللغة الإنكليزية: قرنفل أبيض، قصص قصيرة جدا، كون للنشر ، سياتل، الولايات المتحدة الأمريكية 2017 – White Carnation ,Cune press, Seattle, USA,2017
ترجمة الأستاذ الدكتور موسى الحالول ، أستاذ الأدب المقارن في جامعة الطائف، والأستاذ الدكتور سناء الظاهر، عميدة كلية الآداب في جامعة عفت ( جدة) .

E.MAIL: mousa_abbas@yahoo.com

الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم